الخليج العربي والثقافة

الخليج العربي والثقافة
        

ينظر البعض لمنطقة الخليج العربي على أنها منطقة تخلفت في جوانب كثيرة ومن أبرزها الجوانب العلمية والثقافية, ويبني هؤلاء حكمهم عن جهل وعدم دراية بتاريخ المنطقة ومسيرة بعض الشعوب التي استقرت في مناطق مختلفة منها.

          على الرغم من صغر المساحة المأهولة في منطقة الخليج العربي تاريخياً وقلة عدد السكان, وصعوبة وقسوة الطبيعة ومواردها, إلا أنها لم تخلُ من شخصيات رائدة لعبت دوراً ثقافياً وفنياً في مراحل مختلفة من تاريخها, وكانت نتاجاً لواقع خضع لتأثيرات ثقافية مختلفة. ولتحليل أبعاد النظرة السابقة والرد عليها نسوق عدداً من الأسباب التي تقف وراء سوء الفهم هذا منها: ارتباط منطقة الخليج ثقافياً مع شرق إفريقيا والهند وجنوب شرق آسيا, الجانب العملي في الإنتاج الاقتصادي, شح الموارد الطبيعية, وتأخر التعليم المؤسسي. فلو تأملنا خارطة الوطن العربي فسنرى تأثر دوله بثقافتين أساسيتين الأولى الثقافة الأوربية والثانية شرق إفريقيا وآسيا. إذ إنه باستثناء منطقة الخليج العربي وشبه الجزيرة العربية, تأثرت أغلب الدول العربية بثقافات أخرى, نتيجة لخضوعها للاستعمار المباشر, سواء كان ذلك إبان عهد الدولة العثمانية أو خلال فترات الاستعمار الأوربي المتمثل بشكل رئيسي في بريطانيا وفرنسا وإيطاليا. وقد تميّز الطرف الأخير بتقدمه العلمي والصناعي مما ترك آثاراً ثقافية واضحة على مسيرة التعليم أو حتى قيام بعض الصناعات الخفيفة وغيرها. في مقابل ذلك نجد أن الصلات التجارية والثقافية لمنطقة الخليج العربي وشبه الجزيرة العربية كانت مرتبطة مع شرق إفريقيا والهند وجنوب شرق آسيا, ولم تخضع هذه المنطقة للاستعمار المباشر - سواء كان العثماني أو البريطاني - حيث يشهد تاريخ المنطقة أنها لم تكن جاذبة, إما لبيئتها الصحراوية القاحلة أو لعدم استقرار العديد من التجمعات السكانية فيها, علاوة على موقعها الجغرافي القريب من آسيا وإفريقيا, فلم تظهر أهميتها الحقيقية إلا بعد ظهور النفط الذي حولها لواحدة من أهم البقاع في العالم.

مؤثرات مغايرة

          لم تعط القوى السابقة أهمية تذكر لدول المنطقة, كما كان يوجد بمعظم دول الخليج باستثناء اليمن مندوب سام بريطاني نتيجة لاتفاقيات الحماية التي كانت توفرها الحكومة البريطانية ضد أي تدخلات خارجية في شئون دول المنطقة, لكنها لم تخضع للاستعمار المباشر. وقد لعب هذا الانقسام الثقافي نتيجة للموقع الجغرافي وطبيعة البيئة دوراً مهماً في التميز الثقافي بين الدول العربية. وظهرت هناك تأثيرات مختلفة في الكثير من المظاهر الثقافية, فلو نظرنا إلى طبيعة الفنون - مثلاً - فسنجد أن منطقة الخليج وشبه الجزيرة العربية خضعت للمؤثرات الثقافية من آسيا والهند على وجه الخصوص, وكذلك شرق إفريقيا. فأدوات الفنون البحرية والشعبية وإيقاعاتها كان معظمها من الهند مثلما نجد في فن الصوت والفن البحري والغناء, علاوة على العمارة والزي والأثاث والنقوش المستخدمة عليها وغيرها التي تعكس جوانب من الحضارات الشرقية. كما أن العديد من المطربين والفنانين والمهتمين بالثقافة أمثال: المرحوم عبدالله الفرج ومحمد بن فارس وضاحي بن وليد, ومن المثقفين والشعراء كخالد الفرج وعبدالعزيز الرشيد وغيرهم كثير, كانوا يقومون بزيارات للهند أو يقطنون فيها, وهي الدولة التي تميزت بجالية عربية كبيرة حالها حال بقاع أخرى من جنوب شرق آسيا مثل ماليزيا وإندونيسيا. كما قام نفر من أبناء الخليج والجزيرة العربية بإنشاء النادي العربي في بومباي لنشر اللغة العربية وتعاليم الإسلام, والقيام بالعديد من الأنشطة الثقافية, حيث كان مكانا يتجمع فيه المثقفون العرب من شتى الفئات. في المقابل هاجر بعض الهنود وغيرهم إلى منطقة شبه الجزيرة العربية واستقروا فيها, ومنهم من مزج ما بين الثقافتين الهندية والعربية وبرع في تطوير بعض الفنون أو العمارة. ومن أبرز الفنانين المطرب والملحن اليمني المعروف محمد جمعة خان الذي تعود جذوره إلى الهند. ولو نظرنا في المقابل إلى الدور الذي لعبته الدول الأوربية فسنجد أن الاستعمار الأوربي قد ترك بصمات ثقافية واضحة على الدول العربية التي خضعت له. فمنذ الحملة الفرنسية بقيادة نابليون دخلت الطباعة وبعض المظاهر الثقافية والعلمية الأخرى, وتم إنشاء عدد من المراكز التعليمية والبعثات التبشيرية ذات الطابع العلمي, وقام العديد من أبناء الوطن العربي, خصوصا المتعلمين منهم, بالدراسة في الجامعات الأوربية والاحتكاك بثقافتها بشكل عام الأمر الذي انعكس على تطلعاتهم ورؤيتهم لمجتمعاتهم وتطورها, حيث قاد بالفعل العديد من المثقفين ومن تعلم بالغرب لواء التغيير والتنوير والإصلاح الديني والسياسي في مجتمعاتهم والتي تجاوزوها إلى مختلف المجتمعات العربية. (هذا مع الأخذ بعين الاعتبار العديد من الزعامات الوطنية الإصلاحية والمثقفين العرب الذين عملوا على خلق نهضة تعليمية ثقافية في بلدانهم من دوافع وطنية وقومية). ومع تزايد الاحتكاك وإنشاء المعاهد والجامعات أرسى التعليم الحديث قواعده في الدول التي عاشت تحت المظلة الأوربية. هذا الأمر لم يتوافر للدفع بإنشاء التعليم والمعاهد في دول الخليج والجزيرة. فإنشاء المدارس والتعليم المؤسسي جاء بمبادرات شعبية من المتعلمين والمثقفين الذين قادوا لواء الثقافة والعلم في مجتمعاتهم, مع العلم بأن بريطانيا التي توفر الحماية لهذه الدول كانت متحفظة على أولى مدارس التعليم المؤسسي في الكويت - مثلا - والتي افتتحت في العام 1911 فكان موقفها على العكس من دول أخرى عربية استعمرتها. أي أن التعليم في دول الخليج بدأ بمبادرات محلية أهلية حملت لواء نشر العلم وإقامة المؤسسات التعليمية الأولى.

البيئة ودورها

          لاشك في أن للبيئة دورا مهما في التأثير على استقرار المجتمعات وتقدمها, فما من حضارة أو مجتمع بقيت آثاره ومعتقداته وثقافته إلا ونعم بالاستقرار, والتاريخ شاهد على أن أعظم الحضارات التي قامت منذ القدم توافرت لها مقومات الاستقرار التي جعلت من شعوبها تراكم المعرفة والخبرة, وتشكل هويتها وثقافتها. ولو نظرنا لهذا الأمر فسنجد أن البيئة لعبت دوراً أساسياً في إعاقة النهوض الثقافي والفكري في مجتمعات الخليج والجزيرة باستثناء اليمن, وساهمت, في المقابل, في تأصيل الثقافة والتطور للمجتمعات المستقرة الأخرى في الوطن العربي. فإذا نظرنا إلى البيئة في الخليج والجزيرة فسنجد أن العديد من مجتمعاتها المختلفة لم ينعم بالاستقرار بسبب قسوة الطبيعة وشح مواردها, فاعتمدت على التنقل والرعي, أما تلك المستقرة فقد كانت تكابد من أجل توفير مستلزمات الحياة الأساسية فاتجهت للتجارة البحرية والغوص على اللؤلؤ والصيد البحري وغيرها. ونتيجة لهذا الوضع اتجهت هذه المجتمعات للاهتمامات العملية اليومية وأهملت أو تراجعت اهتماماتها بالجوانب النظرية. فقد كان توفير لقمة العيش يتطلب مجهودا - عمليا - يقوم به الأفراد بشكل جماعي ولا يستدعي تعليما - نظريا - أو دراسة فنية, كما كانت الحرف تشكل جانبا من وسائل إنتاج هذه المجتمعات والتي كانت تُكتسَب بشكل عملي أيضاً وعن طريق الوراثة, فنجد أسماء عائلات تحتكر مهنا وحرفا معينة تتوارثها أبا عن جد من دون دراسة أو تعليم نظري. يشمل ذلك الغوص على اللؤلؤ أو الصيد البحري بما يتطلب من مهارة عملية وخبرة تتراكم من القيام بالعمل نفسه, وكذلك التجارة, حيث كان السواد الأعظم من العاملين على السفن الشراعية يقومون بمهمات عملية طوال عمليات التنقل التجارية, ولم يكن العلم والمعرفة إلا في فئة معينة وهي التجار.

          لقد ساهم هذا النمط من الإنتاج في عدم الاكتراث بالعلم والتعليم والثقافة بسبب صعوبة الحياة الناتجة من قسوة البيئة وشح مواردها. في مقابل ذلك فإن معظم سكان الدول العربية الأخرى عرفوا الاستقرار منذ القدم وتراكمت لديهم الخبرة والمعرفة عبر مئات, بل آلاف السنين حيث وفرت البيئة أو الطبيعة لهم مستلزمات الحياة المستقرة, وعمل الغالبية الساحقة من سكان هذه الدول في الزراعة, أي أن توافر المياه للزراعة والعلاقة المستقرة إلى حد كبير ما بين الطبيعة والإنسان, ولّدا حالة من الاستقرار والتوازن النفسي وشجعا الإنسان على التأمل والتفكير النظري ودفعاه إلى الإبداع وتطوير الأدوات التي يستخدمها في علاقته مع الطبيعة التي تمرس على قوانينها وبرع في معرفة طرق إنتاجها, وتفرغ لأمور أخرى فنية وأدبية وثقافية. لقد ساهم هذا الوضع مع عوامل أخرى سبق ذكرها في خلق طبيعة مواتية لإحداث نهوض ثقافي وتعليمي في هذه المجتمعات.

حضور حضاري

          إن ما سبق ذكره حول ظروف الطبيعة وواقعها في دول الخليج والجزيرة لم يعن مطلقاً غياب أي شكل من أشكال الثقافة أو الحضارة, فكما هو معروف قامت في البحرين واحدة من أبرز الحضارات في المنطقة وهي حضارة ديلمون التي لاتزال معالم منها ماثلة حتى اليوم, وكذلك توجد في الكويت آثار يونانية قديمة وأخرى للحضارة العربية الإسلامية منتشرة في أنحاء متفرقة من منطقة الخليج العربي, ويعني ذلك أن المنطقة إما قامت بها حضارات وإما كانت تحت تأثير حضارات أخرى. بالإضافة إلى ذلك شهدت المنطقة منذ نهايات القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين بوادر نهوض ثقافي وتعليمي على الرغم من قلة الإمكانات وشح الموارد. (انظر في ذلك كتاب الأستاذ مبارك الخاطر (المؤسسات الثقافية الأولى في الكويت) خصوصاً مقدمته القيّمة). فقد برزت حركة ثقافية وتعليمية في البحرين والكويت اللتين قادتا الحركة الثقافية التعليمية في المنطقة, ويعود الفضل للتجار الذين رأوا ضرورة وجود أيد عاملة متعلمة تعينهم في أعمالهم, علاوة على حبهم للثقافة والعلم والتطلع لمستقبل أفضل. فقد بدأ التعليم النظامي في البحرين والكويت في العقد الثاني من القرن العشرين وانتشر بشكل متواصل في المجتمعين, كما قادت الكويت في الخمسينيات نشر عملية التعليم في دول أخرى في المنطقة. وبالنسبة للحركة الثقافية فقد تميّزت الدولتان عن غيرهما بالخليج بانتشار ثقافة فنية وعقلية مستنيرة كان لها عميق الأثر على الحركة السياسية فيهما, فقد ظهرت حركات إصلاحية سياسية في الثلاثينيات من القرن العشرين, وكانت مطالبها تعبر عن حركة تنويرية إنسانية تهتم بالعلم والتعليم وتخدم الحريات العامة وحرية الفكر وتدعو للمشاركة السياسية في اتخاذ القرارات عبر تشكيل برلمانات منتخبة شعبيا, وهذه - بلاشك - مطالب معظم القوى السياسية المستنيرة في معظم أنحاء الوطن العربي, ودليل في الوقت نفسه على وعي ثقافي وحضاري قلما وجد له نظير في أنحاء متفرقة من الوطن العربي.

          وجدير بالذكر أن الحركة الثقافية في الكويت والبحرين كانت على صلة مباشرة مع تطور الحركة الثقافية والفكرية في الوطن العربي منذ نهاية القرن التاسع عشر وخلال القرن العشرين برمته. فعلى الرغم من الارتباط التجاري والثقافي العام مع شرق إفريقيا والهند وجنوب شرق آسيا فإن الانتماء للأمة العربية والشعب العربي أقوى من أي رابطة ثقافية أخرى, فقد كانت اللغة بشكل عام تشكل عائقاً كبيراً أمام نقل الثقافات الموجودة في آسيا وإفريقيا, كما أن هذه الدول كانت خاضعة للاستعمار البريطاني والبرتغالي ولم تكن هناك حركة نهضة فكرية أو ثقافية لها صلة بواقع المجتمعات الخليجية والعقيدة الإسلامية السائدة فيها.

بوادر النهضة

          ويمكن أن نرى تأثير الحركة الثقافية الفكرية في الجانب العربي من خلال حركة الإصلاح الديني التي ظهرت منذ منتصف القرن التاسع عشر وكتابات رموزها أمثال محمد عبده وجمال الدين الأفغاني وعبدالرحمن الكواكبي وغيرهم والتي كان لها الوقع الكبير على عدد من الرموز الثقافية في الخليج, حيث نادى العديد منهم بإحداث إصلاحات سياسية ونشر التعليم المؤسسي والانفتاح على الثقافات الأخرى. فعلى سبيل المثال كانت الكويت وغيرها محطة لزيارات متكررة لدعاة الإصلاح الديني في أوائل القرن العشرين أمثال الشيخ أمين الشنقيطي والشيخ عبدالعزيز الثعالبي ومحمد رشيد رضا وغيرهم للجمعية الخيرية الكويتية أو النادي الأدبي الكويتي في العقدين الثاني والثالث من القرن العشرين. وعندما شهد الوطن العربي النهوض القومي والثقافة العقلانية المستنيرة تأثرت منطقة الخليج بشكل مباشر بذلك, فهناك العديد من أبناء المنطقة الذين درسوا في الشام والعراق ومصر, وساهم بعضهم في الحركة السياسية القومية على المستوى القطري أو العربي وعملوا على نقل الثقافة العقلانية المستنيرة للمنطقة عبر إنشاء الأندية والمؤسسات الثقافية سواء على المستوى الشعبي أو الرسمي. فقد أنشئت أندية عدة في الكويت كالنادي الثقافي القومي وجمعية المعلمين وجمعية الخريجين وغيرها, وكذلك أندية في البحرين كلها ساهمت بدور فعال في نشر الثقافة القومية المستنيرة التي طالبت بإصلاحات سياسية كالمشاركة الشعبية واحترام حقوق الإنسان والانفتاح على الثقافات الأخرى والاهتمام بالعلم وتطوير المؤسسات العلمية والثقافية فيها. بعبارة أخرى فإن الحركة الثقافية العربية برموزها وقضاياها وطروحاتها كانت واحدة من المحيط إلى الخليج, وساهم المثقفون والأدباء الخليجيون بشكل فعال في الحركة الثقافية والأدبية ودعم القضايا الوطنية والقومية على مستوى الوطن العربي برمته. وإذ كانت هناك كلمة أخيرة, فإن ما نراه من مطبوعات ثقافية تصدر من الكويت وغيرها من دول الخليج والتي تلاقي رواجا على مستوى الوطن العربي, يجب ألا ينظر لها على أنها أتت نتيجة توافر الإمكانات المادية التي تمكن من إصدارها, بل أتت تتويجاً للمسيرة الثقافية في المنطقة والتي قادها الرواد الأوائل منذ بداية القرن العشرين, فتأسيس المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب, على سبيل المثال, في الكويت على أيدي المرحومين الشاعر أحمد مشاري العدواني والأستاذ عبدالعزيز حسين هدف إلى نشر الثقافة عن طريق مؤسسي تدعمه الدولة, وقد تحقق حلم هؤلاء في السلاسل المعروفة وكذلك مجلة (العربي) التي تصدرها وزارة الإعلام وغيرها كثير. وخلاصة القول, إنه برغم قسوة وظروف الحياة الصعبة وشح مواردها التي جعلت سكان الخليج والجزيرة يقضون وقتهم في توفير مستلزمات الحياة فإن للمنطقة تاريخا - ثقافيا - مزج بين تأثير الشرق الآسيوي والهند وإفريقيا والتأثير العربي الذي كان بارزاً سواء من زاوية الفكر أو الأدب أو الفن, فالقضايا العربية كانت في صلب الشعر والفن الخليجي إبان المد القومي وما قبله, وكان المثقفون ومَن سار في فلكهم يرون أنفسهم جزءاً لا يتجزأ من العروبة وثقافة التنوير التي سادت معها, فمن غير المقبول إذن أن ينظر للمنطقة نظرة غير منصفة ومجانبة للصواب.

 

عبدالله الجسمي   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات