لنتذكّر... ابن الشاطر رائد نظرية النظام الشمسي سليمان فياض

لنتذكّر... ابن الشاطر رائد نظرية النظام الشمسي

رمضان كريم

مع مجيء هذا الشهر الفضيل تسمو أجسادنا بالصوم, وتتسامى أرواحنا بنفحات الإيمان. ولابد أن يترافق ذلك كله بنوع من الارتقاء العقلي, نتذاكر معه الإسهامات المضيئة للحضارة العربية الإسلامية في سعي الإنسان على الأرض, ومن أبرز هذه الإسهامات علم الفلك. لهذا نختار أن يكون احتفاؤنا بهذا الشهر الكريم, احتفاء علميا, يدور حول سؤال تحديد بدء وانتهاء شهر الصوم, من موقعين علميين يخلفان, لكنهما يظلان في دائرة الاجتهاد, ويؤكدان معاً على سماحة واستنارة الإسلام العظيم.

اعترف مؤرخ العلوم ديفيد كبلنج بأن نظريات (كوبرينك) في الفلك ثبت أنها مأخوذة عن ابن الشاطر, الفلكي العربي المسلم, وادّعاها كوبرينك لنفسه.

في الحضارات القديمة, في الصين والهند وفارس وبابل واليونان ومصر الفرعونية وحضارات المايا والأزتيك, كون الإنسان معلومات فلكية متناثرة عن الفضاء وما فيه. بعضها يمت للعلم بصلة, وبعضها غارق في تصوّرات أسطورية, عن الفضاء المحيط بالأرض, وما فيه من كواكب ونجوم.

وكانت الشمس, وعلاقتها بالأرض وما عليها, ومن عليها, المحور الأول لهذه المعلومات, وتلك التصورات.

وكان تعامل المصريين مع المعلومات الفلكية مرتبطا أوثق الارتباط بحياتهم الزراعية, من غرس وحصاد, وفيضان للنهر, ونضوب لمياهه. على حين كان تعامل الإغريق مع هذه المعلومات الفلكية مرتبطا أوثق الارتباط بالنظريات, ومن بينها نظرية نظام المجموعة الشمسية, الشمس وكواكبها, ولم يكن أحد قد اكتشف بعد سوى سبعة كواكب, وعلاقتها ببعضها البعض. وطرحت النظريات الإغريقية فرضيتين لهذه العلاقة. وجاء الطرح في صورة سؤال: أيها يدور حول الآخر?

وقد أجاب عن هذا السؤال عالمان فلكيان إغريقيان مصريان, عاشا في مدينة الإسكندرية, وكانا يشتغلان بالرياضيات وعلوم الفلك في مكتبة الإسكندرية, وكانت مكتبة جامعة في الوقت نفسه, وبها مرصد فلكي, لعله كان الأول من نوعه في العالم.

والتصور الأول كان تصور العالم الفذ أرسطرخس, الذي عاش في القرن الثالث قبل الميلاد, وكان من أوائل واضعي نظرية حركة الأرض حول الشمس ودورانها على محور مائل على مستوى دائرة البروج. ولم يبق من مؤلفاته سوى أحجام وأبعاد الشمس والقمر, ولكن بعض نظرياته عرفت عن طريق أرشميدس (287-212 قبل الميلاد). وقد رأى أرسطرخس أن الشمس هي مركز لمجموعة شمسية من الكواكب السبعة, وأن الكواكب السبعة, وبينها الأرض, تدور حول الشمس, فتكون الفصول, وأن كلا منها يدور حول نفسه, فتكون الأيام بنهاراتها ولياليها.

والتصور النظري الثاني كان تصور بطلميوس (كلوديوس بطلميوس, وقد نشأ بمدينة الإسكندرية في الربع الثاني من القرن الثاني قبل الميلاد, وتوفي بعد عام 161 قبل الميلاد. وكان عالماً يونانياً مصرياً في الفلك والرياضيات والفيزيقا كما كان مؤرخا وجغرافيا) وهو أشهر جغرافي فلكي يوناني مصري, ونظامه هو صورة الكون كما تخيله القدماء, والأرض عنده في هذا النظام في المركز, وتدور باقي الأجرام السماوية حولها في دوائر وبسرعة منتظمة, وقد فسر أبعاد الكواكب واقترابها من الأرض بفرض مسارات دائرية صغيرة لهذه الكواكب, أي أفلاك تدوير, تحرك مراكزها على محيط دوائر, تقع الأرض في مركزها. ثم أضيفت أفلاك تدوير أخرى لتفسير تقهقر الاعتدالين وظواهر أخرى. بل إنه قال إن الأرض هي المركز الذي يدور حوله كل ما في السماوات العلا, أي الكون, من نجوم وكواكب, وشهب ونيازك.

وقد انتصر تصور بطلميوس وساد بين علماء وساسة عصره من البطالمة, فقد كان يروق لإنسان عصره, أن يرى أرضه مركزا تدور حوله الشمس, وتدور حوله الكواكب, بل الكون بأسره, ولم لا, مادام هو الإنسان أشرف وأرقى المخلوقات على الأرض?

توارى تصور أرسطرخس للنظام الشمسي, كما اختفت تماما جل كتبه ورسائله الفلكية والرياضية. ولم تبق عنه سوى معلومات متناثرة, في بطون الكتب القديمة والحديثة, ولولا ما كتبه أرشميدس عنه لم يبق له ذكر ولا أثر.

وقد امتدت سيطرة نظرية بطلميوس على الفكر العلمي الفلكي من بعده, من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع عشر الميلادي, أي سبعة عشر قرنا, بينها سبعة قرون في العالم العربي الإسلامي, وإلى القرن السادس عشر الميلادي, في الحضارة الغربية الحديثة, أي تسعة عشر قرنا بالتمام والكمال.

سيطرت نظرية بطلميوس الفلكية عن النظام الشمسي - أو الأرضي في رأي بطلميوس - على فكر علماء الفلك في العالم العربي الإسلامي, برغم العالم العربي الفذ البيروني, الذي عاش في القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي, والذي قال بالمنطق والجدل, برأي مثل رأي أرسطرخس, انطلاقا من أن الأرض كروية, وأنها تدور حول محور لها, فتكون السنوات والفصول, وتدور حول الشمس - ومثلها الكواكب الستة الأخرى - فتكون الأيام والنهارات والليالي.

وظلت نظرية بطلميوس هذه مسيطرة على الفكر العلمي الفلكي, إلى أن جاء العالم الفلكي العربي لحما ودما, الدمشقي السوري موطنا ومولدا ونشأة ووفاة ابن الشاطر, ونسف نظرية بطلميوس نسفا, فلم تقم لها قائمة بين المؤقتين وعلماء الفلك في العالم الإسلامي, بدءا من أواخر القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي.

ويقينا أن الحضارة العلمية العربية الإسلامية لم تعرف أرسطرخس, إلا عن طريق ما ذكره أرشميدس عنه, فلم تكن له كتب باقية تترجم إلى العربية, مثل غيرها من الكتب العلمية اليونانية.

من يكون إذن ابن الشاطر?

ابن المؤذن... حفيد المؤقت

اسمه, على الطريقة العربية, في كتب الموسوعات العربية: علاء الدين أبو الحسن: (علي ابن إبراهيم بن محمد بن الهمام بن محمد بن إبراهيم بن حسن) الأنصاري الدمشقي. وقد عرف بين الدمشقيين خاصة, والشوام عامة, ومعهم المؤرخون وعلماء الفلك, بلقب: ابن الشاطر, نسبة إلى من علمه, في صباه وشبابه, فن التطعيم للخشب بالعاج والأصداف, والقرون والعظام. وكان لقب الجد الأعلى لهذا المعلم هو ابن الشاطر. ومن غرائب المصادفات أن يكون اسم هذا المعلم هو: علي بن إبراهيم, وكان في الوقت نفسه زوجا لخالته.

ولد علي بن إبراهيم الصغير بمدينة دمشق في أواخر عهد الأيوبيين سنة (704 هــ/ 1304م), وكان أبوه مؤذنا بالمسجد الأموي, وكان جده كبيرا للمؤقتين لمواقيت الصلاة بهذا المسجد الجامع, وعلى قدر لابأس به من المعرفة بعلم الفلك, شأنه شأن سائر المؤقتين بالمساجد الكبرى الجامعة, في مدن العالم الإسلامي, مهتدين بحركات الشمس, وبزوغ النجوم ومغيبها, وانتشار أضواء الفجر الكاذبة وأضوائه الصادقة, الطولية منها في الأفق والمستعرضة, لتحديد مواقيت الصلاة.

وتوفي والد علي الصغير وكان لايزال طفلا فرعاه جده. ومع هذا الجد أحب الحفيد علي علم التوقيت, وشغف بعلم الفلك. ولاشك أنه تلقى قدرا من التعليم في مرحلته التعليمية الأولى لمبادئ القراءة والكتابة والحساب, وربما قطع شوطا في دراسة الرياضيات بالمرحلة التعليمية الثانية, في مدرسة من مدارس دمشق العديدة, والتي كان عددها قد أربى في القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي على أربعين مدرسة.

ومن غير الراجح أن عليا اليتيم قد أتيحت له فرصة الدراسة العليا المتخصصة في مدرسة من هذه المدارس, فقد توفي جده وهو بعد صبي, وكانت أمه قد تزوجت قبل سنين. وكان عليه أن يعلم نفسه بنفسه, فقد عشق العلم, وخاصة علمي الرياضيات والفلك, وأن يتعلم حرفة تمنحه فرصة طيبة للعيش الكريم, وتغنيه عن طلب منحة من هذه المنح التي كانت تمنح في زمانه لطلاب العلم في مدارس دمشق ومساجدها, وتتيح له فرصة الفراغ في الليالي الطويلة لدراسة الرياضيات والفلك بجهده الخاص, مستعينا بمن يعرفهم - بلا شك - من علماء دمشق.

ومد له يده سميه: علي بن إبراهيم, ودرّبه في ورشته لتطعيم الخشب بالعاج على حرفة التطعيم, عاما بعد عام, ويقينا أن عليا الصغير قد أفاد لمهنته من معرفته بالرياضيات, في وضع نماذج من التصميمات الجديدة, لتطعيم أخشاب الأبواب والنوافذ والجدران والسقوف في المساجد والقصور, وتطعيم أخشاب الأثاثات المنزلية من أسرّة وصناديق ودواليب, وتطعيم ألعاب الأطفال الخشبية بقطع العاج الملونة, بل وصنع ألعاب للأطفال من خالص العاج الملون, من جمال وخيول وطيور وحيوانات. فقد كان قد مهر في الرياضيات, وبينها المعرفة الوثيقة بالأشكال الهندسية, وحساباتها الزخرفية في التصميم والتنفيذ.

وآية مهارته أنه ألف كتاباً في الرياضيات هو كتاب: الجبر والمقابلة, وأنه صار غنيا من ممارسته للتطعيم بيديه تصميما وتنفيذا, ومشرفا على المطعمين العاملين معه في ورشة زوج خالته المعروفة آنذاك بـ(المعوَجة), كما صار شهيرا بهذا الفن في الشام كله, وكثير الأسفار لشراء العاج والأصداف والقرون والعظام من مواطنها في الهند والسودان, بألوان أفضل وأنواع أجود, مما كان سميه يشتريه منها من مدينة القدس, التي كانت شهيرة بدورها بالتطعيم شهرة دمشق بها.

قرن الرياضيات والفلك

صار ابن الشاطر الصغير وافر الثراء, وصار له في مدينة دمشق قصر عجيب الصنع, على ما ذكرته موسوعات العصر الوسيط العربية. ووجد من المال والفراغ ما دفعه لتحقيق حلمه الكبير, أن يكون عالما من علماء الفلك, متجاوزا حدود ما يعرفه المؤقت من معارف علم الفلك, وقد كان في الوقت نفسه, وهو المطعّم الثري, مؤقتا وكبيرا للمؤقتين, مثلما كان جده, بالمسجد الأموي الجامع. فقد صحب آل بيته, وجاب معهم أرجاء فارس والعراق, وزار القاهرة والإسكندرية. وهنا وهناك التقى علماء من علماء الفلك, وحصّل ما لديهم من معارف الفلك, ومن هنا وهناك حمل معه كتبا في الفلك, بعضها أزياج, أي جداول فلكية, شهيرة, وآلات فلكية, ورسائل وكتيبا عنها, وعن كيفية عملها, ووظائف كل منها في الرصد الفلكي. وعاد إلى دمشق بآل بيته, ومن رزق بهم من بنين وبنات في طريق السفر, بعد ثلاث سنوات.

كان طموح ابن الشاطر الصغير لا يحد بلاشك, فمرصد دمشق كان آنئذ مرصدا متواضعا, بالنسبة إلى ما سبقه من مراصد كبرى كانت في بغداد في العصر العباسي, وسمرقند ومراغة في عهد المغول, والقاهرة في عهد الحاكم بأمر الله الفاطمي.

وفي هذا المرصد الدمشقي المتواضع بدأ ابن الشاطر الصغير رحلته مع علم الفلك, وعلماء الفلك, وفضاءات الفلك, مستفيدا من رفاق معه في مرصد دمشق, ومفيدا لهم ببصيرته النيرة, وحسن قراءته لمعطيات الأرصاد, في الوقت نفسه, ولقد ساندته وساندتهم معه دراستهم لعلوم الرياضيات, وخاصة علم المثلثات الكرية, وكان نصير الدين الطوسي قد قطع شوطا كبير بهذا العلم الإغريقي النشأة, عندما كان سجينا في قلعة ألموت عند الحسن الصباح زعيم جماعة الحشاشين, ثم عندما صار مشرفا ومسئولا عن مرصد مراغة في عهد تيمورلنك إثر اعتناقه لدين الإسلام.

وكان القرن الثامن الهجري / الرابع عشر الميلادي الذي عاش فيه ابن الشاطر هو أشهر قرون الحضارة الإسلامية معرفة بالرياضيات وعلم الفلك. وفيهما ارتقى علم الفلك ذرى سامقة, بفضل جداول ابن الشاطر الفلكية الكبيرة والصغيرة, ورسائله القصيرة عن الآلات الفلكية وعملها ووظائفها, وعن تطويره لبعضها, واختراعه لبعضها الآخر.

في دمشق راحت كتب ابن الشاطر عن آلات الرصد الفلكية تتوالى عن الرُّبع المجيَّب منها, والتام, والمقطوع, والجامع, والهلاليّ, والشكازية, والمقنطرات, وعن الإسطرلاب, والآلة الجامعة. ومعها رسائل فلكية في الهيئة الجديدة, وفي تصحيح الأصول, والعمل بالدقائق باختلاف الآفاق المرئية, واستخراج التأريخ, وصندوق اليواقيت, وتعليق الأرصاد. كما ألف كتبا تحمل هذه العناوين: أرجوزة في الكواكب, لفظ الجواهر في معرفة الخطوط والدوائر, الزيج الجديد, لُمعة ابن الشاطرِ وهو الكتابُ الذي شرحه ولخصه, من بعده, كثيرون من العلماء, في أنحاء العالم الإسلامي, طوال قرون تالية, في الشام والقاهرة.

وكان تاج كتب ابن الشاطر هو: (زيْج ابن الشاطر), وهو الكتاب الذي صار به مدرسة فلكية متميزة في الشام كله, مدرسة تعادل وتماثل في تميزها مدرسة ابن يونس الفلكية في مصر, قبل أربعة قرون. ففي هذا الكتاب حقق ابن الشاطر أماكن الكواكب, وبيّن سائر حركاتها. وقد رتب كتابه أحسن ترتيب, وشرح كل ما ورد به في مائة باب. ويأتي هذا الزيج, أو الجداول الفلكية, من حيث تسلسله التاريخي, بعد زيج البتّاني, وزيج الطّوسى, وزيج ابن يونس الحاكمي.

وفي هذا الكتاب قلب ابن الشاطر نظرية بطلميوس عن الشمس والكواكب رأسا على عقب, أو فلنقل إنه أوقفها على قدميها.

فقد برهن ابن الشاطر رياضيا وفلكيا, في هذا الزيج, ثم في زيجه الصغير الجديد, على أن الأرض, وهي من الكواكب السبعة, تدور حول نفسها, على محور لها, مرة في كل يوم, فيكون الليل والنهار, وحول الشمس مرة في كل سنة شمسية, فتكون الفصول الأربعة. وكذلك تفعل سائر الكواكب من دوران حول نفسها, ودوران حول الشمس في أفلاك دائرية حول الشمس متباعدة.

ومن قبل ابن الشاطر كان العالم الموسوعي البيروني, قد قال بما يقارب هذه النظرية, لكنه لم يبرهن على ما قاله رياضيا أو فلكيا, وكانت برهنته منطقية جدلية. ومن قبلهما كان العالم الإغريقي أرسطرخس - كما أشرنا - قد قال بهذا الرأي, فيما ترويه من أخبار كتب الموسوعات الغربية الحديثة. لكن أحدا لم يكترث في زمان أرسطرخس بوجهة نظره, كما لم يعرفها أحد من الفلكيين بعد زمانه, فقد فُقدت كل كتبه, ولم يعرف له كتاب واحد من كتبه ترجم إلى العربية, في العصور الوسطى, على كثرة حرص المسلمين, في العصر الوسيط, بين حضارات العالم القديم والحضارة الحديثة, على ترجمة كتب علماء الإغريق والبطالمة السكندريين.

ولم تتوقف جهود ابن الشاطر الفلكية عند حدود مؤلفاته الفلكية ونظرياته في الفلك, فقد ابتكر, وهو كبير المؤقتين بالجامع الأموي, ساعة أسماها (البسيط) كانت معلقة على إحدى مآذن الجامع الأموي, كي يعرف منها الوقت ليلا ونهارا بالساعة والدقيقة.

أولى ساعات الدنيا!

لقد روى خليل الصفدي المؤرخ (1296 - 1363م) في موسوعته, وكان صديقا لابن الشاطر, أنه رأى في قصر ابن الشاطر بدمشق آلة من النحاس معلقة على جدار, لا يزيد قطرها عن نصف ذراع (ثلاثين سنتيمترا), وبها عقرب يدور حول مركز الدائرة بهذه الآلة, بانتظام عجيب, فظن أن ما يراه هو اسطرلاب جديد اخترعه ابن الشاطر, فأخبره ابن الشاطر أنها ساعة ابتكرها وصنعها بيديه من النحاس, واستخدم فيها صنعة الحيل (الهندسية الميكانيكية) ليعرف بها الزمن في النهار والليل, ودون رمل ولا ماء, ولا ظل متحرك للشمس.

ولو صح ما رواه الصفدي فهي أول ساعة حائط معدنية من نوعها عرفتها الدنيا, بل أول ساعة ميكانيكية عرفها العالم, كما يقول الدكتور زهير حمدان. ومن قبل ابن الشاطر كان ابن يونس الفلكي قد ابتكر الرقاص أو البندول, ليفيد منه الفلكيون في أعمال الرصد الفلكية. ولعل ساعة ابن الشاطر المعدنية كان بها رقاص يتحرك يمنة ويسرة, طوال الليل والنهار.

ولم يعرف بعد أن لابن الشاطر كتاباً عن الساعات الميكانيكية, بين مؤلفاته الرياضية والفلكية, ولعله يكون قد وضع مثل هذا الكتاب, ووصل من بعده, بعد نحو من مائة وخمسين عاما, إلى عالم الفلك والحيل والمضخات والبخار, السوري الأصل, الحجازي المولد, المصري النشأة والثقافة (تقي الدين الراصد), وصنع في ضوئه وفي هديه وبإرشاده, في القرن الهجري العاشر / الميلادي السادس عشر, أكثر من نموذج لساعات ميكانيكية, بينها كانت ساعة ميكانيكية فلكية. وقد وضع تقي الدين عن ساعاته هذه كتابا, وأشاد في كل كتبه بالعالم ابن الشاطر.

وعن ساعة ابن الشاطر قال محمد أحمد دهمان, في المقدمة الضافية التي كتبها في تحقيقه لكتاب (علم الساعات والعمل بها) لابن رضوان الساعاتي:

(انتهى علم الساعات إلى علي بن إبراهيم المعروف بابن الشاطر, فأخرجها من دائرة الماء إلى دائرة الميكانيك, ومن دائرة الخشب الصلب إلى دائرة المعدن, وصنع ساعة صغيرة بعد أن كانت تبلغ عدة أمتار, فجعلها ابن الشاطر ثلاثين سنتيمترا, وأدخل فيها الآلات المعدنية, واستغنى بها عن الماء وآلاته الخشبية الطويلة. ولاشك أن هذه الساعة كانت أولى الساعات التي وصلت إلى أوربا, وأنه كان أول مخترع لساعات الجدران).

***

في القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي, كانت الثقافة العلمية الإسلامية تواصل انحدارها من أوج التفوق الذي كانت قد بلغته من قبل. ومع ذلك فقد ظهر في هذا القرن أفراد موهوبون, من بينهم في المغرب ابن خلدون أبوعلم الاجتماع, وابن بطوطة أعظم الرحالة في العصور الوسطى, وابن خاتمة صاحب أول كتاب في العالم عن وباء الطاعون, وابن البناء المراكشي رائد الكسور الاعتيادية, وأبو الفدا المؤرخ, والنويري الكاتب الموسوعي, وحافظ الشيرازي الشاعر, والمؤرخان: رشيد الدين, وحمد الله مستوفي, وقطب الدين الشيرازي رائد علم الظواهر الجوية, وكمال الدين الفارسي صاحب نظرية الضوء الموجية, والجلدكي رائد علم المذيبات.

وإذا كانت المؤلفات الثقافية الأصيلة التي ظهرت بين المسلمين في هذا القرن, أقل عددا بالقياس إلى ما أنتجه المسلمون من قبل, فقد تبوأ علماء المسلمين في هذا القرن مركز الصدارة, في الطب والرياضيات والفلك.

***

وقد كتب عن ابن الشاطر في الغرب مستشرقون ومؤرخون للعلوم من بينهم: بروكلمان في: (تاريخ الأدب العربي), وسميث في: (تاريخ الرياضيات), وسيديو في: (خلاصة تاريخ العرب), وشاخت ويوزرث في: (تراث الإسلام), وفيدمان في: (ابن الشاطر: فلكي عربي من القرن الرابع عشر الميلادي), وصالح زكي في: (قاموس الرياضيات) وهو باللغة التركية, وجورج سارتون في كتابه: (المدخل إلى تاريخ العلم). وقد قال سارتون فيما كتبه عن ابن الشاطر:

(إن ابن الشاطر عالم فائق الذكاء, فقد درس حركة الأجرام السماوية بكل دقة, وأثبت أن زاوية انحراف دائرة البروج تساوي 23 درجة و31 دقيقة عام 1365 الميلادي, علما بأن القيمة المضبوطة التي توصل إليها علماء القرن العشرين هي: 23 درجة, و31 دقيقة و19,8 ثانية).

كما كتب عنه مؤرخ العلوم ديفيد كبلنج مقالا في كتابه: (قاموس الشخصيات العلمية. قال فيه:

(لقد عثر في بولونيا, موطن كوبرينك (1473-1543م) على مخطوطات عربية عام 1937, وثبت أن كوبرينك كان يأخذ عنها, ويدعي لنفسه ما يأخذ. ولقد ثبت منذ عام 1950 أن نظريات كوبرينك في الفلك, هي في أصلها مأخوذة عن ابن الشاطر الفلكي العربي المشهور, وادّعاها كوبرينك لنفسه. وبذلك يكون ابن الشاطر قد سبق كوبرينك, الذي عاش في القرن السادس عشر الميلادي, بوضع نظريته عن حركة الكواكب, ودورانها حول الشمس, أو ما يسمى الآن بالنظام الشمسي). وكان كوبرينك, أو نيقولا كوبرينكوس, وهو فلكي بولندي, قد كتب بحثا أعلن فيه وضعه لنظرية حول دوران الأرض والكواكب حول الشمس, وأهدى بحثه إلى البابا بول الثالث, ولكن هذا البحث لم ينشر إلا في عام 1543, وهو العام الذي توفي فيه كوبرينك.

***

وليس بعد هذا الاكتشاف عام 1937وذلك القول لديفيد كبلنج من مزيد, في سياق ما يسمى حوار الحضارات الدائر اليوم بين الشرق والغرب, أو بالأحرى بين الشمال والجنوب, أو بالأدق في سياق التصحيح الواجب لصورة العرب والإسلام الحضارية العريقة, والتي ينبغي لأبنائها أن يتمثلوها

 

سليمان فياض