ماليزيا - مهاتير... إجابة عن سؤال محوري سليمان إبراهيم العسكري

ماليزيا - مهاتير... إجابة عن سؤال محوري

نواصل الرحيل شرقًا بحثًا عن تجارب مغايرة وعن إجابات مختلفة لقضايانا المحيرة في التنمية والتقدم وفي توافق المجتمعات الإسلامية مع التحديات المعاصرة. ولعل ماليزيا وتجربتها الطويلة تحت قيادة مهاتير محمد تعطي لنا بعضًا من الإجابات التي نبحث عنها.

  • إن العولمة مفهوم طبّقته واستخدمته الدول القوية لاستباحة اقتصادات الدول النامية
  • التوفيق بين استيعاب التكنولوجيا والعلم الغربيين وتطويرهما والتطور بهما في إطار القيم الإسلامية كان الجوهر الفكري لإنجاز مهاتير
  • من الضروري أن يتذكر المسلمون أن الثورة الصناعية قد فاتتهم تمامًا
  • في مجتمع تعددي كماليزيا لم يسع مهاتير إلى بناء دولة دينية, بل اهتم ببناء دولة حديثة تحرص على التمسك بالأهداف العامة للإسلام
  • عالمنا العربي والإسلامي في حاجة إلى أطباء فكر وسياسة لعلاج جذور المرض فيه قبل أي حديث عن النهضة والانطلاق

في مواجهة حالات الإخفاق المتكررة للدول الإسلامية في إنجاز مشروع معاصر للتنمية يعتد به - حتى بين الكثير من دول العالم الثالث - برز سؤال عن العلاقة بين الإسلام والتنمية, وانبرت أقلام كثيرة تقدم إجابات في كل اتجاه, بعضها كان موضوعيًا, وأغلبها كان مغرقًا في التنظير, وجميعها لم يكن إلا مجادلات نظرية بعيدة عن تلمس أرض الواقع, لكن ركنا قصيًا من العالم الإسلامي آثر أن تكون إجابته نموذجًا عمليًا ملموسًا, وقد ارتبطت هذه الإجابة باسم رجل صار قرينًا لها.

المراقب لكثير من أحوال بلدان العالمين العربي والإسلامي يلمس أن هناك أمراضًا سياسية واجتماعية - ذات جذور فكرية - تعطّل انطلاق هذه البلدان, وتحد من حركتها عن اللحاق بركب العالم المتجدد, لا أقول المتقدم, بل حتى ما يسمى بالعالم الثالث الذي نهضت الكثير من أممه, وصارت توصف بالنمور الآسيوية, ناهيك عن العملاق الصيني, والمفاجأة الهندية. هذا الوضع يوحي بأن المطلوب لكثير من بلدان العالمين العربي والإسلامي هو أطباء معالجون - بأدوات السياسة والفكر - يجتثون هذا المرض ويصفون لأممهم سبل الشفاء والصحة. أقول هذا وأنا أزمع الحديث عن التجربة الماليزية, ودور قائدها مهاتير محمد في إنجازها, فمهاتير على المستويين الشخصي والعام لم يكن إلا طبيبًا, درس وزاول مهنة الطب, وهو عبر السياسة والحكم طبيب أيضًا, في الأولى عالج آلام وأمراض الجسد البشري لكثيرين من أبناء بلده, وفي الثانية عالج آلام وأمراض شعب وأمة, وأخرج أمته ذات الأعراق المتعددة من معاناة الفقر والتخلف, وأطلق طاقاتها المعطلة لتنعم بالعافية وسط الأمم الناهضة, وهي مأثرة رجل وأمّة أنجبته تقدم لنا - نحن العرب والمسلمين - فرصة حقيقية في الأمل بأن ننهض وننجز مشروعًا تنمويًا ينتشل واقعنا المريض من مهانة التردي. ومن ثم صار واجبًا تجاه أنفسنا أن نعيد تدارس هذه التجربة الماليزية الإسلامية في ضوء رؤى الرجل الذي نهض بها.

أصغر إخوته التسعة

وُلد مهاتير محمد في 20 ديسمبر 1925 في مدينة آلون بولاية قدح شمال ماليزيا, وكان الأصغر بين إخوته التسعة لأسرة من طائفة الملاي التي تشكّل الأغلبية المسلمة, والأكثر فقرًا وتخلّفًا في هذا البلد الشرق آسيوي, الذي كان متخلّفًا وفقيرًا بدوره.

تلقى تعليمه قبل الجامعي في مدرسة السلطان عبدالحميد في آلون, ثم التحق بكلية الملك إدوارد السابع الطبية في سنغافورة, وبعد ذلك تزوج زميلته الطبيبة سيتي حسنة وعاد إلى بلده ليمارس الطب في مسقط رأسه, وكانت عيادته هي أول عيادة تشهدها المدينة!

لم يكن الاهتمام بالسياسة اكتشافًا متأخرًا بالنسبة لمهاتير, فقد مارسها منذ سن مبكرة عضوا في بعض الاتحادات الطلابية والشبابية, مما يقطع بأن الرؤية العامة لديه كانت حاضرة منذ البداية, وأنه كان طبيبًا يدرك أن معالجة أمراض الإنسان تحتّم معالجة أمراض محيطه, الاجتماعية والسياسية في آن واحد, والتي يتمخض عنها كل الآفات التي تصيب المجتمع وتنعكس سلبًا على أفراده. من هنا, بدأ صعود مهاتير محمد السياسي الذي انتخب وهو يمارس الطب في بلدته عضوا في البرلمان عام 1964 نائبًا عن دائرته لمدة خمس سنوات, واشتُهر بدفاعه البرلماني المتواصل عن أبناء طائفته من الملايا في إطار من الرؤية القومية, حتى أنه اتُهم بالتطرّف من حكومة تنكو عبدالرحمن, وهزم في الانتخابات البرلمانية التالية عام 1969 أمام مرشح الحزب الإسلامي الماليزي, وتم فصله من حزب الآمنو نتيجة مهاجمته لسياسات تنكو عبدالرحمن, لكن هذا ضاعف من شعبيته باعتباره سياسيًا جريئًا ونزيهًا, مما أعاده إلى البرلمان في الانتخابات التالية عام 1974, واختياره وزيرًا للتعليم, حيث طبق رؤيته حول ما أطلق عليه (السياسة التعليمية الجديدة), التي أثمرت بشكل واضح, خاصة في الارتقاء بتعليم أبناء الفئات الأكثر حرمانًا وفقرًا في بلاده. بعد ذلك صار نائبًا لرئيس الوزراء حسن أون, وتولى وزارة الصناعة والتجارة, وارتقى أيضًا بأدائها. وكان أداؤه ونزاهته السياسية ما رجّح فوزه الساحق على مرشح الحزب الإسلامي الماليزي في الانتخابات النيابية عام 1978. وفي 16 يونيو 1981 أصبح مهاتير محمد رئيسًا لوزراء ماليزيا, وظل يشغل هذا المنصب عبر انتخابات برلمانية حرّة حتى أعلن تنحّيه الطوعي عن الحكم عام 2001, ضاربًا المثل بين حكام العالم الثالث ومختتما تجربته بمأثرة أخلاقية لم يقدم عليها إلا القليل النادر من قادة العالم الثالث.

من الواقع, نحو الشرق

(إذا استطاعت آسيا أن تتمكن من المهارات الصناعية للغرب, وتحتفظ في الوقت نفسه بقيمها الثقافية, فإنها ستكون في موقع يسمح لها ببناء حضارة أعظم من أي حضارة عبر التاريخ), هذا ما كتبه مهاتير في كتابه (صوت آسيا), وهو قول ينطبق على السياق الماليزي, ففي هذا السياق يشكل الإسلام القيمة الثقافية للأغلبية في مجتمعه, فإذا استطاعت ماليزيا أن توفق بين استيعاب التكنولوجيا الغربية وتطويرها في إطار الاحتفاظ بالقيم الثقافية الإسلامية, فإنها تكون قد حققت نموذجًا طيبًا للتنمية.

ويمكن القول إن التصور الذي قدمه مهاتير يدور حول فكرة محورية مؤداها أن نقطة البدء في عملية التنمية ينبغي أن تكون هي الانطلاق من واقع المجتمع الماليزي مع الانفتاح على كل الأقطار والثقافات والسياسات التي يمكن أن تفيد هذا المجتمع. ويُعد الإسلام أحد مكونات واقع المجتمع الماليزي وأحد التيارات التي ينبغي الاستفادة منها في تنمية هذا المجتمع, ولكنه بالقطع ليس العنصرالوحيد, ولهذا نلاحظ أن حكومة ماليزيا لم تطرح بشكل محدد شعار (أسلمة المجتمع الماليزي), أو بناء دولة إسلامية في ماليزيا, وإن كان مهاتير محمد قد استعمل أحيانًا مصطلح (الحكومة الإسلامية الماليزية), للإشارة إلى حكومته, لكنه بالتأكيد لا يعني مفهوم (الحكومة الإسلامية لدى أبو الأعلى المودودي في الهند).

وفي السياق الماليزي يركز مهاتير على أن الإسلام هو إطار مرجعي عام للتنمية, ومن ثم فإن الحلول الواجبة لبلوغ نموذج تنموي ناجح يجب ألا تتعارض مع المقاصد العامة للإسلام, ولكنها أيضا ينبغي أن تتلاءم مع معطيات الواقع العالمي والإسلامي. ولعل أول تلك الحلول هو استيعاب التكنولوجيا الحديثة. فقد كان رفض تلك التكنولوجيا لحقبة طويلة في تاريخ المسلمين, كما يقول مهاتير محمد, أحد أسباب تأخرهم.

ما دور الإسلام في هذا كله? يعتقد مهاتير أنه ينبغي على المسلمين التمسّك بالإسلام, والنهوض من خلاله, ولكن هذا التمسك ينبغي أن يكون بالأهداف والقيم العامة للإسلام, وليس بنموذج معين أو تفسير بشري وحيد وجامد للدين. ومن ثم فإن التمسك بالإسلام يعني السعي لتحقيق أهدافه من خلال آليات لا تتعارض معه, ويشمل ذلك الاستفادة من القيم الروحية والأخلاقية لدى الشعوب الأخرى, وفي مقدمتها الشعوب الشرق آسيوية, ومن أهم تلك القيم أخلاقيات العمل الآسيوية, التي تقوم على العمل الجماعي والانضباط الصارم, وبالتالي فإن مهاتير لم يتحدث عن بناء دولة إسلامية في ماليزيا, فهذه الدولة لم تكن تتفق ومعطيات التعدد العرقي والديني والثقافي في بلاده, ولكنه تحدث عن بناء دولة حديثة تحقق الأهداف العامة للإسلام, وتجيد العيش مع الآخرين. (فالطريق الصحيح للإسلام هو العيش معًا بسلام بين شعوب مختلف الديانات), ولهذا لم يجد مهاتير حرجًا في الدعوة إلى (الاتجاه شرقًا), أي الاستفادة من تجارب الدول الشرق آسيوية كاليابان وكوريا الجنوبية. فهذه التجارب بتركيزها على قيم وأخلاقيات العمل الجاد تحقق الأهداف العامة للإسلام. بعبارة أخرى, فإن القيادة الماليزية المهاتيرية ركّزت على التنمية المتفقة مع الأهداف العامة للإسلام, أكثر من تركيزها على (مفهوم إسلامي) للتنمية. ولذلك نلاحظ أن (رؤية 2020) التي قدمها مهاتير محمد لمستقبل ماليزيا في العام 1991 تشير إلى بناء الدولة الإسلامية حتى عام 2020م على أسس عصرية, بيد أن الخطاب السياسي لهذه الرؤية عندما سعى إلى التطبيق أعطى وزنًا أكبر للبعد الإسلامي في التنمية, ومن ذلك إنشاء البنك الإسلامي وشركات التأمين الإسلامية وغيرها من مؤسسات. كيف نفسر هذا التفاوت? يمكن تفسيره في أن قيادة مهاتير الماليزية سعت إلى التكيّف مع التوجهات الإسلامية لدى الملاي والحركات الإسلامية التي تعبّر عن فكر بعض عناصرهم. وإذا كانت النخبة الماليزية قد تبنّت بعض شعارات التيار الإسلامي في إطار عملية التوفيق والمواءمة, فإنها حرصت على أن يتم ذلك في إطار سلطة الدولة, وألا تكون عملية التوفيق على حساب التيارات العرقية الأخرى.

ولهذا فإنه عندما زاد نفوذ (حركة دار الأرقم) الإسلامية في مجال بناء قرى إسلامية مستقلة لأبنائها يتم فيها تطبيق مبادئ الدولة الإسلامية بالشكل الانعزالي الذي تتصوّره الحركة, ويخلق فُرقة وتنافرًا بين أطراف المجتمع, بل انعزالاً عدائيًا ضد بقية عناصر الأمة, قامت حكومة مهاتير بالحصول على فتوى شرعية حظرت من خلالها أنشطة هذه الحركة.

مسلمون في مجتمع تعددي

لقد واجه النظام السياسي الماليزي, منذ وقت مبكر, معضلة العلاقة بين الدين والدولة, ذلك أن التعدد العرقي للمجتمع تطلب منذ البداية بناء نظام سياسي يقوم على التعاون بين مختلف الأعراق. ولقد مثل حكم مهاتير منذ 1981 نقلة نوعية في تناول قضية الإسلام والتنمية في ماليزيا. فقبل وصوله إلى السلطة, كان مهاتير يميل إلى فكر تنكو عبدالرحمن, فقد كان متأثرا بالنموذج الصيني للعمل المنضبط, وهو النموذج الذي شاع في شرقي آسيا, وكان مهاتير يفسر التخلف النسبي للملايا في ضوء خصائصهم العرقية الكامنة, ودعا مسلمي ماليزيا إلى تعلم الكفاءة الصينية, واعتبر تلك الكفاءة بمنزلة النموذج الأمثل للملايا, وكانت هذه هي أفكاره عندما أصبح رئيسًا للوزراء. وعبّر عن هذه الأفكار, مما دعا بعض القيادات الإسلامية في ماليزيا إلى اتهامه بأنه لا يسعى إلى بناء توازن بين الملايا والصينيين, ولكنه يريد تحوّل الملايا إلى صينيين. وهو اتهام لم يتجاهله مهاتير بحكم ما حققه من نجاح في الحكم والتنمية, بل اعتبره تنبيهًا مهمًا جعله يعزز تواصله مع العناصر الإسلامية بتوازن يحافظ على زخم التجربة, وهو توازن مدرك لطبيعة التركيبة الماليزية التي قد يكون مفيدا أن نلقي نظرة عليها من واقع بعض الأرقام, وهي بتنوّعها وخصوصيتها قدمت لمهاتير فرصة الإبداع, وقدمت للتجربة مرتكزات نجاحها.

إن المجتمع الماليزي يتكون من ثلاث مجموعات عرقية أساسية هي: الملاي 49%, والصينيون 32%, والهنود 9%, بالإضافة إلى أعراق أخرى. ويعد الإسلام ديانة الغالبية الساحقة من الملاي. ويشكل المسلمون الهنود والملاي نحو 53% من سكان شبه جزيرة ماليزيا. فإذا أضفنا إليها ولايتي صباح وساراواك, فإن نسبة المسلمين في ماليزيا كلها تصل إلى نحو 50%, وبذلك فإن المسلمين لا يشكّلون أغلبية واضحة في ماليزيا.

وبالنسبة للملاي, فإن الإسلام ليس مجرد ديانة, ولكنه كان دائمًا مكونا محوريا من مكونات أسلوب الملاي في الحياة. كما أن نظام القيم الاجتماعية للملاي مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالإسلام. فقد خضع الملاي تقليديًا لنظام السلاطين المسلمين, بما في ذلك فترة الحكم البريطاني, كما أن الدستور الماليزي يعطي للسلطان في كل ولاية حق التدخل لحماية المبادئ الشرعية الإسلامية ومراعاة تطبيقها.

وعلى الرغم من أن الملاي يمسكون بناصية السلطة السياسية متمثلة في حكم ملك ماليزيا وسلاطين الولايات, وهيمنة التنظيم القومي الملايوي المتحد, وهو الحزب السياسي للملاي, فإن الصينيين تمتعوا تقليديا بالهيمنة الاقتصادية, وقد أدت حدّة التفاوت بين السلطة السياسية والقوة الاقتصادية في ماليزيا إلى نشوب اضطرابات عرقية عام 1969 قادها الملاي احتجاجًا على الهيمنة الاقتصادية للصينيين. واتجهت الحكومة الماليزية إلى تبني استراتيجية جديدة امتدت عشرين عاما من1970 حتى 1990, وكانت فترة حكم مهاتير هي القاطرة التي قادت هذه الاستراتيجية على طريق التحقق والنجاح, فرفعت من معدلات التنمية العامة في البلاد, ولكنها سعت أيضا إلى توظيف عملية وعوائد التنمية لتحسين الوضع الاقتصادي للملاي وإعطائهم مزيدًا من فرص الترقي في الوظائف الحكومية, واكتساب المهارات المهنية العليا, والدخول في ميدان الأنشطة الاقتصادية الخاصة, وذلك دون الإضرار بالعناصر العرقية الأخرى.

وقد نجحت تلك السياسة في رفع نصيب الملاي من الناتج القومي من 24% عام 1970 إلى 30% عام 1990, وإلى رفع نسبة الملاي من شريحة المهنيين, أطباء, ومهندسين, ومحاسبين, من 5% عام 1970 إلى 29% عام 1990, في الوقت الذي ظلت فيه نسبة الصينيين من هذه الشريحة ثابتة تقريبًا, فقد انخفضت من 61% إلى 56% فقط. وبعد انتهاء فترة السياسة الاقتصادية الجديدة, بدأت حكومة ماليزيا بقيادة مهاتير برنامجًا جديدًا لرفع المستوى الاقتصادي للملاي, ومن ذلك زيادة نسبة الملاي في الوظائف العامة بحيث يحصلون على 56% من الوظائف الجديدة التي تنشئها الحكومة. وبمعنى آخر فإن مهاتير وهو يطمح إلى تنمية عامة لبلاده, لم يهمل السمات الخاصة داخل المجتمع الماليزي, وكان منتبهًا إلى أن أي تنمية لن يكون لها النجاح إلا بتأكيد تجانس معقول بين عناصر التركيبة المجتمعية جميعها, اقتصاديًا, ومعرفيًا, إضافة لقدر ملموس من الديمقراطية, ومساحة أرحب من الشفافية واحترام القانون, ولقد نجح نجاحًا باهرًا.

لغة الأرقام

وفقًا لتقارير التنمية العالمية, تدرج نصيب الفرد من الدخل القومي في ماليزيا من 680 دولارًا عام 1974 إلى 1830 دولارًا عام 1982, ثم تعدى الألفي دولار عام 1984 حيث بلغ 2112 دولارًا, ووصل إلى 7400 دولار عام 1991, ويتجاوز الآن عشرة آلاف دولار. وإذا نظرنا إلى نصيب الفرد من استهلاك الطاقة, فسنجد أنه زاد بما يقرب من ثلاثة أمثاله في غضون عقد واحد من السنين. وارتفعت نسبة الادخار من 24% عام 1965 إلى 31% عام 1978, ثم 36% عام 1988. وانتقلت نسبة الاستثمار من الناتج القومي الإجمالي من 14% عام 1960 إلى 20% عام 1965 ثم 25% عام 1978م.

وكان نتيجة هذا التطور الاقتصادي تنمية في الجوانب الاجتماعية, حيث ارتفعت نسبة السكان الذين يحصلون على المياه النقية من إجمالي سكان البلاد من 64% عام 1979 إلى 77% عام 1982 ثم إلى 80% عام 1984. وتطورت نسبة تسجيل الطلاب في المدارس من إجمالي مَن هم في سن التعليم من 48% عام 1974 إلى 60% عام 1979 ثم 63% عام 1984 إلى 66% عام 1989, ثم ثبتت النسبة عند 73%. ولقد كانت معظم المشاريع الاقتصادية في ماليزيا ما بعد الاستقلال صغيرة وعائلية, وكانت المؤسسات الضخمة مملوكة فقط للأجانب, فحرصت دولة ما بعد الاستقلال على إعادة بناء الاقتصاد بشكل يجمع بين الاعتماد على الذات وعلى رأس المال الخارجي في الوقت نفسه. ومن هنا بدأت الدولة باتباع سياسة إحلال الواردات الأجنبية, وظل التوازن الاقتصادي مع الخارج معقولاً, وجاء عقد الثمانينيات, وتبنت الدولة برنامجًا طموحًا لزيادة النمو, فحاولت إنشاء قاعدة ضخمة للصناعات الثقيلة, وزيادة المدخرات إلى 40% من الناتج القومي الإجمالي, غير أنه كانت هناك مشاكل مالية تسبب فيها أساسًا النقص الكبير في الإيرادات النفطية للبلاد. وأنشأت الحكومة مؤسسات للتنمية الريفية ومشروعات للري وللخدمات الاجتماعية باعتبار الريف معقل الفقر. وفي نهاية عام 1990 ارتفع نصيب الجماعات العرقية الأخرى من 22% إلى 40%, وأصبح نحو 35% من الملاي جزءًا من القطاعات الاقتصادية الحديثة خلال عقد السبعينيات, ولم تصل هذه النسبة في بداية الخطة إلى 35%. ونمت طبقة من رجال الأعمال الملايويين. وانخفضت نسبة الماليزيين الذين يعيشون تحت خط الفقر من 37% إلى 15% خلال الفترة من 1973 إلى 1978م.

وبعد انتهاء فترة السياسة الاقتصادية الجديدة عام 1990م, اعتمدت الحكومة سياسة جديدة للتنمية تتضمن خطة العمل خلال الأعوام العشرين التالية. وقد حرصت الخطة الجديدة على القضاء على فقر الأشد فقرًا, وتحسين مهاراتهم وزيادة دخولهم, وبدأت هذه الخطة بتقديم مجموعة كبيرة من الاستثمارات, أدت إلى تحوّل الاقتصاد من الزراعة للصناعة, ومع اتساع رقعة الاستثمارات, نلاحظ أن نسبة السيطرة الأجنبية على الاندماجات القائمة قد انخفضت من 62% عام 1970 إلى 25% عام 1989. ومع ذلك حافظت السلطات الماليزية على انفتاحها على الخارج. وهذه إحدى سمات عبقرية تجربة التنمية الماليزية المهاتيرية, المتمثلة في الانتباه - دون مبالغة - إلى خصوصية الذات والانفتاح - دون وجل - على الآخر. وقد يكون موقف مهاتير محمد الجريء والمعلن من بعض القضايا العالمية الكبرى والشائكة هو أفضل تعبير عن هذا الاحترام للذات والانفتاح على الآخر, والتعامل بروح نقدية خلاّقة في كل الأحوال.

لقد وجّه مهاتير محمد تحذيرات مبكّرة عن مظالم ومخاطر استغلال العولمة من قبل القوى الساعية للهيمنة السياسية والاقتصادية في العالم, وكان ذلك قبل سنوات من انتشار ظاهرة توجيه النقد لمفهوم العولمة وأنشطتها, فأصبح مهاتير المتحدث الرسمي حول هذا الموضوع بالنيابة عن الجنوب كله. وكان مهاتير قد عايش الصدمة التي شهدتها ماليزيا ماليًا واقتصاديًا بسبب قوى العولمة المالية في ذروة الأزمة المالية والاقتصادية خلال الفترة من عام 1997 إلى عام 1999, وتبنت خلالها ماليزيا سياسات جريئة وغير تقليدية لمواجهة المضاربات المالية في البورصة ولإنقاذ الاقتصاد الماليزي الذي كان على شفا الانهيار.

وكانت ماليزيا الدولة الوحيدة التي واجهت أزمة ذلك الوقت بنجاح دعا المراقبين للتحدث بإعجاب عمّا أسموه (البديل الماليزي), ويصح أن نسمّيه أيضًا (البديل المهاتيري), فقد كانت الرؤية الفكرية وراء ذلك هي رؤية مهاتير محمد الذي سبق أن قال في كتابه (العولمة والواقع الجديد: التجربة الماليزية نموذجًا) إن اللاعبين الكبار في النظام العالمي يطبّقون قواعد غير عادلة للعبة من أجل منفعتهم. ولا يكتفون بحرمان الدول النامية من الفوائد, بل يلحقون بها الخسائر. ويقول: (إن العولمة مفهوم طبقته واستخدمته الدول القوية لاستباحة اقتصادات الدول النامية), ويطالب الدول الإسلامية بالتأكد من أن العولمة لن تؤدي إلى تهميش بلدانهم كما سبق أن حدث مع عصر الثورة الصناعية.

ويلفت الانتباه في كتابه هذا إلى ضرورة أن يتذكر المسلمون أن الثورة الصناعية قد فاتتهم تمامًا, فبينما كانوا منشغلين في مناقشة توافق العلم مع الإسلام, كان الأوربيون منهمكين في تطبيق معارفهم الجديدة في مجالات الميكانيكا الهندسية بما يسمح بتخفيض عدد العمال, وأن تستبدل بهم الآلات, وقاموا بتدريب وإعادة تأهيل عمالهم ليعملوا في المصانع, وطوّروا تقنيات الإنتاج الضخم, وعملوا بدأب لتحسين جودة منتجاتهم وخفض التكاليف وبناء أسواق ضخمة. كذلك قامت الدول الأوربية بتحسين سرعة وقدرة وسائل المواصلات حتى تستطيع الوصول إلى أسواق جديدة.

الموسوعة المهاتيرية

إن تجربة ماليزيا في ظل قيادة مهاتير هي تحقق لاجتهاد فكري مهم, لرجل لم يكن مجرد قائد سياسي ناجح, بل مفكّر كبير, ومن حسن حظ الباحثين عن إجابات حقيقية لأسئلة معضلة في عالمنا المعاصر, خاصة من عالمنا النامي, أو النائم! أو التائه في التباسات هذا الجزء الأول من القرن الواحد والعشرين, أن مهاتير محمد ترك العديد من المؤلفات التي تلقي بالكثير من الضوء على مشكلات فكرية وليدة الاشتباكات التي نشأت في العقود القليلة الأخيرة, ومنها: (معضلة الملاي) (الذي عالج فيه مشاكل الأغلبية المسلمة في بلده برؤية عصرية وأصيلة في آن), و(التحدي) (الذي حدد فيه استراتيجيته لإعادة بناء ماليزيا), و(صوت آسيا) (الذي استكشف عبره ملامح الأفق التنموي التكاملي في آسيا), و(تحديات الاضطراب) (الذي حلل فيه أسباب الأزمة المالية الآسيوية وكيفية الخروج منها), وهذه المؤلفات وغيرها كثير, إضافة لكلمات الرجل ومحاضراته التي صارت من درر الندوات الفكرية عبر العالم, وبالرغم من كونها منصبّة على التجربة الماليزية التي خاضها, فإنها ترسم لكل مَن يهمهم أمر النهوض في عالمنا العربي والإسلامي دروبًا صالحة للمسير الناجح والبناء الواثق, وقابلة للتكيّف والتطوير بما يناسب خصوصية كل حالة, إن تجربة ماليزيا المهاتيرية تتلخص في ظهور قيادة وطنية عميقة الوعي في الفكر والسياسة نظيفة اليد, صادقة في وطنيتها وفهمها لواقع مجتمعها والمحيط العالمي من حولها.

 

سليمان إبراهيم العسكري