الرحمة والتراحم في وجه الغلو والعنف

الرحمة والتراحم في وجه الغلو والعنف
        

لقد تفشت في مجتمعاتنا مدارس من التفكير تؤدي إلى عواقب وخيمة من إهدار النفوس والطاقات. ولما كان الغلو والعنف هما سمة هذه المدارس التي تتزيا بلبوس ديني, فإن مراجعتها تصبح واجبا من الرحمة والتراحم, خاصة في هذا الشهر الكريم.

  • التطرف موجود في أي دين والمجازر التي يرتكبها اليهود الإسرائيليون يوميا هي الدليل 
  • الدعوة إلى جوهر الدين لا يمكن أن يكون سبيلها هو الإكراه والقتل
  • كل الحروب الدينية هي دنيوية في جوهرها تصنعها أهواء النفوس المسيطرة

          (النفس الإنسانية هي أشرف النفوس جميعا), هذه العبارة الموجزة الواضحة لفيلسوف النفوس والأجساد, العالم المسلم (الإمام الرازي) أصبحت عالقة بذهني منذ أن انتشرت ظاهرة العنف التي طغت على حياتنا, وأصبح القتل وانتهاك النفس البشرية, التي كرمها الله, جزءا من سلوك البعض ممن يدعون لصحوة دينية في عالمنا الإسلامي. ونحن نستقبل تلك الأيام شهر رمضان, الذي جعله الله سبحانه شهر الرحمة والتراحم تعود ظاهرة العنف لتصبح أكثر تجسدًا وحضورًا في شهر التقوى والقرآن. القرآن الذي نزل به الوحي على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في هذا الشهر, ليعلي من شأن الإنسان كمخلوق مميز على مخلوقات الله جميعا, فتسجد له الملائكة بأمر خالقها الذي نفخ في هذا الإنسان من روحه, ومن ثم صار من يقتل نفسًا من بني الإنسان بغير حق فكأنما قتل الناس جميعا, ومدار الأسى والأسف أن مئات الألوف من النفوس الإنسانية صارت تقتل بغير حق في عالمنا العربي والإسلامي, والمؤلم المرير أن القتلة - بوعي أو من دونه وبالأصالة عن أنفسهم أو عن غيرهم من مجرمي البشر - هم فئة من أبناء هذا العالم نفسه, لا يوجد أي منطق ديني أو دنيوي يبرر لهم ما اقترفوه وما يقترفونه, والأدهى والأمر أن هذه المجازر الوحشية والجنونية تدار تحت لافتة الإسلام, بل يزعم مقترفوها أنهم الأكثر حرصًا على مبادئ وقيم الإسلام, بصفتهم (الفرقة الناجية) من النار وغيرهم في النار, كل البشر غيرهم هم في النار! وبوصف ما يفعلونه (جهادًا) في سبيل الله على حد ما يصفون به أنفسهم, وما يطلقونه على أفعالهم, وهي أفعال لا يمكن تبريرها بأي منطق بشري, ناهيك عن مجافاتها لأي منطق ديني. والمسألة ليست في حاجة إلى جدل أو محاججة, فأبسط مقدار من الحس الإنساني يمكن أن يقطع بفساد ذرائع الواقفين وراء هذه المذابح والمجازر أو أصحاب الأيادي المنفذة لها. ولنتأمل عشرات, بل مئات الآلاف من ضحايا التطرف في الجزائر - كمثل - فشكل المذابح ونوع الضحايا يقطع بأن دعوى (الجهاد) الديني, بل حتى الثأر السياسي الدنيوي, صارت أبعد ما تكون عما وصلت إليه وحشية ولا معقولية السعار المجنون الذي تتم به المذابح, أطفال ونساء وشيوخ يُنحرون نحرًا, وصبايا في عمر الزهور تُهتك أعراضهن, أي منطق ديني أو دنيوي يبرر هذه الوحشية الحيوانية? أي منطق? وأي إسلام وأي مسلمين هؤلاء القتلة?

وعي المتطرف وجهل المتورط

          ولو ابتعدنا عن هذه الصور الصارخة لفساد منطق التطرف في القتل والغلو في الدين لوجدنا الوحشية وانعدام الحس الإنساني, في صور أخرى لمجازر أخرى في عالمنا الإسلامي, تلك المجازر التي صارت تقع حتى في المساجد, إضافة للتفجيرات العمياء التي قد يكون مدبروها من قوى الظلام البعيد عن عالمنا العربي والإسلامي, إلا أن تنفيذ الكثير منها يتم بأياد مسلمة وعيًا متطرفًا, أو جهلاً متورطًا. ويبقى السؤال: ألم يتوقف منفذو هذه التفجيرات لحظة أمام ضمائرهم, أو حسهم الإنساني العادي, لتوقع ذهاب كثير من الأبرياء ضحايا في هذه المحارق? أي منطق يبرر قتل نفس إنسانية بغير حق? وأي حق يمكن أن ينطوي عليه قتل أطفال وشيوخ في الجزائر, أو بشر عاديين ذهبوا يصلون لخالق الكون في مسجد باليمن أو بالسودان, أو في كراتشي أو النجف أو بغداد? أو فقراء حتَّم عليهم السعي للرزق أن يكونوا هنا أو هناك حيث تدوي تلك التفجيرات, التي لا يمكن وصفها إلا بالغدر والغيلة, ناهيك عن جبن مدبريها المتخفين في غالب الأحوال.

          المؤكد أن هذا السلوك العدواني المسعور لا علاقة له بصحيح الدين من أي وجه, بل هو في حقيقة أمره مشوه ومعاد لأي دين, ومن دلائل ذلك في العينة الأوضح والأفدح في الجزائر, أن أعداد ضحايا المجازر التي نفذها المتطرفون هناك, ولا يزالون, كانت تبلغ ذروتها في شهر رمضان تحديدا, منتهكة بذلك حرمة أشرف النفوس جميعا نفس الإنسان الذي كرمه الله بشخص أبي البشر آدم عليه السلام, حيث أمر سبحانه ملائكته {اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين} (البقرة/34), فحكم عليه بالكفر لرفضه السجود لأبي أكرم المخلوقات, {ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البرّ والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا} (الإسراء/70).

          وانتهاك حرمة أكرم الشهور جميعا - شهر رمضان - الذي يقول عنه نبينا عليه الصلاة والسلام: (إذا جاء رمضان, فتحت أبواب الجنة, وغلّقت أبواب النار, وصفدت الشياطين), هذا الحديث الشريف وحده كفيل بتعرية سُعار مرتكبي المجازر ضد الأبرياء في الجزائر, بل يشير إلى شيطانية جرائمهم, وهو سعار وهي شيطانية ينسحبان على كل إيذاء وكل قتل بغير حق لأي نفس إنسانية على الإطلاق.

          والشيطانية التي أعنيها هنا هي شيطانية بشرية, درجة من القبح والقسوة والوحشية تردى إليها بعض البشر الذين يروعون العزل والأبرياء من البشر, ويرتكبون جرائمهم غدرًا وغيلة, ودون تمييز, مما يدل على كراهية عمياء للبشر ودنيا البشر جميعا. فمن أين جاء هذا العمى الروحي والنفسي الذي يتخفى وراء أقنعة دينية? سواء من وعي شرير, أو لاوعي شرير أيضا, فالنتيجة واحدة.

          في هذا الشهر الكريم, شهر الرحمة والمودة والسلام, الذي تُصفَّد فيه الشياطين, ينبغي علينا أن نُصفِّد شياطين البشر من أهل التطرف والغلو الأعمى, ولعل إحدى أدوات هذا التصفيد - التي تمتلكها الثقافة - هي إماطة اللثام عن جذور هذا العمى الروحي والإنساني الذي يتخفى وراء الدين, وهو ليس مقصورًا على فئة منحرفة من أبناء دين بعينه, بل هو موجود حيثما كان التطرف في أي دين وأي ملة.. وأمامنا اليوم مجازر اليهود الإسرائيليين المتطرفين ضد المصلين في المسجد الأقصى أو في غزة وبقية المدن الفلسطينية من هدم البيوت على أصحابها من الشيوخ والنساء والأطفال, أو إطلاق الطائرات الإسرائيلية صواريخها على مخيمات اللاجئين وعلى فقراء غزة في مساكنهم المتهالكة.

          ومن التاريخ يحدثنا الدكتور عادل العوا في مؤلفه الحديث الصدور (التسامح.. من العنف إلى الحوار) أن اسم الحروب الدينية أطلق على سلسلة حروب أهلية وقعت في فرنسا بين سنتي (1562 - 1598م) بين البروتستانت والكاثوليك وهي تضمر قتالاً من أجل السلطة بين العرش والأشراف, وكانت بوجه الإجمال ضربًا من فتنة أهلية بين فريقين يظلهما لواء واحد وهو الدين المسيحي!

          إذن, المسألة في عمقها ليست مسألة دين, وهو ما يوضحه مثال آخر نعرفه جيدا, وهو ما يسمى بـ (الحروب الصليبية) التي بدأت باستغاثة الإمبراطور (الكسيوس الأول) للوقوف في وجه (التوسع الإسلامي) ومع تلك الاستغاثة كانت (الموعظة) الشهيرة للبابا (أريان الثاني) في مجمع كليرمون عام (1095) والتي حث فيها العالم المسيحي على حمل الصليب لفتح القدس واسترداد القبر المقدس ووعد المحاربين بغفران خطاياهم (كلها في الدنيا والجنة في الآخرة) (حاميا بسيادته الروحية عيالهم وأموالهم مدة غيابهم, واعدًا إياهم بمغانم دنيوية كثيرة)!

          وكان البابا بهذه الموعظة التحريضية يوجه الثائرين الجياع إلى بيت المقدس ليحمي النظام الإقطاعي الأوربي الذي أوشك على الانهيار.

          ومادام الأمر كذلك, تلويحات دينية ومغانم دنيوية, كان طبيعيا أن يتحالف الانحراف الكهنوتي مع النزوع الإجرامي, وتكون قيادة الحملة الصليبية الأولى لـ (وولتر المفلس وبطرس الناسك), وأن تستهل أعمال الحملة بذبح اليهود في أرض الراين وشنق الكثيرين منهم في بلغاريا على أيدي بعض المجرمين الذين أثارت أريحيتهم الدينية (دعاوى تلك الحملة), ولأن جوهر السعي كان دنيويًا خسيسًا, فإن الحملة الموصوفة بالصليبية لم تستثن أبناء الصليب من ذلك الزحف الإجرامي نحو القدس, فعندما دخل المجرمون القسطنطينية - عاصمة الإمبراطورية البيزنطية المسيحية الشرقية - عبثوا بالكنائس وأحرقوها على الرغم من أن صاحب القسطنطينية كان حليفًا لهم وزودهم بالكثير من المال والطعام.

نفاق دنيوي بقناع ديني

          هذا النفاق الدنيوي المتسربل بمسوح دينية ومثاله الحروب الصليبية المعروفة, لم يكن الأول في الغرب, فقد حدثت حرب صليبية أخرى كانت ضد أبناء الملة نفسها فيما عرف بمحاكم التفتيش. ففي سنة (1209م) أصدر مجلس (أفنيون) بتحريض من البابا (أنوسنت الثالث) قرارًا يدعو القساوسة إلى مطالبة السلطة الدينية باستئصال (الهرطقة) وكلف البابا بعض الرهبان الدومينيكان التحقيق في ممارسة الطائفة الألبجينية شعائرها الدينية سرًا في جنوب فرنسا.

          وحدثت المذبحة المروعة للقضاء على هذه (البدعة) ثم أقيمت محكمة التفتيش أو (ديوان التحقيق) في لانكدوك سنة (1229م) لاكتشاف (المارقين) والتنكيل بهم, وشُرعت قوانين (إهدار دمهم) ومصادرة أموالهم والطلب إلى (الذراع الزمنية) للكنيسة بمعاقبتهم حرقًا في أكثر الحالات, وكانت وساطات ولاة الأمر لتنفيذ الأحكام ضد المدانين مناسبة للرشوة وابتزاز الأموال, وكالعادة امتد التنكيل بالبشر إلى التنكيل بالفكر فكان إحراق الكتب رديفًا لإحراق الناس بالجملة, واستمرت تلك النار العمياء تجتاح أوربا قرونا من الترويع والرعب.

          هذا النفاق الدنيوي فيما يسمى بالحروب الدينية في الغرب المسيحي, هو نفسه النفاق الذي دمغ ما سمي بالحروب الدينية في الشرق الإسلامي, وهو ما توقف عنده وأماط اللثام عن مغالطاته وشروره محمد عمارة في كتابه (الإسلام والحروب الدينية) فالقراءة المغلوطة لهذه الحروب يستثمرها ذوو المآرب المعوجة, في الإيهام بأن الدين الحنيف انتشر بالسيف, ومن ذلك ينطلق ذوو المعرفة الضيقة الأفق والتعصب المقيت في الترخيص لأنفسهم بفرض ما يعتقدون أنه صحيح الدين بالقوة, والعنف, بل بالترويع في أحيان كثيرة.

          بداهة, الدين جوهره الإيمان, والإيمان تصديق بالقلب, أما الأعمال الظاهرة فقد تكون ترجمة لما استقر في القلب من يقين إيماني, وقد تكون تظاهرا بذلك, ومادام الإيمان يقينا قلبيا يستقر في داخل الإنسان الذي لا يعلم سرائره إلا علام الغيوب, ولا يتأتى - هذا الإيمان - إلا عبر الاقتناع الروحي والعقلي, فإن الدعوة إلى دين, جوهر الدين, لا يمكن أن يكون سبيلها الإكراه والقتل, ولقد كانت بداهة القرآن الكريم واضحة وبسيطة ومعجزة في الوقت ذاته, عندما حدد الله سبحانه لرسوله الكريم سبل الدعوة ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن(النحل/125). وعلى هذا النحو تتواتر إضاءات القرآن الكريم لسبل الدعوة الصحيحة, حيث لا إكراه ولا عنف, وبأوضح ما يكون لكل ذي عقل سليم ونفس سوية, إذ يقول سبحانه لا إكراه في الدين, قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم(البقرة/256). ثم يكون الأمر قاطعا وواضحًا أيضا بقوله جل جلاله ولو شاء ربك لآمن من في الأرض جميعًا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين (يونس/99). وبعد هذا يهدي القرآن إلى سبيل الدعوة في إيجاز معجر فذكِّر إنما أنت مذكِّر. لست عليهم بمسيطر  (الغاشية/21 - 22). وعن هذه الآية شديدة الإيجاز عميقة المعنى يقول الشيخ الإمام محمد عبده (إنها تحدد الأمر الذي بعث الله لأجله نبيه صلى الله عليه وسلم, وهو تذكير الناس بما نسوه من أمر ربهم, فليس في سلطانه, عليه الصلاة والسلام, أن يخلق الاعتقاد فيهم, ولا من المفروض عليه أن يكون رقيبًا على قلوبهم, ولا مسيطرًا, أي متسلطًا عليهم... فالقهر لا يحدث إيمانًا, والإكراه لا أثر له في الدين).

          فإذا كان هذا هو ما حدده رب العالمين للنبي العظيم محمد صلى الله عليه وسلم, فمن أين يأتي أصحاب رايات التطرف والغلو برُخص العنف والقهر والترويع والقتل ويبررونها لأنفسهم.. إنه ليس مجرد انحراف فكري, أو قراءة مغلوطة, بل هو ضرب من العجرفة والتكبّر المقيت والمزايدة الفاسدة على ديننا السمح ذاته, فهل يرى بعض الأبرياء السائرين في ركاب ذلك التطرّف المقيت ماهم متورّطون فيه من مكابرة واستكبار مرذولين دينيًا ودنيويًا?

          وبعد أن يكون النهي عن الإكراه والعنف في سبيل الدعوة إلى الإيمان واضحاً في القران الكريم, يذهب أصحاب الأهواء مذهبًا آخر لتبرير سلوكهم وإسباغ الطابع الديني عليه, فيتشبثون بما سُمّي (حروبا دينية) في مسار التاريخ الاسلامي. وهي - أي هذه الحروب الدينية - مما ينبغي إعادة فتح صفحته في مراجعة تاريخية وفقهية شجاعة ومخلصة للحق والحقيقة, وقراءة جديدة عقلانية لتاريخنا المكتوب, لأنها - الحروب الدينية - أحد الفخاخ الخطيرة التي تصيد بها رءوس التطرّف شباب المسلمين وتجنّدهم لنيل مآربها التي لا تخدم الإسلام ولا المسلمين, بل تفيد بنتائجها أعداء هذه الأمة وأعداء هذا الدين, مما يرجح وجود اختراقات دولية سوداء لشبكات التطرّف وتوجيهها - بوعي  أو دون وعي منها - ناهيك عن خروق الفكر المتعصّب وفجواته المظلمة العمياء التي لا مرجع لها ولا منطق إلا ما في نفوس أصحابها, وهو مما ييسر الاختراق والخرق على السواء!

التطرّف سهّل مهمة أعداء أمتنا

          لابد من مراجعة شجاعة, لأن الحصاد مرّ, والتطرّف لم يضف إلى عالمنا العربي والإسلامي إلا تسهيل مهمة أعداء هذه الأمة وتسويغ ذرائعهم, ناهيك عن ترويع الآمنين بأيدي هؤلاء وأولئك, ولنا في تاريخ الخوارج وحروبهم ضد سلطة الدولة الإسلامية العبر والدورس, حيث أنهكت تلك الحروب الإسلام ودولته, ومزّقت وحدته وفتحت الأبواب على مصاريعها للتدخل الأجنبي في مفاصل الدولة وشئونها.

          والغريب في أمر هذه الأمة المسلمة الحالي, أن المراجعة اليوم باتت أصعب وأكثر حرجاً مما كانت عليه منذ عقود كثيرة, وكأننا نمضي بظهورنا معصوبي العيون إلى الوراء, فالمراجعة المطلوبة في أيامنا هذه تصدى لها كثيرون من قبل, ولم يكفّرْهم أحد, ولم يهدر دمهم أحد المفتين الجهلة بمقاصد الدين والشريعة من أولئك المختفين في الكهوف هنا أو هناك!

          ومثال تلك المراجعة الشجاعة ما قام به إمام المستنيرين الشيخ محمد عبده منذ قرن مضى. ولأن المراجعة باتت عسيرة حقّا في جو مشحون بغبار التطرّف والغلوّ والتربّص واعوجاج المنطق العام في أمتنا العربية والإسلامية, فإننا سنكتفي هنا باقتطاف الشيء اليسير من مراجعة الشيخ محمد عبده لأمر ما يسمى بالحروب الدينية في الإسلام, ومن يرد التدقيق أو الاستزادة فليرجع إلى الأعمال الكاملة لهذا المفكر والداعية الإسلامي المستنير.

          عن حقيقة الحروب الدينية يقول: (عند بعض الملل حمل الناس على الدخول في دينهم بالإكراه, وهذه المسألة ألصق بالسياسة منها بالدين, لأن الإيمان وهو أصل الدين وجوهره عبارة عن إذعان النفس, ويستحيل أن يكون الإذعان بالالزام والإكراه, وإنما يكون بالبيان والبرهان, ومن هنا كانت آية: {لا إكراه في الدين} قاعدة كبرى من قواعد دين الإسلام, وركنًا عظيمًا من أركان سياسته, فهو لا يجيز إكراه أحد على الدخول فيه, ولا يسمح لأحد أن يكره أحدًا من أهله على الخروج منه...).

          ويقول: (ما كان بعد ذلك من الفتوحات الإسلامية اقتضته طبيعة الملك, ولم يكن كله موافقًا لأحكام الدين, فإن من طبيعة الكون أن يبسط القوي نفوذه على جاره الضعيف, ولم تعرف أمة أرحم في فتوحاتها بالضعفاء من الأمة العربية, شهد لها علماء الإفرنج بذلك, ولم يسمع في تاريخ المسلمين بقتال وقع بين السلفيين والأشاعرة مع الاختلاف العظيم بينهم ولا بين هذين الفريقين من أهل السنة والمعتزلة, مع شدة التباين بين عقائد أهل الاعتزال وعقائد أهل السنة, سلفيين وأشاعرة, كما لم يسمع بأن الفلاسفة الإسلاميين تألفت لهم طائفة وقع الحرب بينها وبين غيرها. نعم سُمع بحروب تعرف بحروب الخوارج, كما وقع من القرامطة وغيرهم, وهذه الحروب لم يكن مثيرها الخلاف في العقائد, وإنما أشعلتها الآراء السياسية في طريقة حكم الأمة, ولم يقتتل هؤلاء مع الخلفاء لأجل أن ينصروا عقيدة ولكن لأجل أن يغيّروا شكل حكومة, وأما ما كان من حروب الأمويين والهاشميين فهي حرب على الخلافة, وهي بالسياسة أشبه, بل هي أصل السياسة! نعم وقعت حروب في الأزمنة الأخيرة تشبه أن تكون لأجل العقيدة, ولكن يتسنّى لباحث بأدنى نظر أن يعرف أنها كانت حروبًا سياسيّة. لقد شهر المسلمون سيوفهم دفاعًا عن أنفسهم, وكفّا للعدوان عنهم, ثم كان الافتتاح بعد ذلك من ضرورة الملك, ولم يكن من المسلمين مع غيرهم إلا أنهم جاوروهم, فكان الجوار طريق العلم بالإسلام, وكانت الحاجة لصلاح العقل والعمل داعية الانتقال إليه...).

ضد التعصّب

          إذن نستطيع أن نستنتج بوضوح تلك الملامح المشوّهة المشتركة بين ما سُمِّي (الحروب الدينية) في الغرب المسيحي منذ محاكم التفتيش حتى الحروب الصليبية وأصدائها التي لم تتوقف لدى البعض وبين ما يسمى بالحروب الدينية في الشرق الإسلامي وأصدائها المستمرة حتى أيامنا وإن بأشكال أدنى.

          أمر هذه الحروب جميعًا لم يكن دينيًا في جوهره, بل دنيويًا تصطنعه أهواء النفوس المحبّة للسيطرة وتديره رءوس مختفية تبحث عن الأسلاب والمغانم, ولو المعنوية منها والمتمثلة في فرض إرادة الذات على الغير. كما لا يمكن استبعاد شبهة التدابير الماكرة, الصهيونية تحديدًا, لإثارة الفرقة في بلاد العرب والمسلمين, وإشغالها بالاحتراب الداخلي والضياع في الفوضى والدمار, وتوفير الذرائع لمن يبحث عن ذرائع لتنفيذ مخططاته لإهدار طاقة الأمة.

          إن التعصّب هو أول الطريق الذي يقود إلى هذه الحالة الكارثية من فوضى التطرّف والدمار الذي يكون من عواقب هذه الفوضى, والتعصّب استعلاء مقيت وادّعاء بامتلاك الحقيقة كلها, ومن ثم لا سبيل له لفرض ما يزعم أنه الحقيقة إلا بالعنف, وأول العنف هو (التكفير) لإخراج المتهم من حصانة الملّة, ومن ثم استباحته. وعن خطر هذا التفكير يقول الإمام أبوحامد الغزالي إنه يأتي: (من ضيقي الصدر, والمتعصّبين الذين يسارعون إلى إلصاق وصمة الكفر بالآخرين المخالفين). ويضيف: (التكفير حكم يرجع إلى إباحة المال, وسفك الدم, والحكم بالخلود في النار, فمأخذه كمأخذ سائر الأحكام الشرعية, فتارة يُدرك بيقين, وتارة بظن غالب, وتارة يُتردد فيه. ومتى حصل تردد فالوقف عن التكفير أولى, والمبادرة إلى التكفير إنما تغلب على طباع مَن يغلب عليهم الجهل).

          التكفير يصدر إذن من الجاهل وهو - لاشك - تدمير, وهو - مع أمر التعصّب وما سمي بالحروب الدينية - مما ينبغي مراجعته ودرء شبهاته ولجم سُعاره الذي يفضي إلى عواقب لا رحمة فيها. اللاتكفير رحمة, والرحمة طاقة عظمى وسع بها ربّ العالمين كل شيء, وكل الناس, كل نفس إنسانية, لهذا نرى هذا المفكر الإسلامي الكبير أبا حامد الغزالي يقول: (إن الرحمة تشمل كثيرا من الأمم السالفة, بل إن أكثر نصارى الروم والترك في هذا الزمان تشملهم الرحمة إن شاء الله تعالى).

          ما أجدرنا اليوم أن نفكر حقّا برحمة, بيننا ومع غيرنا, ونراجع برحمة في هذا الشهر الذي أنزل الله فيه على نبيّه القرآن الكريم.

 

سليمان إبراهيم العسكري   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات