قبل كل شيء.. الجزائر في حاجة إلى الحوار

قبل كل شيء.. الجزائر في حاجة إلى الحوار
        

تحتاج الجزائر إلى حوار جاد, لا يرتهن إلا لوحدة الشعب الروحية ومستقبل الأجيال وممارسة الإبداع والحرية والكرامة الإنسانية والانفتاح على العالم.

          في يقيني الثابت, أن تدشين حوار صريح مثل هذا, ترعاه الدوائر المسئولة والمجتمع المدني, حول المسألة الثقافية والفكرية وتداعياتها, في الجزائر أفضل بكثير - لواقع البلاد ومستقبلها - من إنشاء وزارة للثقافة على رأسها مغامرون عابرون.

          إن حوارا جادا ومعمقا, وهادفا إلى مصالحة الذات, بمناقشة أزمة الثقافة وإشكالية اللغة, ووضع العربية والأمايزيغية والفرنسية في المجتمع, والصراع اللغوي المفتعل والمغرض, والبناء الفكري بتعزيز القيم والمعايير الوطنية الاجتماعية الروحية, وإحياء الفضاء الثقافي وتفعيل شروط الحياة الثقافية والفكرية, وإحلال الشرط الثقافي المكانة اللائقة به في سلم الأولويات والمناصب والمسئوليات, إن حوارا كهذا كفيل بإعادة الثقة إلى النفوس وإشاعة روح الاطمئنان والأمل في التخلص من العقد والانكسارات, وردم الهوة بين الواقع الكئيب والممكن المنشود, والتشوف إلى مرتجيات عهد جديد, بكثير من الأمل والثقة والعمل المنتج.

          إن الحالة الثقافية الفكرية في الجزائر معقدة ومحزنة حقا, فنحن منذ الاستقلال لم ندشن حوارا فكريا ثقافيا متفاعلا ومثمرا, وما ينشر على صفحات جرائدنا, من حين لآخر, هو عزف منفرد وصوت نشاز, لا ندري هل يقرأ ويترك أثرا يختمر في النفوس ويفعل فعله في لاحق الأيام, أم لا يشغل أكثر من الصفحات التي شغلها وسودها?

          لقد كنا نؤمن بالتراكم الذي ينتج النوعية والانطلاقة, ولكن بعد أربعين سنة من الانتظار الأبله, حصل تراكم الرداءة وسادت قيم التخلف والجهل والرعونة وطغيان الأمية, أمية الفكر وأمية المتعلم, واقع تعبر عنه دلالة تلك المقولة التي شاعت بين المثقفين والمتعلمين وعامة الشعب: ماذا تفيد الثقافة? ما فائدة العلم? لأن كل شيء في مجتمع متخلف منهزم, تنهشه أمراض الأنانية, أصبح يقاس ويوزن بمكونات الحياة الرخيصة, (أكل وشرب وما يثلثهما), أما سمو الروح وقوة الإرادة والإبداع وسعة الخيال وحرية الفكر, وما يستتبعه ذلك من أمل في حياة أكثر انفتاحا وحرية وثقة في قدرات الذات ونقد فعال لحياتنا الثقافية والسياسية والاجتماعية وحوار متكافئ يرسم اتجاهات فكرية تعبر عن تيارات سياسية اجتماعية يتجسد فيها الحق في الاختلاف مثل الحق في الوجود, دون النزوع إلى التسلط والهيمنة والابتزاز الذي يمارسه بعض السياسيين وتسيد ثقافة الارتجال والمناورة وأساليب المكر, فذلك كله غائب وغير مرغوب فيه, ويبدو أنه بعيد بعد واحة الديمقراطية واستعادة عافية الروح ونقاء الضمير.

          لقد ضاع منا, حتى ما كان يبشر بمستقبل ثقافي وحوار فكري واعد, كانت تتجلى فيه بذور الاتجاهات التي كانت تحاول التعبير عن نفسها, متسترة تحت غطاءت مخادعة, مثل كتابات: فرانز فانون - مصطفى الأشرف - البجاوي - سعد الله - محمد حرب - أحمد طالب الإبراهيمي - عبدالحميد مزيان - عبدالله شريط - مولود قاسم - الميلي - مولود معمري - مرتاض - الزبيري... وغيرهم.

          لقد كان هذا الجيل - برغم الاختلافات وتعدد الانتماءات - يطمح إلى تأسيس واقع ثقافي ورعاية واحة الفكر التي يتفيأ ظلالها رجال السياسة, ولكنه أخفق. اشتبهت عليه أشجار الغابة وطرائدها وتناهبته الأيديولوجيات, فلم يفلح في بناء مدرسة جزائرية فكرية حية, لا تنحني أمام الأعاصير ولا تسقط في مستنقع سنوات الدماء والردة وجنون تدمير الذات وسياسات الارتجال والمغامرة والحقد وسديمية النظر.

          نقول إن هذا الجيل - مثل الجيل السياسي - أخفق في تأسيس مدرسة جزائرية فكرية, مثلما أخفق في المحافظة على مدرسة ابن باديس في الفكر الإسلامي وفكر مالك بن نبي, وتطويرهما وتزكيتهما, ومن ثم فإن الفكر السائد اليوم هو فكر التسطيح والضحالة والاعتيادية, الفكر المنهزم الذي يدافع عن البدهيات ويرفع شعار المسلمات - في عالم كل شيء فيه يتغير ويتجدد - ويكرس الجمود والرتابة, ويحمي طقوس الموت المجاني, (جيل يدلف نحو نهايته ويدخل في المحاق حاملا أحلامه المجهضة).

          هل مطرقة السلطة, أم بريقها كان هو السبب? أم أن مرحلة بناء الدولة ومؤسساتها بعد الاستقلال, وما تتطلبه من جهود الموظفين العاملين في دواليب السلطة, حالت دون نجاح هذا الجيل, وأفشلت المشروع?

          أليست هذه الأسباب التي كثيرا مانتذرع بها, هي من العوامل التي تساعد على تأسيس ثقافة وطنية متقدمة وترسيخ مدرسة جزائرية فكرية فلسفية تتفرع على السياسة والاقتصاد والتسيير والتعليم والعلوم والتاريخ والاجتماع - تحدد المعالم وتثبت المقومات الأساسية وترقي ملامح التنوع الثقافي الوطني في إطار الوحدة, وتمكن لحركة الإبداع والخلق والاستقلال من أن تنطلق في مسارها الصحيح, مدرسة تتغذى من الإبداع العالمي الإنساني وتغتني من مخزونها التراثي الحي وتجسد التواصل والاتساق والتكامل, إن على المستوى الأفقي أم العمودي, مدرسة تناضل من أجل افتكاك حقها في المشاركة في رسم معالم المستقبل وتوجهاته, وتمارس هذا الحق في الصيرورة التاريخية للمجتمع, من خلال التعليم والمؤسسات الإعلامية والكتابية لفضح وتعرية المغاليق السياسية والدينية والتاريخية, واقتحام المحرمات في المعابد المدنسة, (بالنقد جوهر الموقف الإنساني).

          أليس من نتائج هذا الركون إلى كنف التدهور, أن تنزل الدولة بمؤسساتها إلى استرضاء أصحاب المهمات القذرة, والتقرب من المغامرين وذوي السوابق العدلية وسماسرة المواقف والأميين وأنصاف المتعلمين, من المقامرين والمتاجرين بكل شريف ونبيل, ليصبحوا من ذوي الشأن في تسيير الشأن العام?

          إن اللغة العربية دقيقة في وصف هؤلاء بأوصاف تليق بكل صنف, فهي بعبقرية لا نظير لها, تفرق بين: الراجن والراشن والوارش والوالغ والواغل والمهتلك... فهي صفات تميز حالة كل آكل من مائدة السلطة التي لم يستطع هو أن يسمق إليها فنزلت إليه, ولكن متى تستيقظ هذه السلطة وتتفطن إلى أنها بنزولها إلى مستوى هؤلاء, إنما هي تكرس الرداءة وتديم التخلف وتعيق الانطلاقة?

المثقف والسلطة

          لعل القضية المركزية التي كثرت حولها الكتابات واشتد النقاش, هي علاقة المثقف بالسلطة, وهي مسألة ترتبط برباط وثيق بالمسألة الثقافية التي نحن بصددها, وهذه العلاقة في رأينا تنقسم إلى قسمين: علاقة عدوانية وعلاقة احتواء, ولكن قبل ذلك أولى وأحرى بنا أن نفكر في موقع المثقف في المجتمع والإدارة السياسية والحياة العامة, ودوره في صناعة الرأي العام وامتلاك الحقيقة وإنتاجها, ونسأل أنفسنا: كم من المثقفين من نودي لتسلم منصب أو تولي مسئولية, ورفض التبعية والعلاقة الامتثالية للحاكم, واعيا أن هذا المنصب سيكون على حساب كرامته كمثقف وحريته واستقلال رأيه وموقفه?

          سمعنا بموقف عبدالله شريط الذي رفض يوما منصب وزارة الثقافة الذي يتهافت عليه المثقفون والأميون! ولكن كم من المثقفين من باعوا ذممهم ورضوا بالذيلية, وغمرتهم أضواء المناصب وجرفتهم المسئوليات وكانوا حربا على الثقافة والمثقفين الذين لم يلحقوا بهم!

          كيف ومتى يحمي المثقف عذريته ويصون شرفه ويكون من صناع القرار والتأثير في الرأي العام, على غرار جمال الدين الأفغاني أو ابن باديس أو برتراند راسل أو أندريه مالرو أو طه حسين أو سارتر...? نحن لا نعرف لمثقفينا الذين دعوا لتولي مسئوليات, إلا تلبية الدعوة, والتنكر لأفكارهم ومواقفهم وقناعاتهم والانسحاق أمام الحاكم الذي يسارعون إلى تبرير مواقفه وتمرير أفكاره ومشاريعه وتسويق جهله, وحجتهم دائما أنهم يخدمون وطنهم يؤدون المهام التي تناط بهم, ولا يترددون ولا يتخاذلون, وسرعان ما ينقلبون على شريحتهم التي انبثقوا منها, فيتهمونها بالانغلاق وبعدها عن الواقع وجهلها لحقائق الأشياء, وأنهم هم أصبحوا يعرفون حقائق الأمور وخباياها, والعارف في مفهوم (القوم), (كائن بائن) كائن مع سيده بائن عن الناس, وفي هذه الحال تطرح إشكالية الحقيقة من يملكها وينتجها, والنخبة من يمثلها?

          ونعود إلى إشكالية العلاقة بالسلطة, ومفهوم السلطة في الوعي الجمعي, هو مفهوم الحاكم الذي يتبعه المحكوم تبعية خضوع وانصياع ويتعصب له عصبية مصالح, وليس مفهوم علاقة منبثقة من الاندماج والنشاط المتبادل, يكون جميع الأطراف فيها شركاء في أداء مهام وطنية تحكمهم قواعد وسلوك عام, أقول إن هذه العلاقة في عمومها علاقة قهرية تتسم بالعدوانية, تتضح تجلياتها في أبسط صورها وأقربها في التبعية والانسحاق, فيها تغتال ذاتية التابع وتصادر حريته وقدرة الإبداع لديه, أو يعمد صاحب السلطة إلى نفي المثقف من جنته, لأنه فاقد الثقة والوفاء للسلطة, أو لأنه يعرف أكثر مما ينبغي أو يقحم نفسه فيما لا يعنيه أو يتطاول على رئيسه, أو لا يملك من قوة الصبر والاحتمال ما يؤهله لأن يكون جرذ مكتب وأرضة أوراق رهن إشارة سيده, تنطبق عليه علاقة السيد بحريمه في حال التبعية, وعلاقة العدو بعدوه في حالة الإبعاد والتغييب.

          وجذر المشكلة أن المثقف الحق حر في تفكيره, لا يأتمر إلا بصوت العقل والعلم والمعارف وقواعد العمل, ونحن نعلم أن الاقتصاد والتسيير وإدارة شئون الدولة وحسن التدبير, أصبحت ترتكز على المعارف والمناهج, ولا دخل فيها للصدفة والارتجال. ومن ثم فهو خطر بأفكاره, لا يؤتمن في سلوكه, (غير مسئول) و(غير منضبط) في أدائه لمهامه, فسلوكه لا ينسجم مع ما يريده المسئول وما تقتضيه مواضعات السلطة, وعبارة (مسئول) و(غير مسئول) أصبحت متداولة حتى لدى العامة, فهي تعني التحفظ والكتمان والموافقة المبدئية والنفاق الاجتماعي, أو الانفلات والاعتراض والتلكؤ, من ذلك مثلا: إيقاف المسار الانتخابي, أو المساس بمقومات الشخصية الوطنية, أو مصادرة الثوابت الوطنية, أو بث النعرات الجهوية والروح القبلية وثقافة الحقد, أو التآمر على المنظومة التربوية واللغة العربية, بدعوى الإصلاح والتحديث والعصرنة, أو إجهاض مشروع المصالحة الوطنية واستعادة الأمن والاستقرار والثقة, وهي كلها مصائب كرثنا بها من جراء مواقف السياسي المرتجلة وتصرفه الأهوج, ومساندة أنصاف المثقفين المتسلقين, الذين لا يحسنون قراءة نتائج المواقف السياسية, أو من تبلد إحساسهم الوطني وأعمتهم الأنانيات والمصالح الذاتية.

التصادم والنفور

          لا شك أن سلوكا كهذا يقابله النفوروالرفض من جانب المثقفين الفاعلين المنتجين, والنتيجة لهذه العلاقة القهرية أو التصادمية, إعاقة النهوض وإطالة عمر التخلف وتعاقب المشاكل, واليأس من الإصلاح وتصحيح المسار, والهجرة الداخلية والخارجية, والسلبية والارتجالية في المواقف والتسيير والخطاب السياسي, وإهدار الإمكانات البشرية والمادية, ونحن في زمن تنضب فيه مواردنا الاقتصادية والطبيعية وتزداد حدة النمو الديموجرافي ومتطلبات الحياة, من ماء الشرب إلى التكنولوجيا العالية, بمتوالية هندسية, فأنى لنا أن نوقف هذا الانهيار?

          ولكن, وحتى لا نجانب الموضوعية ولكي ننصف جميع الأطراف: هل المثقف محق ومصيب في كل مواقفه وسلوكاته وأطروحاته دائما, في مقابل تخلف الحاكم المسئول وجهله وغطرسته وضيق نظرته وأنانيته?

          ألسنا اليوم مطالبين بأن ننظر إلى هذه العلاقة غير المتوازنة وغير العادلة من زوايا أخرى, قد تلغي كل الأحكام المسبقة نحو هذا الطرف أو ذاك? وتسفه رؤيتنا المنحازة المحكومة بتجاربنا الفردية المزاجية الفقيرة, وعجزنا عن التأثير في الآخر والتفاعل معه وترقية قدراتنا المعرفية والعلمية في التسيير والإنتاج ونجاعة الأداء إلى يفاع الاستبصار ومرتجيات المستقبل?

          أليس السؤال حول ماهية النخبة الفاعلة الموجهة التي تضطلع بالبناء والتنمية, وبالتالي التي تمتلك الحقيقة وتنتجها, وهو سؤال مشروع?

          إن المثقف يعيش على وهم أنه ينتمي إلى النخبة المستنيرة القادرة على قيادة المجتمع وتغيير البنيات والذهنيات الجامدة وبناء المجتمع الجديد, مجتمع العقلانية والحرية والعدل والديمقراطية والحداثة, بينما رجل السلطة الذي يحتكر القرار والسطوة, وبالتالي الحقيقة, هو رجل متخلف وجاهل وغير قادر على مواكبة سنن التطور والحياة, معاد للحداثة والديمقراطية, لا يهمه إلا احتكار السلطة وجمع الثروة من أي وجه أو مصدر كان...!

          في تقديري أن أكثر مثقفينا يتصورون الأمر على هذا الشكل أو قريبا منه, ناسين أن فرانسيس فوكوياما وصمويل هنتنجتون, قد صارا الآن من المؤثرين في الرأي العام الأمريكي, والنافذين لدى بوش والبيت الأبيض, بعد أن كان الأول مجرد موظف مغمور في وزارة الخارجية والثاني أكاديميا معزولا لا شأن له, وكذلك الشأن بالنسبة لسارتر (عقل فرنسا) وبرتراند راسل ووليام جيمس, ولكننا لم نصنع واحدا من هؤلاء ولا طبقة متجانسة فاعلة في الحياة السياسية والاجتماعية, ومتفاعلة مع العالم, تملك من الجرأة العلمية واستقلالية الرأي وسعة الأفق ورصانة المشروع الفكري, ما يؤهلها لأن تحدث تأثيرها المنشود في القرار السياسي.

نخبة أم نخب?

          إن مفهوم النخبة أصبح مفهومًا ملتبسا ومحل نظر, فالنخبة تعددت وصارت نخبا, يحكمها مبدأ (علاقات التغالب والتسالم), كما قال الفارابي قديما, فهناك نخبة تقنيي المعرفة - التكنوقراط - أو نخبة الإدارة والتنظيم, التي تضعها السلطة في موضع المهيمن والمتحكم في زمام التسيير, لخدمة النظام والمحافظة عليه, وتدجين المحكومين. ونخبة علمية تعكف على البحث والنظر في ميادين المعرفة, وأخرى عسكرية تلقت تكوينا وثقافة عسكرية, وغيرها فكرية ثقافية أمينة على الغايات الإنسانية وتراثها, في خدمة حاجات الإنسان إلى الخلق والإبداع والتفكير المستقل وتلبية الأشواق الإنسانية, وقد تتماهى وتتمازج النخب وتتداخل مهامها ووظائفها واختصاصاتها, فعندنا - مثلا - في الجيش الشعبي الوطني, من الضباط الشباب من يتقن ثلاث أو أربع لغات أجنبية إتقانا جيدا, يبحث بها, ويقرأ آداب شكسبير ودستيوفسكي وفلوبير في لغاتها الأصلية, فضلا عن لغته العربية, ومثله في قطاعات أخرى, إدارية وعلمية وسياسية وغيرها, وكل فئة ترى نفسها, بما تملكه من تميز وإمكانات تتفوق بها على غيرها, نخبة جديرة بالقيادة والريادة, وفي ضوء ذلك صار لزاما إعادة النظر في مفهوم النخبة القائدة التي تتحمل مسئولية الإصلاح والتغيير والتجاوز, مثلما تغير مفهومها من جيل أول نوفمبر 1954 الذي أعلن الثورة وقاد الكفاح المسلح وحرر البلاد, إلى جيل بناء الدولة الجزائرية الحديثة, وتسيير شئونها وإرساء قواعد المؤسسات.

          ومما لاشك فيه أن هذه النخب كثيرا ما تتجايل وتتبادل مواقعها, تبعا للظروف والتحولات السياسية والاجتماعية التي ترتبط بها وترتهن إلى مقتضياتها.

          ومع الاعتراف بما لهذه الفئات والنخب من أدوار طليعية في مراحل من تاريخ الأمة, تطول أو تقصر, حسب طبيعة كل مرحلة وحركة التاريخ, فإن الأكيد في كل ذلك, أن النخبة الفكرية هي التي ينبغي أن تئول إليها مقاليد الأمور, لأنها تملك الفكر الحاسم في صناعة المستقبل, فهي التي تضع التشريعات والقوانين, وهي التي تبدع الآداب والفنون وتصون خيال الأمة وروحها من الاندثار, وهي التي تبرز آثارها ومآثرها وترسم لها في ضوء ذلك معالم مستقبلها وفلسفتها في السياسة والأخلاق, وتبحث عن قوانين التطور والنهوض في السيرورة التاريخية, ومن كل ذلك يمتح السياسي أفكاره وينهل زاده الفكري والسياسي, الذي يواجه به تحديات الحياة ومتغيرات السياسة والصراع في معركة البقاء:

ولولا خلال سنها (الشعر)  ما درى بناة المعالي كيف تبنى المكارم


          وهي بكل ذلك ومن خلاله, تجدد الأفكار وتشكل الذهنية العامة وتبني الإنسان - المواطن, كفكر وإحساس ومشاعر ومزاج ووعي وإرادة وتوجه.

تزييف مفهوم الثقافة

          لاشك أن الحديث عن المثقف وأزمته, وإشكالية علاقته بالسلطة, يقود إلى الحديث عن المفهوم الدارج للثقافة, الذي جنى جناية كبيرة على الثقافة وعلى موقع المثقف في المجتمع, هذا المفهوم الذي رسّخه عمليا النفعيون وأدعياء الثقافة, ولهذا السبب تراجعت مكانة المثقف من مستوى العلم والثقافة والوجاهة في المجتمع ولدى السلطان, والسلطة المعنوية الأدبية وموئل الضعفاء والمحقورين وملاذ المظلومين في مجتمعنا التقليدي, إلى الإنسان الذي لا يفيد, الفائض عن الحاجة, الذي ينتحل وظائف لا وجود لها, أو غير القابل للتمثل والاندماج, والذي ترتاب فيه السلطة وتؤلب عليه الدهماء, وأجهزتها, إن تطاول وخاض في هرطقة سياسية واجتماعية, هذا المفهوم الهابط للثقافة, تضافر واقترن بوضع ملتبس وبائس للمثقف, في فهم الخاصة والعامة, فغدا كل متعلم (يفك الحروف) وكل إداري (من دفعة لاكوست) وكل من يرطن فرنسية المطبخ والحافلة والمقهى يعد مثقفا, أما المثقف المفكر الكاتب المنتج فلا شأن له ولا يؤبه له في مجتمع أمي, طغت عليه القيم المادية وانحسار الأخلاق وفقدان الاتجاه والهدف من الحياة.

          ومن العوامل الفاعلة في تدني مفهوم المثقف وتزييف الثقافة, ما عرف عن بعض المثقفين المستلبين والمغتربين, من مواقف وسلوكات مناوئة لأمتهم وقيمها ومقدساتها, وجلهم غرقوا في مستنقع الاستلاب بتأثير من مناهج الدراسة والدعاية الفرنسية والانبهار بفرنسا والغرب ومنجزاته, ساعد على ذلك فراغ روحي وفقر ثقافي نشأوا فيه, فلا غرو أن يكون فيهم (زناتي - فاسي - حسناي لحمك - السعيد بوليفة - المطورن جوزيف رندار - الليشاني - بلحاج - طاهرات - بن جلول - ابن التامي - فرحات عباس - ميسوم صبيح - رضا مالك - بن زاغو -.....) ومن سبقهم وجايلهم ولحق بهم من تلامذتهم, الآكلين من العشبة المرة - الزقوم - من خريجي مدرسة جيل فيري الاستعمارية 1883 إلى خريجي المدرسة الوطنية العليا للإدارة في دفعاتها الأولى.

          إنها شريحة تغربت عن أمتها, وأدارت ظهرها لثقافة شعبها وقيمه ومعتقداته واستهجنتها وناصبتها العداء, وتعلقت بالغرب - فرنسا خاصة - لغة وثقافة وحضارة ومعتقدا وتصورات ونمط حياة, وذاكرة استعمارية, وليس حقائق علمية ومنجزات حضارية, أي استعارت تصوّر الغرب لنفسه بعد إلباسه لباس العصمة والهالة القدسية التي لا تقبل النقد والمناقشة, إنه التصور الذي يتولد عن الإيمان بالمركزية الأوربية وعقيدة الاستعلاء والصلف والاستتباع, وهو أشد حالات الاستلاب والاغتراب عن الذات الحضارية, كتراث روحي وامتداد ثقافي وتواصل تاريخي, وهذا ما وقع فيه المتغرّبون, ممن تجنسوا أو تنصروا أو دعوا إلى التجنس والتنصل من الهوية الوطنية العربية الإسلامية, من تلاميذ جيل فيري إلى تلاميذ ميسوم صبيح في عهد استقلالنا الهزيل, فقد تشبّعوا بعقيدة الاستعلاء عن الشعب وثقافته وحضارته ومعتقداته, وتصدّوا لكل حركات الإصلاح الأصيل بكل صلف وغرور واستهجان, ورأوا أن قاطرة النهوض بالوطن وتحقيق التنمية والانطلاق نحو المستقبل السعيد, هي قاطرتهم وحدها, وهذا الشعب بكل فئاته وشرائحه ونخبه قطيع تابع لهم مؤتم بهم.

          هذه الفئة المستلبة, شاذة في الزمان والمكان وفي أطروحاتها الغربية الاستعمارية, جنت جناية منكرة, واقترفت الآثام الفظيعة التي عجزت عنها جحافل الجيوش الغازية, لأنها شوهت وجدان الشباب ولوّثت أفكاره وأعاقت مسيرته, وكانت ممارستها - بحكم تقلّدها المناصب الحسّاسة وتحكمها في مصائر الأجيال ومقدرات الأمة, التي لم ينافسها عليها أحد - سجلا طويلا من الإخفاقات في السياسة والاقتصاد والإدارة والتسيير, وتكرار التجارب الفاشلة التي أنهكت موارد البلاد, واستنزفت خيراتها, وحوّلتها دولة مشلولة الإرادة فاقدة السيادة ممزّقة الأشلاء, موزّعة الانتماء, مرهونة المستقبل بما تراكم عليها من ديون, وهذه هي نتائج التسيير وآثاره المرة, منذ استرجاع استقلالنا المخدوع.

          وأخيرا, إن الجريمة النكراء التي ارتكبها المستلبون المتغرّبون في حق الشعب الذي تسلّطوا على رقابه ومصيره, هي إرغام أبنائه على معاداته وكراهية وطنهم وعزوفهم عن ثقافته, وتاريخه والإصرار على الفرار من جحيم قبضتهم وسطوتهم, وبذلك تعانق ممارستهم وسلوكاتهم أمنية الجنرال ديجول عندما صرّح, ذات يوم من سنة 1960 مسترضيا غلاة الاستعمار, بأن (الجزائر ستعود إلى حضن فرنسا في غضون ثلاثين سنة!).

          انفرط العقد وانقرض جيل الثوار, وحل جيل الأغيار الذين مزّقوا البلاد وأذلّوا العباد, لا تَنُدُّ دخائلهم إلا عن خائنة أو مكيدة, جبلة فطرت على الخبث والتنكّر لكل ما هو جميل ونبيل في هذا الوطن, وشهوة جانحة للفتنة والظلام, جامحة لتخريب كل ما هو أصيل وشريف في تاريخ الأمة وتراثها وتطلعاتها نحو السيادة والبناء والتقدم .

 

عبدالمالك إبراهيمي   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات