المعرفة... صناعة المستقبل

المعرفة... صناعة المستقبل
        

أصبح الاستثمار في مجال المعلومات يمثل واحداً من أهم أوجه استثمار رأس المال الإنساني والاجتماعي.

          كان من نتائج التقدم الهائل في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصال حدوث تغيرات جذرية واسعة في أساليب الحياة المعاصرة وبخاصة في طبيعة العلاقات الاجتماعية والاقتصادية وتعديل بعض جوانب التشريع واستحداث بعض التغييرات في النظم والمؤسسات الكبرى في المجتمعات المتقدمة. وإذا كان المجتمع المعاصر يوصف بأنه مجتمع المعلومات التي تتدفق فيه المعلومات في سهولة ويسر بحيث يمكن الحصول عليها من مصادر كثيرة متنوعة دون عناء أو تكاليف باهظة, وقد أصبحت المعرفة والإبداع من أهم العوامل المؤثرة والمحددة لقيام ما يطلق عليه اسم (مجتمع المعرفة) الذي لا يقنع باستخدام المعلومات لفهم واقع الحياة وأحداثها وتفاعلاتها والاستفادة منها في توجيه مختلف أنماط الأنشطة وبخاصة في المجال الاقتصادي, وإنما يعمل بالإضافة إلى ذلك على (إنتاج) المعرفة وتسويقها بحيث تصبح مصدرا اقتصاديا رئيسيا يحمل في ثناياه بذور الهيمنة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

          ويتطلب ظهور مجتمع المعرفة توافر إمكانات خاصة تهيئ الفرصة للاضطلاع بالأعمال والأنشطة الجديدة الكثيرة التي تتفق مع التحول إلى إنتاج المعرفة واعتبارها سلعة تجارية تعرض للبيع والشراء وتكون مصدر دخل للمجتمع المنتج لها ويمكنها الصعود في وجه المنافسة العالمية كأي سلعة أخرى. وبطبيعة الحال فإن هذه الأعمال والأنشطة الجديدة أو المستجدة ستكون ذات طابع خاص ومتميز وتعتمد على أدوات ووسائل وأساليب جديدة تماما تحتاج إلى توافر نوع خاص من التعليم والتدريب يتناسب ويتلاءم مع الظروف والأوضاع الجديدة ويؤهل للقيام بالمهام الصعبة التي سوف تستخدم فيها هذه المعرفة, وهي مهام تتصل بشكل مباشر بتقديم الخدمات العامة التي سوف تمتد إلى مجتمعات ومناطق بل وإلى أشخاص لم يكونوا يحصلون عليها من قبل.

المعرفة كمصدر اقتصادي

          ويقول آخر أبسط وأوضح فإن المعلومات سوف تعتبر في مجتمع المعرفة الذي بدأت بوادره في الظهور منذ بضع سنين مصدرا اقتصاديا في ذاتها ولن تكون مجرد وسيلة لتحقيق أو تسهيل المعاملات الاقتصادية أو غير ذلك من متطلبات الحياة اليومية باستخدام الكمبيوتر والإنترنت وغيرهما من أشكال ونظم تكنولوجيا المعلومات وإنما سوف يتعدى الأمر ذلك إلى إنتاج المعرفة واعتبار القدرة على تحقيق ذلك هو السمة الأساسية المميزة لمجتمع المستقبل. فكأن الذي يميز مجتمع المعرفة ليس هو الحصول على المعلومات أو إمكان استخدامها بكفاءة وتسخيرها لتحقيق أهداف معينة ومحددة رغم أهمية هذه الوظيفة, وإنما الذي يميز ذلك المجتمع ويحدد قدرته على البقاء والصمود والتقدم والمنافسة هو (إنتاج) هذه المعرفة. وهذا أمر يختلف عن الوضع القائم الآن حيث تقنع معظم المجتمعات المعاصرة - بما في ذلك عدد من المجتمعات المتقدمة - بالبحث عن المعلومات التي تكفل لها القدرة على تصريف الأمور دون أن تعطي لمسألة إنتاج المعرفة ما تستحقه من عناية أو تهتم بتعرف المبادئ والأفكار والمناهج والأساليب التي تساعد على إنتاجها.

          وقد أصبح الحديث عن مجتمع المعرفة بمنزلة (موضة) شائعة في أوساط المثقفين في الخارج ومع ذلك فإن المفهوم نفسه يحيطه بعض الغموض وينقصه التحديد وإن كان يشير بشكل ضمني إلى توافر مستويات عليا من التعليم والبحث والتنمية وتكنولوجيا المعلومات والاتصال. وتواجه مسألة إمكان قيام مجتمع تسيطر عليه المعرفة وتوجهه وترسم له مساراته في المستقبل وتحقق له النجاح والازدهار كثيراً من التحديات والشكوك. ولكن الرأي السائد بين معظم المهتمين بالموضوع هو أن مجتمع المعرفة سوف يتحقق بصورة كاملة وواضحة على أرض الواقع بأسرع مما يظن الكثيرون. ويستند أنصار هذا الرأي إلى المقولة الشهيرة عن أن (المعرفة قوة) للتدليل على أن إنتاج المعرفة - وليس فقط حيازة المعلومات - هو الوسلة الوحيدة لضمان البقاء والاستمرار في الوجود بل وتحقيق السيطرة والهيمنة في عصر سوف يتميز بالصراع السياسي والاقتصادي والعلمي والثقافي لفرض الذات على الآخرين, سواء أكان هؤلاء الآخرون هم الأفراد أم الجماعات أم الدول. وكما يقول إدواردو بورتللا الأستاذ بجامعة ريو دي جانيرو الفيدرالية في المجلد الخمسين (العدد الأول صفحات 5-7) من مجلة ديوجين إن مجتمع المعرفة يمثل برنامجا متكاملا مخصصا للفعل وأن ذلك الفعل سوف يتضمن التعليم والعلوم والثقافة والاتصال مجتمعة كلها معا في وحدة متكاملة ومتماسكة, وأن إنتاج المعرفة سوف يكون سلعة رابحة تحمل معها السيطرة السياسية والمكانة الاجتماعية والهيمنة الثقافية والاقتصادية على المجتمعات الأخرى, وأن وجود ذلك المجتمع يرتبط بالتحرر ارتباطا وثيقا وأن ذلك لن يتحقق إلا إذا نظرنا إلى المعرفة من مختلف الزوايا على اعتبار أن المعرفة متعددة الأبعاد وأنه قد مضى العهد الذي كان الناس يأخذون فيه المعرفة على أنها ذات بعد واحد أو أحادية البعد ويركزون على ذلك البعد دون غيره ويغفلون بقية الأبعاد, هو أمر قضت عليه تكنولوجيا المعلومات والاتصال والمعرفة تماما, كما لم يعد هناك أسلوب واحد للتفكير والتعلم والمعرفة, وأن توفير مناخ الحرية والديمقراطية من شأنه العمل على تقدم مجتمع المعرفة كحق أساسي من حقوق الإنسان.

المعرفة الإلكترونية

          وساعدت الثورة الإلكترونية على فتح مجالات عدة ومتنوعة ومتشعبة تبشر بإمكان قيام مجتمع معرفة إلكترونية. وكما هو الشأن في كثير من مجالات العلم والتكنولوجيا كانت الولايات المتحدة أسبق من بقية دول العالم في وضع المبادئ الأولى لتأسيس هذه المعرفة وبعدها انتبهت أوربا إلى ضرورة اللحاق بأمريكا في هذا المجال وبدأت منذ قمة لشبونة في مارس عام 2000 تخطط لكي تصبح هي أكبر قوة تنافسية في هذا الميدان على مستوى العالم وأن يصبح اقتصادها أكبر وأقوى اقتصاديات العالم وأكثرها دينامية في الاعتماد على المعرفة الإلكترونية, ووضعت لتحقيق هذا الهدف خطة مستقبلية تعرف باسم (خطة العمل لأوربا الإلكترونية لعام 2002). وترتب على وضع هذه الخطة وتنفيذها اتجاه الاقتصاد الأوربي إلى المعرفة الإلكترونية وازدياد الاعتماد على الإنترنت وعلى التكنولوجيا الرقمية, بل وعلى استخدام التليفون المحمول والتلفزيون الرقمي للحصول على المعلومات. وتفوقت أوربا على أمريكا في استخدام بعض هذه الوسائل المعلوماتية. فبينما نجد على سبيل المثال أن 68% من السكان في أوربا يستخدمون التليفون المحمول لا تزيد النسبة على43% فقط بالنسبة لأمريكا, وبدأت أوربا تخطو خطوات واسعة نحو التحول الى مجتمع جديد يعتمد على المعلومات التي تتيحها له تكنولوجيا المعلومات والتكنولوجيا الإلكترونية ويقوم بإعداد كوادر جديدة مؤهلة تأهيلا خاصا لضمان استمرار النظام الجديد وتطويره تمهيدا للتحول إلى إنتاج المعرفة على نطاق واسع.

          والواقع أن المفوضية الأوربية كانت قد بدأت منذ ديسمبر عام 1999 - أي قبل انعقاد قمة لشبونة بأربعة أشهر - تهتم بوضع خطة قيام أوربا الإلكترونية حتى تسارع بدخول القارة إلى مجال اقتصاديات المعرفة. وتضافرت جهود دول الاتحاد الأوربي للتغلب على الهوّة أو الفجوة الرقمية digital gap التي كان تتسع بإطراد, ووضعت لنفسها أهدافا طموحة في بعض المجالات المهمة مثل التعليم والتدريب والحكومة الإلكترونية وإقامة مشروعات ثقافية ترمي في آخر الأمر إلى إنتاج وابتكار أفكار جديدة تسهم في قيام ذلك المجتمع الجديد الذي يرتكز كلية على المعلومات ويعمل على تقوية ودعم التماسك والتجانس الاجتماعيين عن طريق الاستخدام الأمثل للإنترنت وإتاحته للأفراد والمؤسسات والأجهزة الحكومية بتكاليف معقولة وإعداد أجيال الشباب للعصر الرقمي وللعمل في مجالات اقتصاديات المعرفة والتجارة الالكترونية العالمية والحكومة الإلكترونية والاتصال بالشبكات العالمية لتعرف محتوياتها والإفادة منها والإضافة إليها عن طريق الابتكار وريادة مجالات جديدة.

          وثمة مؤشرات عدة يمكن الاعتماد عليها في تحديد ووصف مجتمع المعرفة مثل مدى الاهتمام بالبحث والتنمية والاعتماد على الكمبيوتر والإنترنت والقدرة التنافسية في مجال إنتاج ونشر المعرفة على مستوى العالم. ومع أهمية هذه العناصر فإن العنصر الأساسي المميز لهذا المجتمع هو إنتاج المعرفة واعتباره إحدى الركائز الأساسية التي يقوم عليها الاقتصاد الجديد الذي تحل فيه المعرفة محل العمل ورأس المال, أي أن تكنولوجيا المعلومات والاتصال وغيرها من أساليب ونظم التقنية المتقدمة تلعب الدور الرئيسي في اقتصاديات المعرفة, فهي التي تساعد على قيام مجتمع المعرفة وتعطيه خصائصه ومقوماته كما أنها تحل محل التنظيم والإنتاج الصناعيين كمصدر أساسي للإنتاج بحيث يمكن تقويم السلعة ليس فقط حسب ما يدخل في تكوينها من مواد خام أو ما بذل في إنتاجها من مجهود أو ما انفق عليها من رأس المال وإنما حسب المعرفة التي أدت إلى ابتكار تلك السلعة وإنتاجها. فالمعرفة تعتبر هنا أهم عامل في الإنتاج, ومن هذه الناحية فإنها تفوق رأس المال والجهد المبذول في العمل. فالذي يحدد قيمة السلعة المعرفية إذن هو في المحل الأول الابتكار والفكر الكامن وراء إيداع تلك السلعة.

          وقد يكون من الصعب قياس مقدار المعرفة التي تدخل في عملية الإنتاج وذلك يعكس الحال بالنسبة للعناصر الأخرى التي يعطيها مجتمع الصناعة الأولوية في تقويم الإنتاج. وتمتاز المعرفة على تلك العناصر بقدرتها الفائقة على الانتقال والانتشار عبر العالم حين تتوافر الوسائل والظروف الملائمة, ولذا تحاول دول الغرب المنتجة للمعرفة إخضاع الشبكات الإلكترونية لرقابتها الصارمة وإثارة مشكلة الملكية الفكرية وفرض أسعار عالية على بيع المعرفة التي تنتجها أو السماح باستخدامها مما يحرم المجتمعات الأقل تطورا من الإفادة منها في تحقيق ما تصبو إليه من تقدم وازدهار.

خصائص مجتمع المعرفة

          ويتميز مجتمع المعرفة بعدد من المميزات والخصائص منها توافر مستوى عال من التعليم ونمو متزايد في قوة العمل التي تملك المعرفة وتستطيع التعامل معها وكذلك القدرة على الإنتاج باستخدام الذكاء الصناعي وتحول مؤسسات المجتمع الخاصة والحكومية ومنظمات المجتمع المدني إلى هيئات ومنظمات (ذكية) مع الاحتفاظ بأشكال المعرفة المختلفة في بنوك المعلومات وإمكان إعادة صياغتها وتشكيلها أو تحويلها إلى خطط تنظيمية وذلك فضلا عن وجود مراكز للبحوث القادرة على إنتاج المعرفة والاستفادة من الخبرات المتراكمة والمساعدة في خلق وتوفير المناخ الثقافي الذي يمكنه فهم مغزى هذه التغييرات والتجديدات ويتقبلها ويتجاوب معها. فمجتمع المعرفة يختلف عن مجتمع المعلومات الذي يقوم على استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصال في أنه مجتمع قادر على إنتاج البرمجيات (أشكال المعرفة المختلفة) وليس فقط استخدام أو حتى إنتاج المعدات الصلبة أو الأجهزة التي تستخدم في الحصول على المعرفة. وإذا كان (العمل) في المجتمع الصناعي يعتمد على المعرفة المتاحة فإن (المعرفة) في مجتمع المعرفة المستقبلي تعتبر هي (العمل), ولذا تحتاج هذه المعرفة إلى مراجعة مستمرة كما تحتاج إلى تكنولوجيا المعلومات حتى يمكن تحويلها إلى مشروعات وسلع تقوم عليها اقتصاديات المعرفة في المجتمع الجديد. وإذا كانت التجربة والتعليم هما المصدرين الأساسيين للمعرفة فإن المشكلة التي يتعين التصدي لها هي تحديد نوع المعرفة التي سوف يحتاج إليها مجتمع المستقبل والتي يمكن تطبيقها وتسويقها لأن المعرفة التي لا تباع ولا تشترى كما قال أحد المفكرين الأمريكيين سوف تعتبر عديمة الجدوى والفائدة.

          والسؤال الذي يشغل بال الكثيرين من العلماء المهمومين بمشاكل العالم الثالث وقيام مجتمع المعرفة الذي سوف تقاس إليه درجات التقدم والتخلف هو: ما وضع المجتمعات النامية من هذه الثورة المعرفية? وهل تستطيع استيعابها والتجاوب معها فضلا عن إمكان الإسهام فيها? لاشك أن عملية إنتاج المعرفة واستخدامها, بل وتسويقها تعتبر مسألة جوهرية بالنسبة للتنمية والتطور والتقدم الاقتصادي والاجتماعي واللحاق بالمجتمعات الغربية المتقدمة. وثمة دون شك من المفكرين من يشك في إمكان وصول مجتمعات العالم الثالث إلى مرحلة إنتاج المعرفة مباشرة ودون أن تمر أولا بمرحلة التصنيع التي مرت بها مجتمعات الغرب خلال تاريخ تطورها الاقتصادي. فليس من السهل على المجتمعات النامية أن تقفز فوق مرحلة التصنيع التي ميّزت تاريخ المجتمعات الغربية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين. وعلى ذلك فالمتوقع هو أن اقتصاديات المعرفة سوف تؤدي إلى اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء بدلا من ردمها أو تضييقها كنتيجة منطقية لتوافر المعلومات وإتاحتها للجميع, ورغم كل ما يذهب إليه البنك الدولي في تقرير (التنمية العالمية 98/1999) عن (المعرفة والتنمية) والذي يبين فيه أن تضييق الفجوة المعرفية بين مختلف الدول من ناحية وبين الشرائح والجماعات المختلفة داخل الدولة الواحدة من الناحية الأخرى هو هدف رئيسي يواجه كل المؤسسات والمنظمات المهتمة بالتنمية الدولية مثلما يواجه الحكومات الوطنية ذاتها, وأن ملء هذه الفجوة أو الهوّة المعرفية هو خطوة أساسية في طريق التنمية الاقتصادية على أساس أن المعرفة عنصر مهم في الإنتاج, كما أن نمو المعرفة عامل مهم أيضا في دفع المجتمع الى استمرار النمو والتقدم, فالذي يؤدي إلى الفقر والتخلف هو قلة أو انعدام المعرفة القائمة على الابتكار والتي تساعد على المنافسة.

الهوّة المعرفية

          وعلى أي حال فإن ثمة زيادة واضحة ومطردة في عدد الذين يتصلون بمصادر المعرفة العالمية ويستفيدون منها حتى في المجتمعات النامية, ومع ذلك فإن الهوّة المعرفية سوف تزداد اتساعا مع العالم المتقدم في مجال إنتاج المعرفة حيث لا تملك دول العالم الثالث لا الإمكانات والوسائل ولا الإعداد الذهني والعلمي ولا رءوس الأموال والتكنولوجيات الأساسية لإنتاج المعرفة ولا القدرة على النشر والتسويق في حال النجاح في إنتاج معرفة جديدة في بعض الميادين عن طريق التركيز - مثلا - على دراسة خصائص الموارد الطبيعية المتوافرة لديها مثل الأعشاب والنباتات الطبيعية لاستخلاص فوائدها في علاج بعض الأمراض المستعصية وتصنيع الأدوية اللازمة منها. فالتوصل إلى المعرفة لن يكفي في حد ذاته للدخول إلى مستوى مجتمع المعرفة إذ لابد من تحويل هذه المعرفة إلى برمجيات يمكن تسويقها على المستوى العالمي, وهذا أمر يحتاج إلى مهارات وقدرات لا تتوافر في الأغلب للعالم الثالث كما يحتاج إلى استثمارات ضخمة حتى يمكن الصمود أمام المؤسسات المتعددة الجنسيات التي تسيطر على سوق المعرفة بما في ذلك المعرفة المحلية في الدول النامية ذاتها.

          والخطير هنا هو أن الكثير من مؤسسات الغرب المهتمة بتنمية العالم الثالث تحصل أثناء تنفيذها لمشروعات التنمية في تلك المناطق على معلومات كثيرة ومتنوعة تستغلها لصالحها الخاص وتحقيق مكاسب وأرباح خيالية من بيعها إلى المؤسسات التي تقوم بتحويلها إلى سلع تحقق لها هي أيضا مزيدا من المكاسب والأرباح. فالمعرفة تكتسب قيمة مضافة من إمكانات تسويقها, وواضح من هذا كله أن الذي يتحكم في الهوة أو الفجوة المعرفية ويعمل على استمرارها هي الجماعات الاستراتيجية القوية في بحثها عن المكاسب المادية وعن الربح والثروة وما يرتبط بذلك من هيمنة اقتصادية وسياسية وأن استمرار الهوّة المعرفية مسألة مفتعلة إلى حد كبير لضمان استمرار تفوق الغرب وهيمنته على اقتصاديات العالم.

          وربما كان أصدق ما يلخص الموقف الآن بالنسبة لمجتمع المعرفة وضرورة العمل على ملء الثغرة المعرفية التي تفصل العالم المتقدم عن العالم النامي هو ما قاله الرئيس الماليزي مهاتير محمد عام 1991 - أي منذ أكثر من عقد كامل - وهو يصف ما يجب أن يكون عليه المجتمع الماليزي حتى يمكنه مسايرة الأوضاع الجديدة التي سوف تنشأ في المستقبل القريب: (لقد مر على الإنسانية وقت كانت الأرض تعتبر فيه هي الأساس الضروري للازدهار والثروة, ثم جاءت مرحلة تالية تتمثل في عصر التصنيع وفيه ارتفعت المداخن حيث كانت تقوم الحقول. أما الآن فإن المعرفة أصبحت تؤلف - وبشكل متزايد - ليس فقط أساس القوة ولكن أيضا أساس النجاح والتقدم, ولذا فيجب ألا نبخل ببذل أي جهد لإقامة مجتمع ماليزي معلوماتي غني). وما قاله مهاتير محمد يصدق بحذافيره على كل المجتمعات اللاغربية حتى تستطيع مسايرة ومتابعة التطورات المتلاحقة في مجتمع المعرفة الذي تتبلور ملامحه بسرعة فائقة والذي سيفرض نفسه بقوة في وقت غير بعيد. والطريقة الوحيدة التي يمكن لهذه المجتمعات اللاغربية أن تأخذ بها نفسها هي العمل على تكوين وتنشئة أجيال جديدة من المواطنين تكون لهم توجهات مختلفة عمّا هو سائد الآن وقدرات على التأمل والتفكير والإبداع والابتكار بحيث يؤلفون قوة ضخمة عاملة في إنتاج المعرفة وهم من يطلق عليهم الآن اسم Knowledge workers الذين يكرّسون جهودهم في إنتاج وتطوير وتطبيق المعرفة في مختلف المجالات, فإنتاج المعرفة يحتاج إلى وجود ثقافة معرفية متميزة في مجتمع مهيأ للتعامل معها وفهمها, وإلا أصبح ما نسميه مجتمع المعرفة مجرد هيكل مادي خال من الإنسانية وفارغ من الحياة.

 

أحمد أبوزيد