شعاع من التاريخ سليمان مظهر

شعاع من التاريخ

مصارع الطغاة

كل طاغية عندما يقترب من مصرعه يردد في أعماقه: (لقد قامرت حتى النهاية, ولكني غُلبت على أمري. ولا يمكن للإنسان أن يتحدى القدر مرتين. وكل طاغية يموت الموتة التي تتناسب مع طباعه وأخلاقه وعمق أطماعه. والآن لم يتبق أمامي أي شيء أو أمل. ولم يعد هناك أي شرف أو أدنى ولاء ممن عاونوني قبل أن يسلّموني. وتلك هي حياتنا وذلك هو مصيرنا, من الوحل إلى السلطة, ومن السلطة نعود مرة أخرى إلى الوحل...!).

هكذا قالها الشيطان راسبوتين وهو يتلقى الرصاصات القاتلة في بطرسبورج. وقالها هتلر قبل أن ينتحر في مخبئه بدار الاستشارية في برلين. كما قالها الدوتشي في ميلانو قبل أن تضرب جثته بالأقدام وتنهال عليه مئات النعال. وهكذا أيضا قالها شاوشيسكو في رومانيا قبل أن يستسلم لتكون له النهاية نفسها, ثم هكذا أيضا قالها صدام العراق وهم يسحبونه من الحفرة التي اختبأ فيها لتكون نهاية الطريق حتى الآن إلى مصارع الطغاة في التاريخ الحديث!

الطاغية الشيطان....!

كان راسبوتين أبشع الطغاة حتى ذلك الحين - وإن لم يكن حاكمًا - إلا أنه كان يسيطر على حكم روسيا من خلال نفوذه على القيصرة والقيصر, وقد وجد فيهما الأداتين المطواعتين اللتين يتذرّع بهما لتحقيق أطماعه وطغيانه حتى شاع في بطرسبرج يومئذ: (إن القيصر يحكم روسيا, والقيصرة تحكم القيصر, وراسبوتين يحكم الاثنين). ومن هنا راح الطاغية يخفض ويرفع, يعزل ويولي, يذل ويعز, حتى لم يعد في الإمبراطورية الروسية كبير أو صغير, قائد أو سياسي, يحس اطمئنانا أو سكينة نفس بإزاء أفاعيل الساحر الرهيب الذي لم يغيره ما نال من حظوة وسيادة, فظل على ما كان عليه: شاذا قاتلا, قذر الهيئة, أشعث المنظر...!

وكان حتما أن يثير كل هذا كراهية القوم لراسبوتين داخل القصر الإمبراطوري وخارجه, كراهية يذكي أوارها الخوف, ويؤجج سعيرها ما أشيع من أن هذا الشيطان الذي تقمّص في مسوح راهب يسعى إلى الغدر بروسيا ممالئا لأعدائها وإلى خلع القيصر واعتلاء مكانه, فكانت أن ثارت النعرة القومية في الصدور وراحت تزيد النار اشتعالا. لكن أحدا لم يكن يجرؤ مع ذلك على أن يمد يده إلى (الشيطان) بسوء. فقد كان الجميع يرهبونه, وكان الاعتقاد السائد أن الرجل محوط بهالة مغناطيسية سحرية تصد عنه السوء وتحميه من كل شر أو ضرر...!

شخص واحد هو الأمير (يوسوبوف) كان يرى أن واجبه يقتضيه أن يقتل الطاغية. ولكنه كان يعرف أن اغتياله ليس بالمهمة السهلة إذ كان الاعتقاد يسود الأذهان بأن السموم لا تنال منه وأن الرصاص لا يصيبه بأذى. وكانت شعوذته قد أوقرت في النفس أن الرجل الرهيب فوق متناول الموت, ومع هذا فقد عمد الفتى إلى جمع نفر من الشباب الذين كانوا يشغلون أسمى مناصب البلاط, وأخذوا يرسمون خطتهم في حذر وحرص ودقة حتى اتفق رأيهم على دعوة راسبوتين إلى قصر مويكا حيث الخمر موفورة بلا حساب, والأطعمة الشهية قد أعدت لإثارة شهية الشيطان الذي لا يشبعه شيء. ولم يكن هذا يتصور أن كل هذه المشهيات مليئة بالسموم التي أعدت جيدا للقضاء عليه بكميات تكفي لقتل عشرة رجال. وأخذ الأمير يرقب غريمه في قلق, وكم كانت دهشته وهلعه حين تبين أن السموم لم تصبه بأي سوء. وهنا كان لابد للأمير أن يندفع لإطلاق الرصاص على الرجل الرهيب. وعندئذ فقط تحرك الرجل فنهض من مكانه وانطلق يدور في جنبات الغرفة مهتاجًا يهاجم الأمير ويتخبّط, وقد انبعثت منه خوار كخوار الثور والرصاص ينهمر عليه دون توقف, ومع ذلك فقد ظل صامدًا لا يموت. ولم يجد الأمير إلا أن ينهال على الرجل بعصا غليظة ثقيلة حتى قضى عليه...ثم حمل الجميع جثته وألقوها في النهر...!

انتحار الدكتاتور

الطاغية الثاني كان أدولف هتلر دكتاتور ألمانيا الذي لعب دورا هو أخطر الأدوار في العالم. كان هتلر رجلا عبقريا دون شك, ولكنه كان عبقريا في الشر, من النوع الذي يتصف بالوحشية والرغبة في سفك الدماء والبربرية الاستبدادية التي لم يظهر مثيلها من قبل. ومنذ تولى حكم ألمانيا أدت السلطة المطلقة إلى فساده كالحال دائما مع كل من يمتلك هذه السلطة. لقد قام قبل أن ينتحر وهو في السادسة والخمسين, بمذبحة قتل فيها عدة ملايين من الأشخاص الأبرياء, وأدخل العالم في حرب مدمّرة لم يعرف لها مثيل في التاريخ البشري.

وكان بارعا في الفتك بضحاياه يخون أصدقاءه وأعداءه على السواء, ويأمر بذبح معارضيه ويقيم المجازر ضد الملايين ممن لا يرغب في إبقائهم على قيد الحياة.

وإذا كان الطاغية الألماني قد نشأ في القاع إلا أنه أصبح أبشع قاتل في القرن العشرين, لقد تعلم هتلر تمجيد الحرب والفتوحات, وذكر في إحدى المناسبات أن أجمل شيء يستطيع الإنسان أن يقوم به هو إشعال الحرب وغزو الشعوب الأجنبية. فالسلام في رأيه يعتبر شيئا كريها بالنسبة للبشرية لأنه يفسد الرجال ويجعلهم يركنون إلى النعومة والليونة, وهو لم يأخذ في حسابه الملايين من البشر الذين قتلوا في الحرب العالمية الثانية وهم لايزالون في ريعان شبابهم أو مئات الألوف من الشباب الذين أصيبوا بالعمى والتشويه. فهو لم يكن يهتم كثيرًا بمثل هذه الأمور لأنه كان يعتقد أن هذه هي سنّة الحياة التي يجب أن تكون شديدة وقاسية.

منذ تولى حزبه النازي أمر المستشارية في ألمانيا وأخذ يرسم خطوط المستقبل التي تقول (إن ألمانيا فوق الجميع وأن الشعب الآري هو أجدر الشعوب بالحياة) أعلن في العالم قوله: (إنني أحمل رسالة تاريخية وإنني مصمم على تحقيق هذه الرسالة لأن الله قد وكل إلي تنفيذها, لذلك سأحطم كل من يقف في طريقي...!). وعلى الطريق كانت هناك دول محيطة أراد أن يضمها إلى قبضته بالقوة والعنف والتدمير.

