أرقام

أرقام

النمو الرديء!

في أوائل عام (2004) ثار خلاف حاد بين الولايات المتحدة الأمريكية ومنظمة الصحة العالمية. لم يكن الخلاف حول الآثار الصحية للأسلحة الكيماوية أو البيولوجية أو ما يجري استخدامه في العمليات العسكرية من أسلحة لها علاقة بالإشعاع. كان الخلاف حول قضية (السمنة) والبدانة.

في ذلك التاريخ كانت المنظمة العالمية قد وضعت برنامجا لمعالجة ظاهرة البدانة والتي تعاني منها دول كثيرة. وكان نوع الغذاء الذي يتناوله الإنسان في مقدمة ماهو مستهدف من جانب المنظمة, لكن الولايات المتحدة - وبسبب مصالح الشركات - كان لها رأي آخر, وكانت لها تحفظات حول البرنامج.

هكذا اتفق الطرفان على أن البدانة مرض يثقل كاهل البشرية, ولكن الخلاف بدأ حين مس العلاج مصالح اقتصادية هنا وهناك.

وقد بدا في هذا الوقت أن البدانة ليست مرضا شخصيا فقط, لكنه أيضا قد يكون مرضا اقتصاديا وسياسيا.

في الوقت نفسه, أذاعت الأمم المتحدة أرقاما متفائلة حول اجتياز العالم لمرحلة ركود استمرت عدة سنوات وقالت الدراسة التي حملت عنوان (آفاق الاقتصاد العالمي سنة 2004) إن النمو الاقتصادي العالمي سوف يتسارع خلال العام الجديد وأنه سوف يصل إلى معدل (3.5) في المائة مسجلا تفوقا ظاهرا عن العام الذي سبقه, وفي الوقت نفسه سوف تنتعش التجارة العالمية وتنمو بنسبة (7.5) في المائة. أما الأسباب فتبدأ من عاصمتين: واشنطن والتي وفرت حافزًا كبيرًا للاستثمار عن طريق تخفيض اسعار الفائدة بشكل غير مسبوق مع إعفاءات ضريبية أيضا للمستثمرين, وبكين التي ينمو إنتاجها وتنمو تجارتها الخارجية بسرعة.

العالم إذن بصحة جيدة, ولكن - وكما قلنا - فإنه ليس كل نمو يحمل علامة صحة.. إنها البدانة وليست الصحة.

كان في التقرير السنوي نفسه الذي أذاعته الأمم المتحدة في يناير (2004) تحفظ يقول: (لكن ذلك التحسن لن ينعكس على أسواق العمل, فالبطالة مازالت شبحا يهدد الجميع).

وهكذا جاءت شهادة الأمم المتحدة لتؤكد ما كان أحد برامجها وهو البرنامج الإنمائي قد أذاعه عام (1996).

بدانة الاقتصاد

في ذلك التاريخ (96) كان تقرير التنمية البشرية قد سك مصطلحا جديدا وهو (النمو الرديء) وقال إن هناك خمسة أنواع من النمو الرديء فهناك (النمو عديم الشفقة) الذي لا يستفيد منه غير الأغنياء, وهناك (النمو الأخرس) الذي تزيد فيه الثروة ويزيد فيه القمع السياسي وتغيب فيه الديمقراطية, وهناك ثالثا (نمو بلا جذور) تضمحل فيه الهوية الثقافية وتتعرض للتهميش أو الفناء, ثم هناك (نمو بلا مستقبل) يضحي بالأجيال القادمة وما قد تملكه من ثروات طبيعية ليغذي الحاضر وينعشه.. وهناك أولا وأخيرًا: (النمو بلا فرص عمل).

في عام (2004) كان العالم قد شهد الكثير من ذلك: نمو بلا شفقة يزيد معه الثراء ويزيد معه الفقر.. ونمو بلا جذور أو مستقبل, ونمو بلا فرص عمل وهو ما تحدث عنه تقرير الأمم المتحدة حين تنبأ بنمو جيد عام (2004) واضمحلال لفرص العمل في الوقت نفسه.

إنها البدانة أو (السمنة) إذن وليست الصحة, فما الذي جرى للعالم?

في تفسير كلمة النمو تجيء حكاية (الناتج المحلي) والناتج حاصل جمع ما يحدث من مصادر دخل في قطاعي الأجور وعوائد التملك, لكن كفة الميزان كانت تميل عاما بعد آخر لزيادة نصيب الملاك في العالم واستحواذهم على الجزء الأكبر من كعكة الدخل, ففي عام (1960), وكما تقول تقارير التنمية البشرية أيضا كانت الشريحة العليا في العالم, أي العشرون في المائة العليا تحظى بما يعادل ثلاثين ضعفا للشريحة الدنيا (أي العشرين في المائة الأدنى), ولكن وبعد ثلاثين عاما من التقدم أصبحت النسبة (61 : 1), وأصبح (20) في المائة من سكان العالم يحوزون (85) في المائة من دخل الدنيا بأسرها, في مقابل سبعين في المائة من عام (1960).

إنه تركز الثروة وانتشار الفقر, وهو عصر الشركات والدول والاقتصادات العملاقة!

من هنا - وفي عام (2004) - كانت الحملة شديدة على سياسة الإدارة الأمريكية التي أعطت الأغنياء أولا عن طريق برامج للإعفاءات الضريبية, بل ورد ضرائب سبق سدادها.

من هنا أيضا, ولأن الاقتصاد الأمريكي يؤثر بحجمه في العالم كله, فقد كان محل نقد شديد من المؤسسات الدولية, فالسياسة التي قامت على عسكرة الاقتصاد بدعاوى الأمن والإرهاب والحروب الخارجية أدت إلى أكبر مديونية وأكبر عجز مالي للولايات المتحدة.

في ذلك التاريخ قالت بعض المؤسسات المالية الدولية إن على الولايات المتحدة - صاحبة أكبر اقتصاد في العالم - أن تدخل تعديلات على ضرائبها ونفقاتها العامة بهدف وضع شئونها المالية (تحت السيطرة) ومقاومة الشهية اللامحدودة للاقتراض والذي من شأنه أن يرفع أسعار الفائدة في العالم, ومن ثم يعوق النمو هنا وهناك.

هكذا كان الجدل في بدايات عام (2004), ولكن التشخيص على هذا النحو لم يكن كاملا فيما أنتج النمو الرديء تغيرات هيكلية في اقتصاد الدول الصناعية الكبرى وليس مجرد سياسة الإدارة في عام أو عامين.. هنا أو هناك.

لقد نمت فكرة العولمة وفتح الحدود - أي فتح الأسواق - حين أحرزت الولايات المتحدة ومعها عدد من الدول الصناعية الكبرى تقدما كبيرا في مجال التكنولوجيا, وهو تطور أسعد البشرية وأشقاها, فبينما كان كفيلا بتقديم إنتاج أكثر وأرقى كان - وفي الوقت نفسه - كفيلا بتقليل فرص العمل فما كان يلزمه ألف عامل على سبيل المثال, لم يعد بحاجة لأكثر من مائة عامل لينتج القدر نفسه وربما أكثر, بل إن أنماطا جديدة من فنون الإنتاج والإدارة والأعمال قد أطلت على العالم فأصبح ميسورا أن تعمل إحدى المؤسسات من مكتب صغير, وأن يبقى الموظفون في منازلهم يتلقون الأوامر ويؤدون العمل أمام شاشة الكمبيوتر المنزلية.

حدث ذلك التطور ولم يكن هناك حل للمشكلة - مشكلة البطالة وتصريف الإنتاج الكبير - غير اجتياز الحدود وفتح أسواق العالم أمام المارد الجديد, وبالطبع فإن الفوز للأكثر قدرة على كسب الوقت وكسب الأسواق.

هكذا حدثت العولمة والتوسع في الأسواق تحت شعار (التجارة هي الحل).

وهكذا جاءت مسيرة منظمة التجارة العالمية.. وبينما كان التنافس والتعاقد والتفاهم الدولي هو أسلوب الدول الأوربية الكبرى واليابان, كان النهج الأمريكي مختلفا, وكان ما أسماه مفكر اقتصادي بارز هو الدكتور سمير أمين: (عسكرة العولمة).. ودون دخول في التفاصيل كان ذلك هو الوجه الآخر لما أسمته الولايات المتحدة حرب الإرهاب, فكانت القفزة إلى وسط آسيا في أفغانستان, ثم القفزة إلى حقل بترول العالم عبر احتلال العراق والانتشار من قزوين إلى الخليج, ولم تخف واشنطن ذلك فجاءت خطة الأمن القومي بعد أحداث سبتمبر وهي تحمل الأمرين معا: (مقاومة الإرهاب.. وفتح الأسواق)!

هكذا بدأت قصة النمو الرديء: تقدم تكنولوجي هائل تصحبه ظاهرة انكماش في سوق العمل وبطالة تجد مخرجا لها في الأسواق والسياسات الخارجية والحملات العسكرية تماما كما حدث إبان نشأة الاستعمار مصاحبا للكشوف الجغرافية والثورة الصناعية.

لكن ذلك لم يكن الوجه القبيح الوحيد لذلك النمو غير المتوازن بين الدخل وفرص العمل.

..وعامل آخر خطير

كان الوجه الآخر هو ما أشرنا إليه من اتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء فتكدس الثروة وتركزها في الشرائح العليا قد يساعد على ضخ أموال أكثرللاستثمار, ولكن وبسبب وفرة اليد العاملة فإنه قد لا يساعد على نمو مماثل في قطاع الأجور, وبما يعني تقليل فرص الاستهلاك.

الأغنياء لا يدركون ذلك وعندما تنكمش أسواقهم, أو تنمو بأبطأ مما يرجون يقولون: التصدير هو الحل, وليس إعادة توزيع الدخل في مجتمعاتهم, وبما يسمح بزيادة القدرة الشرائية للطبقات الفقيرة.

في عام (1996) أشار التقرير السابق للبرنامج الإنمائي للأمم المتحدة إلى أن (358) مليارديرا في العالم يمتلكون أصولا تعادل مجموع الدخول السنوية لبلدان تمثل نصف سكان العالم أو بالتحديد (45) في المائة من السكان أي نحو (2.5) مليار من البشر!..

.. الأكثر, وفي ذلك التاريخ فإن (89) دولة - وبالقياس لعشر سنوات مضت - كانت اقتصادياتها تتدهور.. و.. من ثم, وبينما زاد إجمالي الناتج القومي للعالم خلال فترة (75 - 85) على سبيل المثال بنسبة أربعين في المائة.. فقد زاد الفقر أيضًا بنسبة (17) في المائة.. واستمر الحال كذلك حتى بدايات القرن الـ (21).

إنها مرة أخرى.. قصة النمو الرديء. يزيد الدخل ويزيد الفقر!.. و.. عندما يزيد الفقر تقل القدرة على الاستهلاك, ومن ثم تضيق فرص عمل لازمة لتقديم إنتاج وخدمات أكثر.

هي الدوامة يدخلها العالم فهل تكون الحروب هي الحل?

حين تقدمت وزار ة الدفاع الأمريكية بتقريرها للكونجرس حول حرب الخليج الثانية ومساهمة القوات الأمريكية فيها بالجهد الرئيسي لم يفت التقرير أن يشير لفرص العمل التي خلقتها الحرب داخل الولايات المتحدة عامي (90 - 1991).

أما في حرب الخليج الثالثة, أعني احتلال العراق, فقد صاحبها توسع كبير في الإنفاق العسكري, وبما جعل المحللين الاقتصاديين يقولون إن الاقتصاد الأمريكي قد انزلق إلى الركود بعد شهرين من تولي بوش الابن الإدارة عام (2000) إلا أن معدل النمو في الناتج المحلي الإجمالي قد بدأ في الارتفاع بعد أشهر قليلة من هجمات الحادي عشر من سبتمبر حيث تجاوز المعدل الـ (5) في المائة في الربع الأول من عام (2002) والـ (8) في المائة في الربع الثالث من عام (2003).

إنها العسكرة وأعباء الحروب الخارجية التي أفادت قطاعات بعينها في الولايات المتحدة بعد أن تضاعفت اعتمادات الأمن الداخلي وزادت الميزانية العسكرية لتسجل رقمًا تاريخًا لم يحدث من قبل.

هكذا يمكن أن يقول البعض: الحل في الحروب, لكنه حل مجنون, وها هي المؤسسات الدولية تطرح حلاً آخر للنمو الرديء وهو تخفيض الفقر والذي وضعت له الأمم المتحدة (أجندة خاصة) لتخفيضه عاما بعد عام وحتى سنة (2015). قبلها, وقبل أن يصبح ذلك التزاما دوليا كان صندوق النقد الدولي والذي طالما قدم خدماته للدول الأكثر ثراء يقدم برنامجه لمحاربة الفقر ومحاربة الفساد, وكان البنك الدولي يسير في الطريق نفسه. إنه السير إذن في الاتجاه المعاكس بأن تتحسن أحوال الفقراء فيستهلكون وتتحرك عجلة الإنتاج.. أو هي دائرة الاقتصاد تدور بشكل معاكس فيحرك الطلب العرض ويتدفق الإنتاج ومعه فرص عمل أكثر.

القفز للأمام

ومرة أخرى نسأل: هل من مخرج تتراجع معه ظاهرة النمو الرديء?.. هل تكون الحلول المطروحة وفي مقدمتها محاربة الفقر هي المخرج.. أم أن العالم بحاجة لقفزة جديدة للأمام?

ورقم

أطفال بلا ثمن

يقول علماء التربية إن اللعب ضروري للطفل, وأنه وحده يساعد على تنمية القدرات واكتشاف المواهب.. بل واكتشاف العالم أيضا, ويقولون إن (النوع) ذكرا أم أنثى كثيرا ما يحدد خيارات الطفل فبينما تميل الطفلة إلى ألعاب تقلد فيها الإناث والأمهات, يميل الطفل لألعاب العنف والحرب والعسكرة.

ويبدو أن بعض الدول والجماعات قد أرادت أن تجعل من اللعب حقيقة فدربت الأطفال على أعمال الحرب الحقيقية وجعلت منهم جنودًا ومحاربين.

حدث ذلك في إفريقيا وآسيا, وربما يكون قد حدث في البلقان, ما جعل الأمين العام للأمم المتحدة يصدر تقريرًا في نوفمبر (2003) يدين فيه (15) دولة و(40) جماعة متمردة.. وكانت الإدانة - وفي سابقة نادرة - بذكر أسماء الدول والجماعات, وهو ما دعا في تاريخ لاحق وبعد شهرين من التقرير مجلس الأمن لعقد جلسة علنية خاصة لبحث قضية استغلال الأطفال الذين تقل أعمارهم عن سبعة عشر عامًا.

قبلها, كانت الحملة لمحاربة استغلال الأطفال في تجارة الجنس.

وقبلها كانت الحملات العالمية ضد خطف الأطفال وانتزاع أعضائهم في تجارة جديدة هي تجارة الأعضاء البشرية.

وقبلها, كانت الدراسات قد تدفقت حول مأساة الطفل والمرأة في معسكرات اللاجئين التي صاحبت الحروب الأهلية في إفريقيا وآسيا.. ولكن, ومع هذه الدراسات كانت هناك أرقام تقول إن هناك تقدمًا يحدث في مجالات التعليم والصحة.

على أي حال, الطفل, أي المستقبل, هو المشكلة.. لكن مجال البحث هذه المرة شاذ ومستغرب, فكيف يتحول الطفل إلى مقاتل? وما الأسباب التي تجعل بعض المجتمعات تلقي بأبنائها إلى أتون الحرب? هل هو الشذوذ الإنساني, والذي جعل بعض الدول الإفريقية تفقد مئات الآلاف في حروب عرقية لا طائل من ورائها? هل هي المشاعر الإنسانية المفتقدة والتي جعلت أطفال الشوارع في أمريكا اللاتينية هدفا لرصاص الهواة, يقتلونهم في الطريق العام?.. هل هو جنون الحرب وأتونها التي لا ترحم فتستدعي الأطفال بعد الرجال?

في كل الأحوال, مازالت البشرية تعيش الظاهرة..

ظاهرة (أطفال بلا ثمن)!

 

محمود المراغي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات