آليات التكاثر البشري شفيق السيد صالح

حكاية الحبة

كيف حدث الانفجار السكاني الذي ينوء به كوكبنا الهش؟ سؤال تكمن في الإجابة عنه بداية العثور على حلول حقيقية لمأزق هذا الانفجار.

و في محاولة للفهم يأخذنا الكاتب إلى حكاية تبدأ من اكتشاف الزراعة- أي اكتشاف سر الحبوب- إلى اكتشاف كوابح الإنجاب- أي اكتشاف حبوب منع الحمل ...
ولنتتبع الحكاية.

عند ميلاد المسيح كان سكان الأرض 250 مليون نسمة وفي منتصف القرن التاسع عشر تخطينا حاجز المليار الأول، ثم وصلنا الآن إلى ما يربو على خمسة مليارات. وينتظر آن يتضاعف هذا العدد بعد قرن من الزمان.

وليس الهدف من تلك الحكاية بيان مساوئ هذا الانفجار وآثاره على سكان الأرض وما يستتبعه من فقر وتخلف وصراع بين الشمال والجنوب فهذا موضوع له أهله وباحثوه.

إنما المرجو هنا هو محاولة فهم آليات التكاثر البشري والعوامل المؤثرة فيه، والقوانين التي تحكمه، خاصة في ظل الحملات المتصاعدة في كل بلدان العالم (الثالث) لتنظيم الأسرة والسيطرة على خصوبة الإنسان، وهي حملات- رغم جديتها- لم تتمخض عن النتائج المرجوة، ربما لأننا لم نأخذ في الحسبان- عن عمد أو جهل- إلا جانباً واحدًا: هو الجانب الفسيولوجي ولم نحاول أن نقترب من الحلول الثقافية والاقتصادية والسوسيولوجية وركزنا على منع التقاء البويضة بالحيوان المنوي.

من أين تبدأ الحكاية؟

في البدء كان الإنسان العاقل

تبعاً لرواية أهل علم الإنسان Anthropology يُقال إن الحكاية تعود إلى عصور سحيقة في التاريخ، بل إلى ما قبل التاريخ بعصور، قبل الميلاد بثلاثة ملايين سنة حيث كان تعداد الإنسان الأول في ذلك الوقت حوالي مائة وخمسين ألف نسمة فقط لا غير.

ولم تكن ظروف المناخ القارس وقدرات الإنسان العقلية والمورفولوجية لتسمح له بأن يعمر الأرض أكثر من هذا، حتى تطور إلى ما يعرف بالإنسان المنتصب (homo crectus ) قبل مليونين من السنين. وقد تحرر هذا الإنسان من قوامه المتقوس واستقامة عموده الفقري فرأت عيناه ما كان يتعذر عليه من قبل، وتحررت يداه للإبداع وصقل الآلات والأسلحة وزادت قدرته في الدفاع عن نفسه أمام الوحوش والطبيعة. وبعد أن كان يقنع بما يسقط على الأرض من ثمر امتدت يده لتقطف من الشجر وتصطاد فرائسها. وكان طبيعيا بعد أن تحسن غذاؤه وحصن نفسه ضد الموت المفاجئ أن يزداد سكان الأرض حتى وصلوا إلى مليون نسمة سنة 500000 ق. م.

حيث كان يعيش ما يعرف بإنسان نياندرثال (homme de Neandrthal ) وهو الذي اخترع النار. إلا أن الطفرة الحقيقية حدثت عندما تطور الإنسان عصبيا وعقليا ووصل إلى شكله وتكوينه الذي نعرفه الآن سنة 30000 ق. م. وأطلق عليه اسم " الإنسان العاقل " (homo Sapiens )

اقترنت تلك الفترة بذوبان الجليد وتحسن المناخ، وبدأت الهجرات الجماعية من مكان لآخر على سطح الأرض بحثا عن الصيد والطعام.

وقفز عدد السكان إلى خمسة ملايين سنة 10000 ق. م. أي أنه لكي يزيد عدد سكان الكرة الأرضية من مليون إلى خمسة ملايين فقط، انتظر الإنسان خمسة آلاف قرن تقريبا، رغم أن حبوب منع الحمل لم تكن معروفة بالطبع في ذلك الوقت، بل إن الإنسان لم يربط بين العملية الجنسية وحدوث الحمل إلا في أواخر تلك الحقبة، ولكن تلك حكاية أخرى ..

لنتابع حكايتنا.

الثورة الكبرى

تركنا الإنسان عند الألف العاشرة قبل الميلاد، وهو ماض في محاولاته للسيطرة على ما حوله من طبيعة وكائنات، ومضى في كفاحه هذا حتى توصل إلى اكتشاف من أخطر ما عرفته البشرية في تاريخها. اكتشاف سيقلب (أو سيعدل) حياته رأسا على عقب، يوم رمى الإنسان ببذرة في الأرض ورآها تنبت وتكبر وتصبح أرزا وفاكهة وشعيرا.

كان لاكتشاف الزراعة أعمق الأثر في تحول الإنسان من حياة الصيد والترحال إلى حياة الاستقرار والأمان وبناء القرى وتربية الحيوانات في تجمعات بشرية لم يسبق لها مثيل.

وأخذ تعداد البشر يزداد حتى تضاعف ثلاث مرات في ستة آلاف سنة فقط (من 10000 إلى 4000 ق. م.) ليصل إلى (15) مليون نسمة.

ويبلغ العجب ذروته عندما نعلم أن عدد سكان الأرض قد تضاعف عشر مرات في الألف سنة التالية ليصبح (150) مليونا سنة 3000 ق. م.

هذا الجنس الذي جاهد (3) ملايين سنة لكي يتخطى حاجز المليون.

ما الذي حدث؟!

لقد زادت خصوبة الإنسان.

وهنا لا بد من وقفة عند تعبير الخصوبة (Fecondite ) وما أسميه الإخصابية (Fert ) والفرق بينهما كبير. فالإخصابية هي قدرة الكائن على أن ينجب ذرية، قدرة قد تتحقق وقد لا تتحقق. أما الخصوبة فهي حالة واقعة، أي أن الكائن له نسل فعلا.

مثلا القوارض تلد اثنين وعشرين صغيراً في السنة، بينما لا ينجب الفيل إلا واحدا في العام. معنى هذا أن خصوبة القوارض أعلى من الفيلة في حين أن الإخصابية متساوية في هذه الحالة.

وقد ساعدت الزراعة على ظهور الأسرة كوحدة للبناء الاجتماعي، وبالتالي طول فترة إقامة الزوجين معا، علاوة على الحاجة إلى سواعد للمعاونة على فلاحة الأرض. ومن ثم تزايد عدد سكان المعمورة بشكل لم يسبق له مثيل وقد قام A. SAUVY بعملية حسابية استنبط منها أنه لو كان معدل تكاثر الإنسان قد استمر على هذا المنوال دون تدخل خارجي عبر ثمانية قرون فقط لوصل سكان الأرض إلى 36 مليار نسمة ! ترى هل ستستمر تلك المعادلة الهندسية في الصعود؟ أم أن الانتخاب الطبيعي له رأي آخر؟ لنتابع الحكاية.

حل من ثلاثة

يقول البروفيسور Y. MALINAS إن هناك حداً أقصى للمجتمعات الزراعية البدائية لاحتمال الكثافة السكانية وهو 40 نسمة لكل كم2. وهو حد إذا تخطيناه يحدث أحد الأمور التالية.

1 - الهجرة إلى مجتمعات جديدة إن سلما أو حربا (الأمثلة كثيرة في التاريخ ولعل أبرزها هجرة أو هجوم القبائل الجرمانية على الإمبراطورية الرومانية حتى قضت عليها تماما).

2 - المجاعات والأوبئة.

3 - الإثراء عن طريق الصناعة والتجارة ومن ثم شراء ما يلزم من غذاء.

وبما أن الصناعة والتجارة لم تكن قد تطورت بعد أو متوافرة لكل الناس فقد كانت الحروب والمجاعات والأوبئة هي السائدة.

تلك كانت السمات العامة للفترة التي امتدت من الفترة التي سبقت الميلاد بقليل وحتى عصر النهضة في أوربا، حيث كان سكان العالم 250 مليونا عند الميلاد ولم يتضاعف هذا الرقم إلا في القرن السابع عشر، بل إنه في بعض الأحيان كان العدد يأخذ في النقصان.

كانت الحروب كثيرة ودامية، ينتج عنها نقص كبير في الأرواح. كانت الأوبئة فتاكة يقف الإنسان أمامها عاجزا، خاصة الطاعون الذي كان يفتك بشعوب بأسرها، حتى أن الطاعون الأسود الذي حل بأوربا سنة 1348 قضى على ربع سكانها، ثم أعقبته مجاعة أتت على 40% منهم.

وكانت المجاعات متكررة الحدوث في ذلك العصر، حتى آن فرنسا فقدت ثلث سكانها بين عامي 1590 و1650. وكثيرا ما كانت هذه العوامل تأتي مجتمعة: الحرب - الوباء- المجاعة. في تلك الفترة كانت الخصوبة عالية، أي أن معدل المواليد كان مرتفعا، إلا أن معدل الوفيات كان مرتفعاً أيضا، مما نتج عنه معدل نمو بطيء وذلك هو ما حدث خلال خمسة عشر قرنا لم يتضاعف فيها سكان الأرض إلا مرة واحدة، وهذا هو ما يعرف ب "النمط الديموغرافي البدائي ".

الثورة الثانية

مع بشائر عصر النهضة والتحرر الثقافي والفكري. واكتشاف العالم الجديد، والثورة الصناعية وبدايات الاستعمار، والاكتشافات العلمية الكبرى خاصة الطبية منها وتحسن وسائل الصحة العامة.

بدأ الرخاء يعم أوربا بشكل غير مسبوق، وانخفض معدل الوفيات كثيراً، وزاد متوسط العمر من 25 سنة في القرن الثامن عشر! إلى 35 سنة في القرن التاسع عشر، في الوقت الذي استمر فيه معدل الإنجاب في الصعود. وتعرف تلك المرحلة ب "التحول الديموغرافي " أي التحول من مرحلة التوازن السابق إلى مرحلة الزيادة السكانية.

وقد ساعدت هذه الزيادة السكانية أوربا على سيادة العالم كما ساعد الرخاء أوربا على تحمل هذه الزيادة.

إلا أن هذا النمو السكاني لم يستمر طويلاً، فمع تطور المجتمع وازدهاره الاقتصادي، وخروج المرأة للعمل، تغير مفهوم الحياة الزوجية، فلم تعد مجرد وسيلة لإنجاب الذرية. وأصبحت الأسرة الصغيرة هي نموذج السعادة، وارتفع سن الزواج، وبالتالي انخفضت الخصوبة وانخفض معدل المواليد، رغم أن وسائل منع الحمل حتى أوائل القرن العشرين لم تكن تتعدى العزل، أي القذف خارج الرحم.

وبعد أن وصل التطور الفكري والاقتصادي إلى أوجه في القرن العشرين أصبح التحكم الإرادي في الخصوبة ضرورة إنسانية فانطلقت المعامل في البحث بين الوسائل الموضعية والهرمونية حتى توجت هذه الجهود باكتشاف "حبة" منع الحمل على يد الدكتور Pincus سنة 1956.

والآن نجد في أوربا والعالم المتقدم ما نطلق عليه "الاتزان الديموغرافي" أي انخفاضا في الخصوبة وانخفاضا في الوفيات. وقد قفز متوسط العمر في قرن واحد من 35 سنة إلى 75 سنة!

مأزق العالم الثالث

بعد الحرب العالمية الثانية كان العالم الثالث ما زال في مرحلة النمط الديموغرافي البدائي (خصوبة عالية ووفيات عالية) بل كانت خصوبته أعلى من تلك التي كانت في أوربا العصور الوسطى بسبب الزواج المبكر وتعدد الزوجات.

ثم استفاد العالم الثالث من التطور الطبي في العالم المتقدم، وجهود منظمات الصحة الدولية في كفاحها ضد الأوبئة والأمراض المتوطنة، فانخفضت الوفيات بشكل ملحوظ وارتفع متوسط العمر.

إلا أن هذا التطور لم يواكبه تطور موازٍ في الاقتصاد والعلوم والفلسفة. وهو شرط لازم- كما رأينا- من أجل خفض الخصوبة وإحداث التوازن المطلوب، فاستمرت معدلات المواليد مرتفعة (بل ازدادت الخصوبة نتيجة التطور في علاج العقم وتراجع الرضاعة الطبيعية التي كانت تشكل نوعا من منع الحمل الطبيعي) وتناقصت الوفيات، وحدث الانفجار الذي نشهده الآن.

بالرغم من كل الجهود التي تبذلها هيئات تنظيم الأسرة ومنع الحمل، فإن معدل الإنجاب لن يقل في العالم الثالث بالقدر الكافي إلا عندما يتطور اقتصاديا وتكنولوجيا، ويتحرر فكريا (يجدر هنا التنويه بتجربة الصين الرائدة في هذا المجال، ففي ثلاثين عاما فقط انخفض متوسط الإنجاب عند المرأة من ستة أطفال إلى طفلين، وزاد متوسط العمر ثلاثين عاما)، وتنطلق المرأة إلى آفاق العمل الرحبة ثم تأتي بعد ذلك وسائل منع الحمل.

فالحكاية إذن ليست حكاية " الحبة " وإنما شيء آخر.