استقبال رمضان في مصر الفاطمية

 استقبال رمضان في مصر الفاطمية
        

احتفالات باذخة في القصور والمساجد والطرق

كان فتح مصر على يد الخليفة (المعز لدين الله) سنة 358/969م أعظم إنجازات الفاطميين التي حفظت لهم مكانا بارزا في تاريخ مصر الاسلامية.

          في مصر أسس الفاطميون عاصمة جديدة لإمبراطوريتهم هي (القاهرة) لتعبر عن كيانهم وتوجهاتهم الدينية والسياسية, وكما يقول (ابن سعيد) في كتابه (المغرب في حلي المغرب): (... وأما مدينة القاهرة فهي الحالية الباهرة التي تفنن فيها الفاطميون وأبدعوا في بنائها واتخذوها قطبا لخلافتهم ومركزا لأرجائها)!

          ويشير شيخ المؤرخين (المقريزي) إلى قصور ومناظر خلفاء الدولة الفاطمية, فيقول: (... منها القصران الكبيران ويقال لما بينهما الآن (بين القصرين) وكانا قصرين متقابلين أحدهما (القصر الكبير الشرقي) على يمنة السالك من خان مسرور طالبا إلى باب النصر وباب الفتوح, وهو قصر الخلفاء ومكانه الآن المدارس الصالحية (السلطان الصالح نجم الدين أيوب), والمدرسة الظاهرية (الظاهر بيبرس) وقصر بشتاك وغيره إلى رحبة باب العيد, والثاني المقابل له وهو (القصر الصغير الغربي) في موضوع المارستان المنصوري, وما يجاوره من المدارس وغيرها إلى قبالة باب الجامع الأقمر, وكانت العساكر والجيوش تقف بين القصرين في أيام المواكب والأعياد فيسعهم بأجمعهم مع كثرتهم)!

          ومازالت ذاكرة مصر الإسلامية تحتفظ بتفاصيل مواكب ومشاهد الاحتفالات والمناسبات الدينية منذ عصر الفاطميين, وكانت الاحتفالات الفاطمية التي فاقت الوصف في بزخها, ترتكز على إظهار قوة الخليفة الفاطمي وسلطانه كحاكم إلى جانب نفوذه الديني! فكيف كان رمضان في القصر الفاطمي?!

الاحتفال بغرة رمضان

          وعن احتفال الفاطميين بغرة شهر رمضان, يقول المقريزي:

          (وكان لهم في شهر رمضان أنواع عدة من البر منها كشف المساجد, قال الشريف الجواني في كتاب النقط, كان القضاة بمصر إذا بقي لشهر رمضان ثلاثة أيام طافوا يوما على المشاهد والمساجد بالقاهرة ومصر فيبدأون بجامع المقس ثم بجوامع القاهرة ثم بالمشاهد ثم بالقرافة ثم بجامع مصر ثم بمشهد الرأس لنظر حصر ذلك وقناديله وعمارته وإزالة شعثه وكان أكثر الناس ممن يلوذ بباب الحكم والشهود والطفيليون يتعينون لذلك اليوم والطواف مع القاضي لحضور السماط.

          وكان في أول يوم من شهر رمضان يرسل لجميع الأمراء وغيرهم من أرباب الرتب والخدم لكل واحد طبق ولكل واحد من أولاده ونسائه طبق فيه حلوى, وبوسطه صرة من ذهب فيعم ذلك سائر أهل الدولة ويقال لذلك غرة رمضان)!

ركوب أول رمضان

          وكان لخلفاء الدولة الفاطمية عادات ورسوم في جميع المناسبات, ومنها ما اشتهر بـ(ركوب أول رمضان), وأرجح أن هذه العادة هي أصل ما يعرف في التراث الشعبي بـ(موكب ليلة الرؤية).

          وركوب أول رمضان كان من الأيام المشهودة في مصر الفاطمية, فكان موكب الخليفة في زيه وبنوده وقبابه يحتشد بباب الذهب داخل سور القصر الكبير الشرقي وقد امتطى أكرم الجياد, مرتديا (شاشية موكبية مكملة مذهبة) وبيده (قضيب الملك) متوجا بعمامة ضخمة (شدة الوقار) وهي عبارة عن منديل مرصع بأغلى وأندر اليواقيت والزمرد, يتوسطها هلال من الياقوت الأحمر زينه (اليتيمة) وهي جوهرة عظيمة (ليس لها مثال في الدنيا)! يحيط به إخوته وبنو عمه و(الاستاذون المحنكون) مترجلين وكبار أمراء الدولة (أرباب القصب والعماريات) وأرباب السيوف والمقدمين أصحاب ركاب الخليفة, ثم (طوائف العسكر) خمسة آلاف فارس ثم (المترجلة الرماة بالقسي) وعدتهم ألف, ثم (الجيوشية والمظفرية والريحانية...), وما ينضاف إليهم من الأجناد نحو سبعة آلاف, كل طائفة منهم بزمام وبنود ورايات (بترتيب مليح)! وتشد فوق رأس الخليفة (المظلة) وهي من أفخر أنواع الحرير المطرز بالذهب والجوهر, ولابد أن يكون لونها من نفس لون ملابس الخليفة!

          وكان موكب الخليفة يبدأ من بين القصرين (شارع المعز بالصاغة الآن) ويسير في منطقة الجمالية حتى يخرج من باب الفتوح (أحد أبواب سور القاهرة الشمالية) ثم يدخل من باب النصر عائداً إلى باب الذهب (بالقصر), وفي أثناء الطريق توزع الصدقات على الفقراء والمساكين. وحينما يعود الخليفة إلى القصر يستقبله المقرئون بتلاوة القرآن الكريم في مدخل القصر ودهاليزه حتى يصل إلى خزانة الكسوة الخاصة فيغير ملابسه ويرسل إلى كل أمير في دولته بطبق من الفضة مملوء بالحلوى, تتوسطه صرة من الدنانير الذهبية, وتوزع الكسوة والصدقات والبخور وأعواد المسك على الموظفين والفقراء, ثم يتوجه لزيارة قبور آبائه حسب عادته, فإذا ما انتهى من ذلك أمر بأن يكتب إلى الولاة والنواب بحلول شهر رمضان.

          وكان الخليفة الفاطمي يصلي أيام الجمع الثلاث, الثانية والثالثة والرابعة على الترتيب التالي, الجمعة الثانية في جامع الحاكم والثالثة في الجامع الأزهر, أما الجمعة الرابعة التي تعرف بالجمعة (اليتيمة) فكان يؤديها في جامع عمرو بالفسطاط. وكان يصرف من خزانة التوابل الند وماء الورد والعود برسم بخور الموكب والمسجد, وعقب صلاة الجمعة الأخيرة من رمضان يذاع بلاغ رسمي عرف بـ(سجل البشارة)!

الجمع الثلاث

          قال ابن الطوير: إذا انقضى ركوب أول شهر رمضان استراح (الخليفة) في أول جمعة, فإذا كانت الثانية ركب الخليفة إلى الجامع الأنور الكبير (جامع الحاكم بأمر الله) في هيئة المواسم ولباسه فيه ثياب الحرير البيض, وتوقيراً للصلاة من الذهب, والمنديل والطيلسان المقور الشعري. فيدخل من باب الخطابة والوزير معه بعد أن يتقدمه في أوائل النهار صاحب بيت المال وبين يديه الفرش المختصة بالخليفة وهو محمول بأيدي الفراشين المميّزين, وملفوف في العراضي الدبيقية فيفرش في المحراب ثلاث طراحات, إما سامان وإما دبيقي أبيض أحسن ما يكون من صنفهما كل منقوش بالحمرة, فتجعل الطراحات متطابقات. ويعلق ستران يمنة ويسرة, وفي الستر الأيمن كتابة مرقومة بالحرير الأحمر واضحة منقوطة أولها. (البسملة) و(الفاتحة) و(سورة الجمعة), وفي الستر الأيسر مثل ذلك وسورة (إذا جاءك المنافقون) قد اسبلا وفرشا في التعليق بجانبي المحراب لاصقين بجسمه. ثم يسعد قاضي القضاة المنبر وفي يده مدخنة لطيفة خيرزان يحضرها إليه صاحب بيت المال فيها جمرات ويجعل فيها ند مثلث لا يشم مثله إلا هناك, فيبخر الذروة التي عليها الغشاء كالقبة لجلوس الخليفة للخطابة, ويكرر ذلك ثلاث دفعات, فيأتي في هيئة موقرة من الطبل والبوق وحوله أصحاب الركاب القراء, وهم قراء الحضرة من الجانبين يطربون بالقراءة نوبة بعد نوبة يستفتحون بذلك من ركوبه من الكرسي على ما تقدم طول طريقه إلى قاعة الخطابة من الجامع, ثم تحفظ المقصورة من خارجها بترتيب صاحب الباب والعساكر, ومن أولها إلى آخرها صبيان الخاص وغيرهم ممن يجري مجراهم.

          فإذا أذّن بالجمعة دخل إليه قاضي القضاة فقال: (السلام على أمير المؤمنين الشريف القاضي ورحمة الله وبركاته, الصلاة يرحمك الله, فيخرج ماشيا وحواليه الأستاذون المحنكون والوزير وراءه ومن يليهم من الخواص, فيصعد المنبر إلى أن يصل إلى الذروة تحت القبة المبخرة, فإذا استوى جالسا والوزير على باب المنبر ووجهه إليه فيشير إليه فيصعد إلى أن يصل إليه فيقبل يديه ورجليه بحيث يراه الناس, ثم يزرر عليه تلك القبة لأنها كالهودج, ثم ينزل مستقبلاً فيقف ضابطا لباب المنبر, فإن لم يكن ثم وزير صاحب سيف زرر عليه قاضي القضاة, ووقف صاحب الباب ضابطاً للمنبر, فيخطب خطبة قصيرة من مسطور يحضر إليه من ديوان الإنشاء يقرأ فيه آية من القرآن الكريم, ولقد سمعته مرة في خطابته بالجامع الأزهر وقد قرأ في خطبته {رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي}, ثم يصلي على أبيه وجده, ويعني بهما محمدا صلى الله عليه وسلم وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه, ويعظ الناس وعظا بليغا قليل اللفظ وتشتمل الخطبة على ألفاظ جزلة, ويذكر من سلف من آبائه حتى يصل إلى نفسه فقال وأنا أسمعه: (اللهم وأنا عبدك وابن عبدك لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً) ويتوسل بدعوات فخمة تليق بمثله, ويدعو للوزير وللجيوش بالنصر والتأليف, وللعساكر بالظفر, وعلى الكافرين والمخالفين بالهلاك والقهر, ثم يختم بقوله (اذكروا الله يذكركم), فيطلع إليه من زرر عليه ويفك ذلك التزرير وينزل القهقري. وسبب التزرير عليهم قراءتهم من مسطور لا كعادة الخطباء. فينزل الخليفة ويصير على تلك الطراحات الثلاث في المحراب وحده إماماً ويقف الوزير وقاضي القضاة صفا ومن ورائهما الأستاذون المحنكون والأمراء المطوقون وأرباب الرتب من أصحاب السيوف والأقلام, والمؤذنون وقوف وظهورهم إلى المقصورة لحفظه. فإذا سمع الوزير الخليفة أسمع القاضي فأسمع القاضي المؤذنين وأسمع المؤذنون الناس, هذا والجامع مشحون بالعالم للصلاة وراءه. فيقرأ ما هو مكتوب في الستر الأيمن في الركعة الأولى, وفي الركعة الثانية ما هو مكتوب في الستر الأيسر وذلك على طريق التذكار خيفة الارتجاج. فإذا فرغ خرج الناس وركبوا أولاً فأولا, وعاد طالباً القصر والوزير وراءه, وضربت البوقات والطبول في العود.

          فإذا أتت الجمعة الثانية ركب إلى الجامع الأزهر من القشاشين على المنوال الذي ذكرناه.

          فإذا كانت الجمعة الثالثة أعلم بركوبه إلى مصر للخطابة في جامعها, فيزيّن له أهل القاهرة من باب القصر إلى جامع ابن طولون, ويزيّن له أهل مصر من جامع ابن طولون إلى الجامع بمصر (جامع عمرو بن العاص), يرتب ذلك والي مصر كل أهل معيشة في مكان, فيظهر المختار من الآلات والستور والمثمنات, ويهتمون بذلك ثلاثة أيام بلياليهن. والوالي مار وعائد بينهم وقد ندب من يحفظ الناس ومتاعهم, فيركب يوم الجمعة المذكور شاقاً لذلك كله على الشارع الأعظم إلى مسجد عبدالله, الخراب اليوم, إلى دار الأنماط إلى الجامع بمصر, فيدخل إليه من المعونة ومنها باب متصل بقاعة الخطيب بالزي الذي تقدم ذكره في خطبة الجامعين بالقاهرة وعلى ترتيبهما. فإذا قضى الصلاة عاد إلى القاهرة من طريقه بعينها شاقاً بالزينة إلى أن يصل إلى القصر ويعطي أرباب المساجد التي يمر عليها كل واحد ديناراً.

سماط رمضان

          تعددت الأسمطة الرسمية التي كان يحضرها الخليفة الفاطمي بنفسه, فكان السماط يمد في (قاعة الذهب) بالقصر الشرقي الكبير في ليالي رمضان وفي العيدين وليالي الوقود الأربعة والمولد النبوي خمسة موالد: الحسين, السيدة فاطمة, الإمام علي, الحسن, الإمام الحاضر, بالإضافة إلى (سماط الحزن) في يوم عاشوراء.

          قال القاضي المرتضى أبو محمد عبدالسلام بن محمد بن الحسن بن عبدالسلام بن الطوير الفهري القيسراني الكاتب المصري في كتاب (المقلتين في أخبار الدولتين الفاطمية والصلاحية) (وتسمى (قصر الذهب) إحدى قاعات القصر الذي هو قصر المعز وبنى قصر الذهب العزيز بالله نزار بن المعز, وكان يدخل إليه من باب الذهب الذي كان مقابلا للدار القطبية - التي هي اليوم المارستان المنصوري, ويدخل إليه أيضا من باب البحر, الذي هو الآن تجاه المدرسة الكاملية. وجددها المستنصر في سنة ثمان وعشرين وأربعمائة. وهذه القاعة كان بها جلوس الخلفاء في الموكب يومي الاثنين والخميس, وبها كان يعمل سماط رمضان للأمراء وسماط الطعام في العيدين, وبها كان سرير الملك).

          (فإذا كان اليوم الرابع من شهر رمضان, رتب عمل السماط كل ليلة بقاعة الذهب إلى السادس والعشرين منه, ويستدعى له قاضي القضاة ليالي الجمع توقيرا له, فأما الأمراء ففي كل ليلة منهم قوم بالنوبة ولا يحرمونهم الإفطار مع أولادهم وأهاليهم, ويحضر الوزير فيجلس في صدر السماط, فإن تأخر كان ولده أو أخوه, وإن لم يحضر أحد من قبله كان صاحب الباب.

          ويهتم به اهتماما عظيما تاما, بحيث لا يفوته شيء من أصناف المأكولات الفائقة والأغذية الرائقة, وهو مبسوط في طول القاعة, ممتد من الرواق إلى ثلثي القاعة, والفراشون قيام لخدمة الحاضرين وجوق الأستاذين, يحضرون الماء المبخر في كيزان الخزف برسم الحاضرين.

          ويكون انفصالهم العشاء الآخرة, فيعمهم ذلك ويصل منه شيء إلى أهل القاهرة من بعض الناس لبعضهم الآخر, يأخذ الرجل ما يكفي جماعة, فإذا حضر الوزير أخرج إليه مما هو بحضرة الخليفة, وكانت يده فيه فيخصه به, تشريفا له وتطييبا لنفسه, وربما حمل لسحوره من خاص ما يعين لسحور الخليفة نصيب وافر.

          ويقول العلامة (المقريزي) عن سماط رمضان بقاعة الذهب: (.... وكان قد تقرر أن يعمل أربعون صينية - خشكنانج - وحلوى وكعك وأطلق برسم مشاهد الضرائح الشريفة, لكل مشهد سكر وعسل ولوز ودقيق وشيرج, ويعمل خمسمائة رطل حلوى تفرق على المتصدرين والقرّاء والفقراء ومن معهم في صحون ويحضر القاضي والداعي والشهود وجميع المتصدّرين وقراء الحضرة, وتفتح الطاقات التي قبلي باب الذهب, ويجلس الخليفة فيسلمون عليه, ثم يخرج متولي بيت المال بصندوق مختوم ضمنه عينا مائة دينار وألف وثمانمائة وعشرون درهما برسم أهل القرافة, وفرق الصواني بعدما حمل منها للخاص وزمام القصر ومولي الدفتر خاصة, وإلى دار الوزارة والإجلاء الأخوة والأولاد وكانت الدست ومتولي حجبة الباب والقاضي والداعي ومفتي الدولة ومولي دار العلم والمقرئين وأئمة الجوامع بالقاهرة ومصر وبقية الأشراف...).

          ثم يجلس الخليفة في منظرة القصر, ويتوافد كبار رجال الدولة فيقبلون الأرض بين يديه ويتلو المقرئون القرآن الكريم, ثم يتقدم خطباء: الجامع الأنور وجامع الأزهر وجامع الأقمر, مشيدين في خطبتهم بمناقب الخليفة, ثم ينشد المنشدون ابتهالات وقصائد عن فضائل الشهر الكريم.

مطبخ القصر... ودار الفطرة!

          بلغ ما كان ينفق برسم مطبخ القصر الفاطمي على أسمطة شهر رمضان طوال تسعة وعشرين ليلة: 3495 دينارا, بخلاف ثمانية آلاف رأس من الماشية وتسعة وعشرين قنطارا من السكر, خارجا عن الأشربة والحلوى... و(جريدة المطبخ) كانت تشمل الحاشية والأمراء والفقهاء والمقرئين والمؤذنين والمبخرين وصدقات الأقوات... ويشير (ابن عبدالظاهر) في خططه عن موقع مطبخ القصر الفاطمي, بأنه كان في موقع حي (الصاغة) الآن بالقاهرة, وكان يخرج إليه من (باب الزهومة), وهو الباب الذي هدم وأقيم مكانه قاعة شيخ الحنابلة بمدرسة الصالح نجم الدين, وباب الزهومة أي باب الزفر هو الباب المختص بدخول اللحوم فقط... ويضيف: (وكان يخرج من المطبخ المذكور مدة شهر رمضان ألف ومائتا قدرة من جميع الألوان في كل يوم تفرق على أرباب الرسومات والضعفاء)!

          هذا بالطبع بخلاف ما كان يخرج من (دار الفطرة) التابعة للقصر الفاطمي والتي كانت تواجه مشهد الإمام الحسين, ويمكن حصره فيما يلي: ألف حملة دقيق, سبعمائة قنطار سكر, ستة قناطير قلب فستق, ثمانية قناطير قلب لوز, أربعة قناطير قلب بندق, أربعمائة أردب تمر, ثلاثمائة أردب زبيب, خمسة عشر قنطارا عسل نحل, مائتا قنطار حطب, ثلاثة قناطير خل, ثلاثون قنطارا زيت طيب, بالإضافة إلى ماء الورد والسمسم والزعفران والمسك والشموع, وهذا جميعه كان يعمل به (طوافير الفطرة) وهي عبارة عن صوان ضخمة تحمل عدة أوان, تفرق على الأمراء وأرباب الرسومات وعلى طبقات الناس وعامتهم, كل حسب طبقته, ويبتدأ بها من أول رجب حتى آخر شهر رمضان, وتبلغ جملتها أكثر من عشرة آلاف دينار, وبلغ ما كان ينفق على خلع وكسوات غرة رمضان والعيد أكثر من ستين ألف دينار!

سحور الخليفة

          وعن مراسم سحور الخليفة قال ابن المأمون:

          (يجلس الخليفة في الروشن إلى وقت السحور, والمقرئون تحته يتلون عشرا ويطربون بحيث يشاهدهم الخليفة ثم حضر بعدهم المؤذنون وأخذوا في التكبير وذكر فضائل السحور وختموا بالدعاء وقدمت المخاد للوعاظ فذكروا فضائل الشهر ومدح الخليفة والصوفيات وقام كل من الجماعة للرقص ولم يزالوا إلى أن انقضى من الليل أكثر من نصفه. فحضر بين يدي الخليفة أستاذ بها أنعم به عليهم وعلى الفراشين وأحضرت جفان القطائف وجرار الجلاب برسمهم فأكلوا وملأوا أكمامهم وفضل عنهم ما تخطفه الفراشون ثم جلس الخليفة في السدلا التي كان بها عند الفطور وبين يديه المائدة معبأة جميعها من جميع الحيوان وغيره والقعبة الكبيرة الخاصة مملوءة أوساطها بالهمة المعروفة وحضر الجلسان واستعمل كل منهم ما اقتدر عليه, وأومأ الخليفة بأن يستعمل من القعبة فيفرق الفراشون عليهم أجمعين كل من تناول شيئا قام وقبل الأرض وأخذ منه على سبيل البركة لأولاده وأهله, لأن ذلك كان مستفاضا عندهم غير معيب على فاعله. ثم قدمت الصحون الصيني مملوءة قطائف فأخذ منها الجماعة الكفاية وقام الخليفة وجلس بالباذهنج وبين يديه السحورات المطيبات من لبئين رطب ومخض وعدة أنواع عصارات وأفطاوات وسويق ناعم وجريش جميع ذلك بقلويات وموز ثم يكون بين يديه صينية ذهب مملوءة سفوفا, وحضر الجلساء وأخذ كل منهم في تقبيل الأرض والسؤال بما ينعم عليه منه فتناوله المستخدمون والأستاذون وفرّقوه فأخذه القوم في أكمامهم ثم سلم الجميع وانصرفوا).

ليلة ختم القرآن

          في ليلة التاسع والعشرين من شهر رمضان, كان القصر الفاطمي يشهد احتفالاً خاصا بـ(ختم القرآن الكريم) وفيها تخرج الأوامر بمضاعفة ما هو متخصص للمقرئين والمؤذنين في كل ليلة برسم السحور بحكم أنها ليلة ختام الشهر الكريم.

          ويحضر الوزير لتناول طعام الإفطار مع الخليفة, حيث يجتمع على السماط أخوته وأعمامه والأشراف وأمراء الدولة والمحتسب ووالي القاهرة, كما يحضر العلماء والمقرئون (ويسلموا على عادتهم ويجلسوا تحت الروشن), وترسل سيدات القصر وكرائم البيوتات: موكبيات وأواني ماء مثلج ممزوج بماء الورد ملفوفة في الديباج وتوضع بين المقرئين لتشملها (بركة ختم القرآن الكريم), ويتناوب المقرئون قراءة القرآن من فاتحة الكتاب إلى خاتمته (تلاوة وتطريبا), ثم يخطب بعض العلماء مكثرين من الدعاء إلى الله في هذه الليلة, ثم يأخذ المنشدون في إنشاد القصائد الصوفية (إلى أن ينثر عليهم من الروشن دنانير ودراهم ورباعيات), وتقدم أجفان القطائف والحلوى, وتحمل أواني الماء إلى دور صاحباتها فيهدين منها على سبيل البركة, ثم تفرق الخلع الشريفة وصرر الدنانير والدراهم على العلماء والمقرئين والمؤذنين, فينالهم من هذه الليلة ومن كل ليالي رمضان الخير العميم!.

 

 

عرفه عبده علي   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




باب زويلة أشهر أبواب القاهرة حيث كان الخليفة الفاطمي يمر بموكبه احتفالا بغرة رمضان





من (باب الفتوح) كان يخرج موكب الخليفة الفاطمي فيما اشتهر بـ (ركوب غرة رمضان)





الجامع الأزهر ـ أعظم آثار الدولة الفاطمية ـ وبه كان الخليفة الفاطمي يصلي الجمعة الثالثة من رمضان





جامع الحاكم بأمرالله حيث كان الخليفة الفاطمي يؤدي شعائر صلاة الجمعة الثانية من رمضان





دورق من الكريستال الفاخر والذهب المشغول, استخدم بالقصر الغربي الفاطمي زمن الخليفة المستنصر بالله, متحف اللوفر ـ باريس