ساعة الأعمار

 ساعة الأعمار
        

ما من مخلوق بشري إلاّ وتمنى أن يعيش أطول وقت ممكن, بأفضل صحة ممكنة. ولقد شكّل هذا هاجساً في البحث العلمي يُعتبر من أبرز ما شغل علماء الطب والبيولوجيا في السنوات الأخيرة. لكن النتائج التي تمخض عنها البحث, حتى الآن, تضع البشر في موقع الدهشة!

          هل يمكن إبطاء زحف الشيخوخة وربما إيقافها ومنع تسارع العمر نحو الأجل المحتوم?

          لم يكن هذا السؤال مطروحا على ساحة البحث العلمي حتى خمسة عشر عاماً مضت ولم يكن هناك بين الباحثين والعلماء من يخطر بباله التشكك في حتمية الأجل المضروب, تلك الحتمية المتمردة على كل محاولات التدخل الإنساني.

          فما الذي غير هذه الفرضية وأدخل هذه المسألة في إطار الجدل العلمي الذي يفتش عن فرصة لتحقيق حلم الإنسان القديم, حلم الخلود?

          جاء التطور الأبرز والأهم عندما اكتشف توم جونسون وزميله ديفيد فريدمان من جامعة كاليفورنيا وجود أحد المورثات الجينية في الديدان من فصيلة النيماتود وأن هذا المورث يمكن له أن يطيل عمر هذه الديدان بنسبة 65% زيادة على المعدل الطبيعي. لم يكن الإعلان عن مثل هذا الكشف بالشيء الذي يمكن استقباله بالقبول والتسليم حيث كان صوت المشككين هو الأقوى بالاستناد إلى أن الجينات لا يمكن لها أن تتحكم في عملية تقدم العمر الذي يحدث من وجهة نظر هؤلاء العلماء نتيجة انهيار تدريجي في وظائف الجسم الحيوية وهو ما لا يمكن الحئول دون حدوثه.

          بعد ذلك ومع تدفق المعلومات الصادرة من مراكز الأبحاث بدأ المعارضون في تخفيف لهجة المعارضة.

          كانت أول التراجعات في بناء النظرية التقليدية حول الشيخوخة والعمر هو قبولهم بأن الكائنات الحية البسيطة مثل الديدان والحشرات الطائرة تمتلك (برنامجا زمنيا) يحدد مدة الحياة وأن هذا البرنامج الزمني يمارس مفاعيله من خلال حفنة من الإشارات الجزيئية التي تتحكم في معدل تقدم العمر.

          ثم جاء التطور الأهم على يد مجموعة من العلماء الفرنسيين الذين كشفوا النقاب عن أن الثدييات تمتلك هي الأخرى برنامجا زمنيا مشابها وأن طفرة في المورثات الجينية لفئران التجارب يمكن لها أن تطيل عمر هذه الفئران عبر مسار مشابه لذلك المسار الموجود لدى ديدان النيماتود.

          مثّل هذا دليلا قويا وواضحا على أن الثدييات تمتلك هي الأخرى البرنامج الزمني نفسه الموجود في الديدان.

          منذ ذلك الوقت أصبح هناك تصور واضح عن إمكان وجود ساعة زمنية داخلية للتحكم في عمر الكائنات الحية ساعة تدير عقاربها تلك المورثات الجينية وكان أن انتقل الجدل للمرة الأولى إلى إمكان تطبيق هذه القاعدة على الحياة الإنسانية وكما تقول عالمة الوراثة من جامعة كاليفورنيا (سينثيا كينيون) (من الواضح أن هذا المسار ينظم ويتحكم في المعدل الذي تتقدم به الشيخوخة ومن المحتمل أن يكون للتدخل الإنساني دور في تعديل هذا المسار).

البرنامج الوراثي.. والمعارضة

          هل حقا يمكن للمورثات الجينية أن تتحكم في مدة العمر ومعدل حدوث الشيخوخة?

          يقول المعارضون لهذه الفرضية إنه لو كان هذا ممكنا فلا بد أن يكون لقانون الاختيار الطبيعي دوره في اختيار تلك المورثات التي تؤدي دورا في تحديد عمر الإنسان وهو أمر يتناقض مع ما هو مستقر لدى الباحثين في هذا المجال, خاصة أن انتقال المورثات من جيل إلى جيل يتم في مراحل العمر الإنساني الأولى قبل أن تبدأ مرحلة الشيخوخة وقبل أن يعرف من هو الأطول عمراً من بين البشر.

          إنه الموقف نفسه الذي تبناه أحد أشهر علماء الشيخوخة ليونارد هايفيلك الذي تقدم العملاء الموقعين على رسالة تحذر الناس من الوقوع في شرك الاعتقاد بإمكان التلاعب في مدة العمر الإنساني قائلا إن العمر ليس برنامجا وراثيا وأن المورثات الجينية ليست مسئولة عن تدهور وظائف الجسم الفسيولوجية فضلا عن تحكمها في طول العمر أوقصره.

          على الناحية الأخرى كان داروين صاحب نظرية النشوء والارتقاء هو أول من أشار عام 1859 لإمكان ارتباط الموت والشيخوخة بالمورثات الجينية ثم جاء من بعده ألفريد راسيل والاس بأطروحة الاختيار الطبيعي القائلة بأن البشر يموتون حتى لا تحدث المنافسة بين الأجيال تلك الفكرة التي دعمها من بعده العالم الألماني أوغسطس وايزمان ورفضها علماء البيولوجيا الحيوية الذين لاحظوا أن الحيوانات المفترسة يمتد بها العمر في الأسر أطول مما هي عليها الحال في حياة الغابة فأين إذن يوجد ذلك البرنامج الوراثي?

          ومازال الكلام لمعارضي أطروحة البرنامج الوراثي فلو كان هذا البرنامج حقيقة واقعة لشهدنا أناسا يمتلكون تلك الطفرة الوراثية التي تسمح لهم بعمر أطول وذرية أكثر مما أدى بوايزمان قبل عام من وفاته عام 1920 إلى استبعاد تلك النظرية.

          في العام 1970 طرح عالم الشيخوخة الأمريكي توم كيركوود أطروحة التبادلية بين الطاقة التي تستخدم في تجديد الخلايا اللازمة لإدامة الحياة وتلك التي تستخدم من أجل التناسل والتكاثر حيث تقول تلك الأطروحة إن الإنسان يمتلك رصيدا محددا من الطاقة الحيوية وأنه كلما زادت كمية الطاقة الموجهة نحو التكاثر قلت تلك الطاقة الموجهة نحو التجديد والبقاء مما يؤدي إلى ظهور معالم الشيخوخة بشكل أسرع.

          ثم جاء عام 1980 حينما اكتشف جونسون المورث age-1 في ديدان النيماتود ذلك المورث القادر على تمديد فترة بقاء تلك الديدان, إلا أن هذا الاكتشاف لم يحظ بما يستحقه من الاهتمام.

          ثم جاء العام 1993 وفيه قامت العالمة كينيون باكتشاف مورث آخر يمكنه أداء الدور نفسه بصورة أكبر هو داف 2 daf-2 تلك الاكتشافات أدارت الرءوس هذه المرة خاصة عندما تبين أن داف2 يمتلك تأثيرا أكبر من age-1 في إطالة عمر الديدان بنسبة الضعف.

          اتسع مجال البحث حول هذه المورثات وحصل على مزيد من الزخم عندما نجح الباحثون في جامعة هارفارد في عزل وتشخيص المورث داف2 حيث تبين ذلك المقدار الكبير من التماثل بينه وبين مستقبلات الإنسولين في الخلية البشرية, تلك المستقبلات المسئولة عن التحكم في استخدام الطاقة.

          إنه إذن تأكيد على الارتباط بين اقتصاديات استخدام الطاقة لدى الكائنات الحية ومدة بقاء هذه الكائنات على قيد الحياة. ثم توالى اكتشاف تلك المورثات (داف-2) في الكائنات الحية بما فيها فئران التجارب حيث ظهر التشابه الكبير بينه وبين المورث الجيني (لعامل النمو المشابه للإنسولين IGF-1) ذلك الهرمون الذي يلعب دورا رئيسا في تنظيم استهلاك الطاقة لدى البشر حيث تبين أن تعديل عمل هذا المورث في فئران التجارب يمكن له أن يطيل مدة بقاء فئران التجارب بنسبة 33% لدى الإناث و16% لدى الذكور.

          إنه إذن الاكتشاف الأبرز الذي يشير إلى ارتباط مدة العمر بالمورثات الجينية ومن ثم إمكان تعديل هذا النظام الداخلي.

          كيف يمكن لهذه المورثات أن تعدل من مدة بقاء الكائنات الحية?

          جاء الجواب عندما تبين أن تلك الكائنات التي جرى تعديل تلك المورثات فيها تمتلك قدرة أكبر على تحمل الأضرار الناجمة عن التعرض للأذى الناجم عن الكيماويات ودرجات الحرارة المرتفعة فوق معدلها الطبيعي والأشعة فوق البنفسجية ولكن الاستفادة من قوة التحمل تحتاج على قوة وفعالية عوامل الالتئام الحيوية التي تتصدى لعوامل الأكسدة الداخلية كما تبين أن المورث داف2 يحتاج إلى معاونة رئيسية من المورث داف16 المسئول عن إنتاج الإنزيمات المانعة لاهتراء الخلية الحية.

مجرد أمنية!

          لم يتوقف الجدل العلمي حول حقيقة هذا الاكتشاف الذي مازال مفترضا حتى الآن لمجرد أن العلماء والباحثين أثبتوا بالفعل وجود تلازم بين تعديل المورث داف2 وزيادة مدة العمر فما الذي يمنع أن يحدث تعديل هذا المورث مفعوله من خلال منع مرض ما ولنفترض أنه مرض القلب?

          من هنا حاول الفريق البحثي إعطاء إجابة لهذا السؤال من خلال وضع قياسات علمية لعملية تقدم الشيخوخة على مستوى الخلية الحية وقد ثبت بالفعل أن هناك بعض التغيرات التي تم إبطاؤها على مستوى الخلية مثل ملاحظة التغيرات الحادثة في جدران النواة التي حافظت على وجودها لمدة عشرين يوما في خلايا الدودة ذات المورث داف2 المعدل, بينما اختفت هذه الجدران خلال أيام معدودة في الدودة العادية.

          وبينما يستمر ذلك الجدل معلقا في الفضاء ويسعى كل فريق لإثبات صحة نظرته تبقى الحقيقة القائلة إن محاولة الإنسان وربما سعيه لاستبقاء الشباب مجرد أمنية في الخيال بعيدة المنال, ويبقى الحديث عن دور المورثات الجينية محصورا في إطار ما هو معروف عن دورها في منح الكيانات الحية القدرة على مقاومة التحديات الطبيعية والمرضية ومواجهة الأعاصير التي تعصف بكل من يدب على ظهر الأرض حتى يأتي الأجل المحتوم.

          ويبقى لنا نحن المسلمين تلك الكلمات الخالدة التي قالها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والتي تؤكد أن الصدقة على وجهها, وبرّ الوالدين واصطناع المعروف يحوّل الشقاء سعادة ويزيد في العمر ويقي مصارع السوء.

          فربما كان العمل بهذه النصيحة أقرب منالا وأفضل عاقبة في الدنيا والآخرة من محاولة تعديل الجينات.

 

أحمد راسم النفيس   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




الأيادي.. هل تحمل على جلودها علامات مرور السنين.. ساعة العمر?





التيلوميرات ـ الأطراف التي تحمي الكروموسومات تتوهج بصبغة فسفورية, وهي مؤشر على شباب أو شيخوخة الخلايا