وبدأ بتشيكوسلوفاكيا وتبعها ببولندا حيث كانت بداية الحرب العالمية الثانية في أبريل 1939. وأكّد هتلر أنه يرغب في إشعال الحرب صائحا في قادته العسكريين: (اغلقوا قلوبكم أمام الشفقة, نفّذوا كل أعمالكم بوحشية. فإن الإنسان القوي يكون دائما على حق, واعلموا دائما أن الذي يستطيع أن يدير شئون العالم لا يستطيع أن ينفذ ذلك إلا عن طريق القوة فهي خير طريق للنجاح....!).

وفي آخر أيام السلم كان هتلر قد أمر بتحرك مليون ونصف المليون جندي في 31 أغسطس 1939 إلى مواقعهم على الحدود البولندية, وبدأ الحرب, وأعلنت فرنسا وبريطانيا الحرب على ألمانيا, وانتشرت رائحة الموت في كل مكان من أوربا لتشمل أيضا الدنمارك والنرويج ثم هولندا وبلجيكا. وفي فبراير 1941 كان هتلر قد بدأ يعتقد في قرارة نفسه أنه أصبح الفاتح الذي لا يُهزم وبدأ يستعد للهجوم على روسيا.

وحدث ما قرره رغم معارضة بعض قادته, إلا أن الشتاء القاسي اضطره إلى التراجع بعد هزائم متوالية وهي ضربة لم يستطع هو ولا قواته أن يبرأ منها بعد ذلك, وأصبح الطريق أمام هتلر الطاغية مؤديا إلى الكارثة ونقطة التحوّل الكبرى التي لم تمنعها أوامره إلى قواده: (ممنوع الاستسلام نهائيا, وعلى الجيوش أن تحتفظ بمواقعها إلى آخر رجل فيها, وإلى آخر طلقة معها).

ولكن كان لابد من الانيهار وأخذ نجم الطاغية يأفل سريعا, وحين طوّقت قوات الغرب وأمريكا وروسيا برلين لجأ هتلر إلى سرداب الرانجستاج ومعه عشيقته لينتحرا معا, وكانت آخر كلماته في ذلك اليوم التاسع والعشرين من أبريل 1945: (لقد قررت ألا أقع في أيدي الأعداء الذين يطلبون أن يمثلوا بي أمام الجماهير). واختفى الطاغية هتلر ولكن ذكرى الكابوس الذي خلفه على العالم ومقتل ملايين الأبرياء من البشر لاتزال باقية ومستمرة حتى الآن.

الدوتشي في الوحل

الطاغية الثالث بنيتو موسوليني, وكما لابد أن يحدث مع الطغاة والمتجبّرين, كانت الحرب العالمية الثانية قد فتحت الجروح المتقيّحة على إيطاليا التي انضمت إلى الألمان فيما سمي بدول المحور. وإذا كان الدوتشي وقياداته قد حاولوا إيهام الشعب الإيطالي بأنهم يحققون الانتصارات الكبيرة على الحلفاء, فإن الإيطاليين كانوا يدركون مدى الكوارث التي نزلت بإيطاليا وساءتهم نتائج المعارك التي لا تحقق النجاح على يد جيوش الدوتشي. وبدأ الإيطاليون يشعرون بأن الدوتشي أصبح جزءا لا ينفصل عن الظلم والقسوة والهزيمة في كل ميدان نتيجة النظام الفاشي الذي أوجده موسوليني حتى اتجهت البلاد إلى الانهيار والخراب.

وازداد الشعور المعادي للفاشيست في إيطاليا, وكان لابد أن ينتهي الأمر بسقوط الطاغية الفاشي وإمبراطوريته الفاشية بانتهاء عام 1942. وتم القبض على الدوتشي واعتقاله في أعلى سجن في العالم في (جران سامو). وحين تمكن من الهرب بعد ذلك تابعته لجنة التحرر القومي الثائرة على الفاشيست ومعها هيئة اللجنة السرية التي تضم المتطوعين الأحرار ممن تطوعوا من البلاد المستعمرة والذين عانوا حكم الفاشيست. وأطاح تحالفهما بالإمبراطورية الفاشية واعتقلوا الدوتشي وقادته. وفي يوم الواحد والعشرين من أبريل عام 1945 حملت الجميع عربات مدرّعة وهي تسرع في الطريق إلى ميلانو يقودها عضو اللجنة السرية (والتر أوديسيو), وبأمر منه وقفت المدرعات وأنزل منها الدوتشي وجرازياني وبادوليو وكلارا بيتاتشي صديقة موسوليني التي صحبته إلى يومه الأخير. ووقف الجميع بأمر من أوديسيو وهو يرفع في وجوههم مدفعه الرشاش بعد أن كان قد تلقى أمرا بإعدام الطاغية ورفاقه. وبعد طلقات عدة من المدفع المصوّب إلى صدورهم أنزل بهم جميعا حكم الإعدام. وجمعت الجثث وأُلقي بعضها فوق البعض الآخر في السيارات التي سارت وسط الأوحال في طريقها إلى (أزالو) حيث وضعت الجثث أمام الأهالي. واقترب شابان وأخذا يضربان رأس جثة موسوليني بأقدامهما ولم يتركاه إلا وقد تشوه وجهه تماما. ومع صرخات الجماهير رفعت جثث الجميع من أرجلها إلى أغصان شجرة وانهالت عليها عشرات الأحذية التي لم يكن الحشد يرى فيها سوى وجوه ملطخة بالأوحال.

آخر الطغاة حتى الآن

الطاغية الأخير - وما أكثر الطغاة حتى الآن - هو صدام العراق الذي أراد أن يحارب العالم, وراح يضرب عن يمين وشمال وكأنه دون كيشوت. ثم فوجئ العالم كله بأنه كان نمرًا من ورق, كشفت عن حقيقته الأحداث الأخيرة التي لا يحتاج الأمر فيها الآن إلى مزيد من الحديث عن البداية والنهاية. وهي البداية التي تابع الناس والتاريخ أحداثها وبخاصة حربه مع إيران لثماني سنوات سقط فيها أكثر من مليون إنسان من الجانبين, ليتجه بعدها بغير ما انتصار وبما يشبه الاستسلام ليغزو جارته الكويت التي لم تبخل عليه بشيء من مال أو بترول, حتى كانت (عاصفة الصحراء), و(أم المعارك) ثم (أم الاستسلام).

كل ذلك بالإضافة إلى مئات الآلاف من قتلاه المدفونين في مقابر جماعية راحوا ضحية المدافع والقنابل والرصاص والغازات السامة. وبينما كان يحكم بالحديد والنار لم يكن يترك مسدسه حتى في اجتماعاته مع قادة حزبه ووزرائه ليطلق النار على من يعترضه ومن لا يوافق على رأيه وقراراته. ومع ذلك فقد تناسى هذا المسدس نفسه عندما حان الحين, فلم يجرؤ على استخدامه ضد معتقليه أو للتخلص من حياته حرصًا على ألا يراق دمه الذي يراه أغلى من دماء الملايين من أبناء شعبه.

وكما قال أحد الكتّاب الكبار المتابعين لأحداث السقوط الأخير للطاغية: (إنه كان مثل كل الطغاة مغرورا, جاهلا, جبانا, إذ توهّم أن جيشه من الأشاوس والمغاوير والنشامى سوف يكونون سترًا وغطاء له, ولكن ذلك الجيش استسلم وسقطت بغداد بعد أن تم قبض الثمن. ولأنه جبان فهو لم ينتحر مثل هتلر ولم يحاول الهرب مثل موسوليني وإنما استسلم مثل شاوشيسكو لتكون له النهاية نفسها. أما استسلامه فلأنه أصيب بغيبوبة تامة إذ انفضت الدنيا من حوله, لا جيش ولا شعب ولا أبناء ولا زوجة ولا خدم ولا حشم ولا حرس جمهوري, فحكم على نفسه أن يُدفن حيا في مغارة, وأن يرتد فأرا في جحر على نهر دجلة, حتى كتب له الأمريكان عمرًا ثانيًا, هو أرذل العمر وأحط الحياة, ليموت بأيدي ضحاياه وبالقانون والعدل الذي حرّمه على الملايين....!

 

سليمان مظهر

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات