يشكل الشاعر السوري عادل قرشولي حالة تكاد تكون فريدة في
الشعر العالمي, فهو يكتب الشعر بلغتين, ويشكل جسراً إبداعياً بين حضارتين. في عام
1985 منحته مدينة لايبزيج جائزتها الأدبية, وفي عام 1992 منحته الأكاديمية
البافارية للفنون الجميلة جائزة شاميسو التي تعتبر أهم جائزة يمكن أن تمنح لكاتب
أجنبي يكتب بالألمانية. ولتلك المناسبة قالت ريجينا موبيوس نائب رئيس الاتحاد العام
للكتاب الألمان: (كل منكم - أنتم الذين أتيتم بهذا العدد الغفير إلى هنا اليوم
لتكريم عادل قرشولي - يعرفه جيداً, يعرف قصائده, ويعرف ما قدمه للساحة الثقافية في
هذه المدينة والبلد للخروج إلى العالم الرحب, هو الذي يتعانق في ذاته الشرق والغرب,
وهو الذي حمل دمشق إلينا, وحمل من لايبزيغ قطعة إلى دمشق...).
للشاعر قرشولي خمس مجموعات شعرية بالألمانية هي: (كحرير من
دمشق) و(عناق خطوط الطول) و(وطن في الغربة) و(لو لم تكن دمشق) و(هكذا تكلم
عبدالله). وله مجموعتان شعريتان باللغة العربية: (موال في الغربة) و(الخروج من
الذات الأحادية).
تحظى تجربة الشاعر عادل قرشولي باعتراف واسع في ألمانيا مما
أهله لأن يكون رئيساً لاتحاد الكتاب الألمان في مدينة لايبزيغ التي يُعلّم في
جامعاتها منذ حوالي أربعة عقود. وقد لقيت مجموعته الأخيرة صدى واسعاً بين القرّاء
والنقّاد, فقد كتب عنها الشاعر الألماني توماس بيمه في مجلة
(كرويستر):
(أنا أدّعي أن مجموعة (هكذا تكلم عبدالله) تعد ظاهرة من
الظواهر, فدون ادّعاء, ولكن بإصرار, يقول قرشولي لنا فيها: انظروا كم هي جميلة
لغتكم التي أصبحت هنا لغتي, وهو يُخْجل كل من لم يعودوا يثقون بألمانيتهم ويستنبطون
منها ما فيها من غنى وجمال. إنه لا يختار الصورة المتفذلكة, بل الصورة التي تكاد
تكون مألوفة. لكن هذا الفن العظيم: أي ربط البسيط باللعب البهلواني بالمادة, هو ما
يميز قصائد عادل قرشولي الأخيرة. أرى أن هذا العمل هو صدفة سعيدة للأدب, وهبة من
الآلهة التي لا تمنح لرجل تخطى نصف عمره, كل هذه الطاقة الإبداعية إلا فيما
ندر).
وقد قام الكاتب والصحفي السوري حسن م.يوسف بتشكيل ملامح هذا
الحوار, مع الشاعر قرشولي, عبر العديد من الرسائل الإلكترونية, ثم أنضجه بلقاء
مباشر, عندما قام الشاعر بزيارة وطنه.
- في حوار سابق قلت لي إن عبارة رامبو الشهيرة: (من العبث أن نبلي
سراويلنا على مقاعد الدراسة) قد أحدثت انقلاباً حاداً في حياتك! لكنك, رغم ذلك
الانقلاب, أمضيت جلَّ حياتك قريباً من مقاعد الدراسة: طوراً كطالب, وطوراً كأستاذ!
كيف تنظر إلى هذه المفارقة?
- لا أدري إن كان في ذلك مفارقة حقيقية. حين قرأت تلك الجملة لرامبو
كنت فتى ناشئاً, والفتى ينظر إلى الأمور بشكل مغاير عادة, وخاصة عندما لا يكون يحب
المدرسة, مثلما كنت أفعل آنذاك, لم أكن أحب تلقي المعرفة دون حوار, وهذا تفسير لاحق
لما كان.
أنا في الحقيقة لم أدرس في المدرسة منذ قراءتي لتلك الجملة,إذ انقطعت
عنها لمدة سبعين يوماً. كما بعت الكتب المدرسية واشتريت بثمنها دواوين شعر, أذكر
منها كتباً لعلي محمود طه, ونازك الملائكة وأمين نخلة.
بعد ذلك, طردت من المدرسة, فعملت في الصحافة, كمصحح, ثم انتقلت للعمل
في الصفحات الثقافية. ولم أحصل على الشهادة الثانوية قبل مغادرة سوريا.
- كيف تابعت دراساتك العليا إذن?
- قمت في ألمانيا بدراسة تكميلية لما يهيئني لدخول الجامعة. درست في
معهد الأدب في لايبزيغ, وهو معهد للأدباء الشبان لا مثيل له في العالم, سوى معهد
آخر في موسكو. وإلى جانب معهد الأدب تابعت دراستي في المعهد العالي للفنون
المسرحية, وأعددت رسالة الدكتوراه عن مسرح بريشت.
هنا أعود إلى صيغة السؤال الأول فأقول: إنني خلال هذه الفترة لم أكن
تلميذاً بالمعنى الحقيقي للكلمة, فعندما سلّمني مدير معهد الأدب شهادة الدبلوم قال:
أريد أن أقول إن عادل قرشولي قد حصل على علامة جيد جداً, رغم أننا لم نشاهده في
المعهد إلا نادراً. صحيح أنه كان يمازحني بذلك, لكن طبيعة ذلك المعهد كانت تسمح
للطالب بألا يلتزم تماماً بحضور المحاضرات, وحينما كتبت رسالة الدكتوراه لم أكن
ملزماً بحضور المحاضرات أيضاً, إذ كنت مساعداً للبروفيسور وقمت بتدريس الأدب
الألماني المعاصر, إلى أن انتقلت لمعهد الاستشراق في لايبزيغ لتدريس مادة الترجمة
بين اللغة العربية واللغة الألمانية. في هذا الضوء يمكنك أن ترى أنني لم أعش لحظة
التلمذة بعد دمشق, وكنت أميناً لموقفي من جملة رامبو الشهيرة.
- لكنك أمضيت الكثير من الوقت بالقرب من مقاعد الدراسة كأستاذ?
- صحيح, لكنني كنت أعامل طلابي على هذا النحو, وكثيراً ما كنت أعطي
الدرس في العراء, وكنت أدعو طلابي في نهاية كل عام إلى بيتي حيث نقدم لهم الطبخ
العربي.
عام العذاب
- غادرت دمشق وفي داخلك مشروع رامبو, ماذا كان تأثير الغربة عليك
كشاعر?
- علاقتي برامبو في تلك الفترة اقتصرت على هذه العبارة فقط. لم يؤثر
بي رامبو لأنني لم أقرأه بشكل جيد, في تلك الرحلة أثر فيّ أربعة شعراء عالميين
بصورة أساسية لأنني قرأت ترجمات لأشعارهم: طاغور, ناظم حكمت, بايلو نيرودا, ولوركا
في فترة متأخرة. وقد أثروا فيّ تأثيراً كبيراً آنذاك وأعتقد أن تأثيرهم يمتد إلى
مراحل لاحقة.
حين ذهبت إلى ألمانيا عشت, في بداية الأمر, سنة أسمّيها سنة العذاب.
إذ اضطررت أن أعيش كعامل أجنبي في ألمانيا الغربية. وهناك عملت في شتى المهن من
العتالة إلى غسل الصحون في المطاعم, حتى أنني نمت في مأوى المشرّدين, كانت تلك
السنة من أقسى سنوات حياتي, ليس لأنني عملت في هذه المهن, القسوة التي واجهتها في
تلك الفترة نجمت عن أنني فقدت مخاطبي الحقيقي. لم أكن أستطيع أن أعبّر عمّا في
داخلي للناس الذين أواجههم, ولهذا كانوا يعاملونني معاملة طفل معوّق عقلياً, وهذا
بالذات ما جعلني أقسم أن أريهم مَن أنا.
- ينبغي عليهم هم أن يقولوا هذا. حين تلقيت جائزة شاميسو من يد رئيس
الأكاديمية البافارية للأدب قلت له: الآن صالحتموني. طبعاً هو لم يفهم ما قصدته
بهذه الجملة آنذاك, وقد سألني عن ذلك فيما بعد: فقلت له إنني أمضيت, خاصة في
ميونيخ, أقسى أوقات حياتي, وأطلعته على القَسَمْ الذي عاهدت نفسي عليه, وقلت له:
الآن أشعر بأنكم صالحتموني حين منحتموني هذه الجائزة.
- كيف عثرت على مخاطبك من جديد?
- في العملية الإبداعية, لا يمكن للمرء أن يُضيّع مخاطبه كلية, لكن
هذا المخاطب يتخذ تجليات تختلف باختلاف أوقاتها. مخاطبي في بداية الأمر, حين بدأت
كتابة القصيدة العربية, كان حبيبة صغيرة. وحين كتبت القصيدة الألمانية كان المخاطب
حبيبة أيضاً. أي أن قصيدتي الأولى باللغتين كانت قصيدة حب. من هنا ترى أن المخاطب
قد يتحول ليصبح أمة بكاملها, وقد يصبح العالم, لأنك تود أن تغيّره, وقد يعود ثانية
ليصبح ذاتك, كما فعلت في قصائد ديوان (هكذا تكلم عبدالله).
ما قصدته حينما تحدّثت عن فقدان مخاطبي, هو مخاطبي العربي المباشر
الذي كنت أخاطبه حين وجودي في دمشق. حين فقدت هذا المخاطب شعرت بأن صرخاتي الشعرية
هي صرخات في جزيرة فارغة, وقد أعدت قراءة تلك القصائد أخيراً فوجدت أنها قصائد
حزينة فعلاً ومليئة بالأسى. فيما بعد حين انتقلت إلى ألمانيا الشرقية وترجمت بعض
قصائدي إلى الألمانية وألقيت في أمسيات شعرية, عاد إليّ مخاطب من نوع آخر, تلقى
قصائدي في البداية عبر الترجمة, لكن هذا المخاطب كان يتقبّلني من خلال الغرابة
المتمثلة في تلك القصائد المترجمة, أو هكذا خُيّل لي, نتيجة الحساسية المفرطة التي
تتملّك الغريب أحياناً. كان هذا أحد الأسباب التي جعلتني أتوجه لكتابة القصيدة
الألمانية لكي أجيب على الإشارات التي كنت أتلقاها من هذا المخاطب الذي كان يتحوّل
إلى محاور بلغته. وقد كان ذاك هو المبرر بيني وبين نفسي لكتابة القصيدة
الألمانية.
- أنت تعيش في مجتمع غريب وتكتب الشعر بالعربية والألمانية. غير أن
وجدانك ومكوّنات شخصيتك, هي نتاج مجتمعنا العربي الشرقي, وقد سبق أن قلت لي في حوار
سابق إن (البدايات هي جزء حميم من حياتك, ربما كانت على صعيد الذكرى, وعلى صعيد
اللاوعي هي الجزء الأهم), كما أكدت لي: (إن من يفقد منابت الطفولة يفقد جزءاً
كبيراً من حياته) كيف تبدو منابت الطفولة الآن من بعيد, وكيف تؤثر رؤيا النهايات
على ذكرى البدايات?
- هذا سؤال جوهري جداً, وهو السؤال الأساس الذي أطرحه أنا باستمرار
على نفسي, البدايات, لاشك أنها تحدد المسار بكامله. أو لنقل إن البدايات تحدد
أسلوبية هذا المسار وتحدد مكونات هذا المسار رغم تغيره. ومهما بعد عن البدايات.
أنا عشت 23 سنة من بداياتي في دمشق بشكل كلي, وأنا أعيش للآن في
النهايات منذ 40 سنة في مكان حضاري مختلف كلية, أي أنني عشت في ألمانيا أكثر مما
عشت في دمشق. لكنني مازلت أومن أن تلك البدايات, والسنوات العشر الأولى منها بشكل
خاص, هي التي حددت المسار بكامله حتى يومي هذا! أي أن ما تلقيته وما اكتسبته وما
دخل إلى ذاتي من الآخر, لم يدخل كما هو, بل دخل عبر تلك البدايات. فذلك المسار لم
يدخل إلى ذاتي كما يدخل إلى ذات الألماني. بل دخل إلي عبر فلتر البدايات, إذا أردنا
أن نتكلم بلغة الحاسب, أي أنه لم يدخل ألمانياً مجرداً بل دخل في زواجه مع العربي
أو الشرقي الموجود في الذات.
- كنت تتساءل دائماً حول مشروعية كتابة الشعر بلغة أخرى, غير اللغة الأم.
ومع أن حياتك تعطي إجابة عملية على هذا السؤال فإنك كتبت بحثاً حول هذه الإشكالية,
فما أهم الاستنتاجات التي توصلت إليها في هذا المجال?
- أعتقد أنك تشير هنا إلى محاضرة ألقيتها في كندا ثم ألقيت بعض
المقاطع منها في دمشق هي (كتابة بلغتين, أم تحدث بلسانين?) انطلاقاً من جوابي على
التساؤل السابق, كنت أكتب لمخاطبين منفصل الواحد منهما عن الآخر, ولهذا كانت
أسلوبية الخطاب تختلف, أحياناً, من لغة إلى لغة, وحتى العنصر المعرفي في هذه
الأسلوبية كان يختلف أحياناً. لاحظت أن هذا يشكّل نوعاً من الازدواجية في الموقف
داخل الذات, ومن هنا اتجهت فيما بعد إلى إبعاد المخاطبين عن اللحظة الإبداعية
بالقدر الذي أستطيع أن أفعله, لأن المخاطبين موجودان ولاشك في داخل الذات, لكن بوسع
المبدع أو الشاعر أن يبعدهما عن كتابة العمل الإبداعي معه إلى حد ما. لذلك توجهت
لأن أجري حواراً مع نفسي وأن أجعل نفسي تخاطب نفسي في القصائد الأخيرة, وهذه محاولة
لإبعاد المخاطبين, عن الذات. ومن هنا أعتقد أنني كتبت قصائد يمكن للمخاطبين أن
يتلقياها بالقدر نفسه, مضيفين إليها قراءتهما هما, وليس ما أريد أن أقوله أنا لهذا
أو لذاك بأسلوبية مختلفة.
- أحد النقاد لاحظ أن قصائد الحب في دواوينك المكتوبة باللغة العربية
أقل منها في دواوينك المكتوبة بالألمانية, هل لهذا علاقة مباشرة بكونك عشت في
ألمانيا أكثر مما عشت في سوريا, ومتزوجا من سيدة ألمانية?
- (ضاحكاً) هذه ملاحظة طريفة وذكية! وهي ملاحظة حقيقية, لم تفتني أنا
أيضاً. قصائد الحب, في مطلع شبابي, وخلال الفترة الأولى لوجودي في ألمانيا, كلها
كتبتها باللغة العربية طبعاً. ثم جاءت لحظة تعرّفت فيها على فتاة صغيرة وديعة.
لاتزال تعيش معي منذ ستة وثلاثين عاماً. أردت أن أكتب لها قصيدة, ولم أشأ أن تصل
إليها هذه القصيدة بلسان أحد زملائي الشعراء الذين يترجمونها من العربية إلى
الألمانية. لأن القصيدة المترجمة ستحمل لغة المترجم لا لغتي, وقد أردت أن أقول لها,
ما أريد قوله, مباشرة وباللغة التي أعرفها فعلاً, بالكلمات البسيطة والجمل البسيطة
التي كنت أعرفها. وأنا مازلت أذكر تلك القصيدة, تصوّر أن عنوانها كان (ديالكتيك)!
(ضاحكا) أقول فيها:
(لأنني أحبك, أحب العالم,
لأنني أحبك أجده جميلاً
لو استطعت أن
أكرهك, لكرهت العالم
ولأن العالم في ذاتي لكرهت نفسي,
ولأنني لا أريد أن أكره
نفسي, فأنا أحبك)
ازدواج مرهق
- قلت مرة إن الكتابة بلغتين تحدث شرخاً في ذات الفنان وأنك كتبت القصيدة
باللغة الألمانية (كنوع من تأكيد الذات في معايشة الآخر) وأكدت أنك فعلت ذلك كنوع
من (دخول المعركة مع الآخر بالسلاح الذي يستخدمه: معركة الصِّدام ومعركة الألفة على
حد سواء), إلى أي حد تبدو هذه الأفكار متسقة لك الآن ككاتب يعيش على تخوم عالمين?
وإلى أي حد أثرت محاولتك لإلغاء المخاطبين على تجربتك الإبداعية?
- محاولتي لم يكن هدفها الإلغاء الكامل للمخاطبين! بل إبعادهما إلى
أقصى مدى أستطيعه عن اللحظة الإبداعية, وهدفي من هذه المحاولة, هو التخلص من
الازدواجية التي تشير إليها. لأنها ازدواجية مرهقة بالفعل! وهي صراع داخل الذات.
أردت أن أحوّل هذا الصراع إلى نوع من العناق. وهذا العناق لا يمكن أن يحدث إلا
عندما تتوحد أنت مع ذاتك, والتوحد مع الذات بوجود لغتين, أمر صعب دون شك! فعندما
تخاطب باللغة العربية تكون محكوما بكل الأطر الدلالية والحسية والإيحائية لهذه
اللغة, وعندما تفعل هذا الأمر باللغة الألمانية, تصبح محكوماً أيضا بالأطر الدلالية
والإيحائية للغة الأخرى. ولم أشأ أن أضيف إلى هذه الإشكالية, إشكالية التخاطب, شقاً
سياسياً أو معرفياً آخر. أردت الاقتصار على هذه الدلالات والإيحاءات التي تأتي مع
اللغة دون أن أفرضها عليها أنا أيضاً. أنا أكتب القصيدة الفلسفية عن الموت ولا
يهمني إن كان سيقرأ هذه القصيدة العربي أو الألماني. ولو كتبتها باللغة الألمانية
وقرأها العربي لن يتغير عليه إلا الأطر الدلالية الموجودة في اللغة وليس في
خطابي.
- بحت لي مرة في حوار سابق بأن العيش في مجتمع ليست جذورك عميقة فيه يدفع
بك أحيانا إلى الوحدة والوحشة أيضا. واعتبرت نفسك بمنزلة جسر بين الحضارتين العربية
والألمانية. هل تشعر بأن هذه المشكلة لا تزال قائمة بالنسبة لك?
- مهما حاولت أن تكذب على نفسك فلن تستطيع! حينما تعيش في عالمين, أنت
تمتلك العالمين وتفقدهما في اللحظة نفسها. وأنت تصبح غريبا عن العالمين, بينما يصبح
هذان العالمان حميمين بالنسبة لك. في إحدى قصائدي أقول ما معناه:
(لا يمكنني أن أكون في الـ .. هذا, في الـ .. هنا, وفي الـ.. هناك,
وفي اللا... هذا واللا... ذاك!).
الشيء المهم هنا, مدى قدرتك على محاولة توزيع النسب بين اللا هذا
واللاذاك, توزيع النسب لصالح الهنا والهناك, يعني أن تقبل بالغربتين حين تواجههما,
وأن تأخذ من هاتين الغربتين أكثر ما فيهما من حميمية. أنا عندما أكون في دمشق.
عندما تقع لك مشكلة في حياتك الزوجية مثلا, كأن تتشاجر مع زوجتك لأنها كسرت صحنا,
قد تتذكر الحبيبة الأولى, ولكن هذا لا يعني بالضرورة أن تطلق. وهذه الذكرى, بالنسبة
لي, تحدث على الصعيدين.
أحد الصحفيين الألمان أجرى معي حوارا قبل فترة, قلت له: (عندنا سقف
التسامح أعلى من عندكم)! قلت عندنا, أي في دمشق, وكثيرا ما يحدث معي عندما أكون في
دمشق, أن أقول (عندنا) وأقصد لايبزيغ!
- منذ بداية حياتك الإبداعية في دمشق والجوائز تأتيك لتشكل نقاط علام على
طريقك. كيف تنظر إلى مفهوم الجائزة, والجوائز بشكل عام? وما الجائزة التي تنيرك
بالبهجة عندما تتذكرها?
- أستطيع أن أقول كما يجيب الفنانون عن سؤال من هذا النوع: إن أهم
جائزة هي حب الجمهور! (ضاحكا) ولكن هذا ليس دقيقا في الحقيقة إذا كان المرء صريحا
مع الذات. عندما منحت جائزة مدينة لايبزيغ للأدب عام 1985 أسعدتني جداً هذه الجائزة
لأنها عبرت عن أن التحدي الذي تلقيته وواجهته, أثمر إلى حد ما بتمكني من انتزاع
اعتراف الآخر كشاعر, ومنحي جائزة تمنح لشعراء مثل جورج ماورر الذي كان أستاذي وحصل
على هذه الجائزة قبلي ببضع سنوات! ولا شك في أن هذه الجائزة كانت حافزاً بالنسبة لي
كي أتوقف عن النشر!
- كم بقيت متوقفاً عن النشر? وكيف تبرر مثل هذا القرار?
- توقفت عن النشر فعلاً حتى عام 1990, لأنني في الفترة التي منحت فيها
هذه الجائزة, كنت قد بدأت بالاقتناع بلا جدوى قصيدتي الألمانية على صعيد التغيير
الذي كنت أتوخاه. القصائد التي كتبت في الستينيات والسبعينيات كانت تهدف للمساهمة
في العملية التغييرية, أي أن عملية التواصل مع الآخر كانت هي المحفّز الأساس لكتابة
هذه القصيدة. ومع نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات فقدت الأمل إلى حد بعيد
بقدرة القصيدة على التغيير الذي كنت أتوهمه فيما مضى, وبدأت أكتب في تلك المرحلة
حواراتي مع الذات.
هل توقفت عن كتابة الشعر أم عن نشره فقط?
- توقفت عن النشر فقط!
عندما منحتني الأكاديمية البافارية, جائزتها, بعد الوحدة, وهي أهم
جائزة تعطى لكاتب أجنبي يكتب بالألمانية, أشاروا في البيان الصحفي الذي أصدروه عن
حياتي وقرأوه لي بالهاتف, إلى أنني قد منعت من الكتابة في ألمانيا الشرقية منذ عام
1985, فقلت: إن هذا غير صحيح, وطلبت حذف هذه الجملة لكنهم لم يحذفوها بل عدلوها
لتصبح (لم يعد ينشر قصائده منذ عام 1985) وهذا صحيح, لكن كي لا يساء الفهم أوضحت
أنني لم أتمكن من عدم كتابة القصيدة الألمانية, وأنه لم يمنعني أحد من نشرها, وأن
الامتناع عن النشر كان خياراً ذاتياً يتعلق بفقدي لأوهام كثيرة, ويتصل بإشكالية
الكتابة بلغتين.
صدام الذات
- قلت مرة إن ديوانك (عناق خطوط الطول) كان رغبة سعيت لأن تتحقق واكتشفت
فيما بعد أن العناق (حدث في الذات, ولكنه لم يستطع أن يخترق الحاجز الشعوري بشكل
حاسم.. إنني أتزحلق في الدائرة إلى بدايتها). وكنت قد قلت في سياق آخر في ديوانك
الأخير, الصادر بالألمانية (وقال لي عبدالله) إنك قد سعيت (... لتقمص الآخر كي
تفهمه, وترفض الذوبان فيه, لأن الذوبان في الآخر هو نفي الذات, ونفي الذات هو
الفراق الأبدي بين الأنا والآخر). إلى أي حد يمكن اعتبار ديوانك الأخير بمنزلة عودة
إلى بداية الدائرة, خاصة أن في عنوانه ظِلاًّ من النفري المتصوف العربي
المشهور?
- حقاً, إن المرء ينطلق بولادته من نقطة ما, يصعد الدائرة إلى نقطة
الذروة في الدائرة, وحين يصل إلى تلك النقطة يجد نفسه, مع تقدم السن, يتزحلق ليعود
إلى بداية الدائرة, النقطة الأولى التي انطلق منها. قبل فترة ألقيت محاضرة باللغة
الألمانية بعنوان (الصوفية في صيغتها الأرضية) وقد قلت في مستهل حديثي إن:
الميموزينيا وهي آلهة الذكرى عند اليونان أصبحت أقرب الآلهة إلى ذاتي في الفترة
الأخيرة. وأنا ألاحظ أنني كلما تقدمت في السن بالفعل تبدأ ذكريات الطفولة بالضغط
على اللحظة الإبداعية لالتقاطها بشكل ما.
هذا العناق الذي تحدثت عنه, كان في البداية إراديا لمواجهة الصدام
الموجود في الذات, غير أنه تحول إلى نوع من التوحد في داخل الذات, أو هكذا أود له
أن يكون. المحاولة لم تعد محاولة عناق بين عالمين, بل محاولة توحد داخل الذات بين
هذين العالمين, كي أعود أنا أنا.
- في كتابها (الله ليس كما يزعم الغرب) تقول الباحثة الألمانية زيغفريد
هونكيه: (إن الغرب يشن على العرب حرباً باردة منذ حوالي ألف عام وحتى الآن, لأنه لم
يسامحهم على الهزيمة التي ألحقوها به خلال حروب الفرنجة بقيادة صلاح الدين
الأيوبي), ولهذا لم يتم تقييم المساهمة الحضارية للعرب حتى الآن بشكل نهائي, ولا
تزال إنجازاتهم العلمية والحضارية تنتحل, رغم ثورة المعلومات وثورة الاتصالات. كيف
تقيم الإسهام الثقافي العربي خلال ربع القرن الماضي, وهل تعتقد أن محدودية انتشار
هذا الإبداع في العالم, له علاقة باستمرار الحرب الباردة ضد العرب?
- أنا لا أجنح إلى التعميم, ولا أجنح إلى هذا الإطلاق. منذ ألف سنة
مرت العلاقات بين أوربا والعالم العربي والإسلامي بمراحل. فضمن هذه الألف عام كان
هناك عصر التنوير, وكان هناك غوته وهيردر وروكر وآخرون ممن اهتموا بالثقافة العربية
والأدب العربي والأدب الشرقي, وآداب الأمم الأخرى عموماً. منذ أطلق غوته مصطلح
الأدب العالمي بدأ أدب التنوير, في ألمانيا تحديداً, يهتم بالثقافة العربية. لا شك
في أن هذا الاهتمام لا يرقى إلى مستوى تطلعاتنا نحن إلى تقديم حضارتنا من قبل
الآخر. غير أني لا أستطيع أن أقول بهذا التعميم.صحيح أنه في الآونة الأخيرة, وخاصة
بعد انهيار الاتحاد السوفييتي والنظم الاشتراكية, وانتهاء الحرب الباردة بين
المعسكرين الشرقي والغربي, تحول الغرب, بهذا الإطلاق, إلى خلق صورة عدو جديد, هذا
العدو الجديد في شقه الأكبر هو العالم العربي والإسلامي. من هنا فإن هذه الحرب التي
تتحدث عنها المستشرقة هونكه, هي حرب قائمة, وتكريس الأحكام المسبقة نجده في وسائل
الإعلام الأوربية بشتى مجالاتها, لكن هذا لا يعني أنه لا توجد نوافذ يمكن للمرء أن
يقفز منها كي يواجه هذه الحملة القائمة, هنا أو هناك.
- هل لك أن تحدثنا عن تجربة (هاتف الشعر) التي قمت بها?
- بعد تسلمي لرئاسة اتحاد الكتاب الألمان في لايبزيغ قمت بإنشاء (هاتف
الشعر). قمنا كل أسبوعين بتقديم شاعر يقرأ من خمس إلى ست دقائق من شعره, ويمكن
للمواطنين أن يتصلوا برقم هاتف خاص ينشر في الصحف ووسائل الإعلام, ومن خلال هذا
الرقم يمكن سماع الشاعر وهو يلقي قصائده.