لغتنا العربية... هل تعاني الغربة?

  لغتنا العربية... هل تعاني الغربة?
        

في الوقت الذي نهتم فيه بدراسة اللغات الأجنبية وإتقانها, فإن تدريس اللغة العربية يتعرض لنوع خطير من الإهمال يؤدي بها إلى أن تكون غريبة في بلدها.

          لعل دهشتنا لا تنقضي حين نسمع ونقرأ شواهد وأمثلة لإهمال متعمد أو غير متعمد يحدث للغتنا العربية, سواء من خلال أجهزتنا الإعلامية والثقافية, مقروءة كانت أو مسموعة أو مرئية. أو من خلال أجهزتنا التعليمية والعلمية التي تعمل - بقصد أو بغير قصد - على التقليل من شأن هذه اللغة سواء في مدارسنا أو جامعاتنا وذلك من حيث تخفيض درجات هذه اللغة العربية عن غيرها من المواد في المدارس, أو تقليل الساعات المخصصة لمحاضرات اللغة العربية في الجامعات حتى في الكليات المعنية أصلا باللغة العربية وآدابها بما أدى في النهاية إلى غربة لغتنا العربية في بلادها.

          وليت الأمر ينتهي عند هذا الحد, بل يتعداه حين نقرأ ونسمع أمثلة وشواهد لأساتذة ومعلمين يخطئون ليس فحسب في النحو والصرف وبناء الجملة, بل أيضا في الإملاء, والمرء يأسى ويأسف حين يكون هذا هو حال هؤلاء الأساتذة, فما بالنا بالطلاب الذين يدرسون ويتعلمون على أيدي هؤلاء الأساتذة!!

          وقد تتضاعف هذه الدهشة حين نرى الاهتمام الكبير بإتقان اللغات الأجنبية, بشكل يزيد بكثير على الاهتمام بإتقان لغتنا العربية وكأننا نحرص على احترام وتقدير لغات الآخرين في وقت نتعمد غير ذلك بالنسبة للغتنا العربية! مع أنه كان الواجب أن يكون العكس هو الصحيح.

          يحدث هذا في وقت نجد فيه أجدادنا من العرب الأقدمين كانوا يهتمون بهذه اللغة العربية اهتماماً بالغا, لعله يأخذ مظاهر عدة منها الحرص على تدوينها, وإلا فما معنى أن تقوم حضارتهم على الكلمة المكتوبة, بشكل باهر, شد انتباه أبناء الحضارات الأخرى, صحيح أن الرواية الشفوية كانت أول محاولة لنقل الثقافة العربية, لكن صحيح أيضا أن هذه الرواية اقترنت منذ اللحظة الأولى بالحرص والدقة والأمانة كسمات تضاعفت بعد الإسلام, هذا الدين الذي دعا صراحة إلى الحرص البالغ, والدقة الكاملة, والأمانة الملحوظة في نقل الآيات الكريمة لكتاب الله عز وجل, وكذلك الأحاديث النبوية الشريفة. حيث التزم القوم بالحرص الشديد والدقة الأشد, والأمانة المتناهية, حين يروون شواهد من هذا التشريع في دينهم, أو حين يلقون بعضاً من أشعارهم ووقائعهم ومآثرهم جاهلية كانت أو إسلامية, ثم كانت الكلمة المكتوبة بعد ذلك مقيدة ومسجلة مدوّنة لكل ما يرونه من أحداث وتشريعات ومآثر ووقائع.

الكتابة من صنع الإسلام

          وليس مصادفة والأمر كذلك أن تكون الكتابة من صنع الإسلام, وإلا فما معنى أن يشترط النبي صلى الله عليه وسلم أن تكون الفدية من الأسر في أعقاب غزوة بدر, مقابلها أو نظيرها أن يعلم الأسير من المشركين الكتابة لعشرة من المسلمين, وأن يكون زيد بن ثابت كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وزهاء أربعين صحابيا من هؤلاء الذين علّمهم أسرى المشركين, والأكثر أن يكون القرآن الكريم أول نص عربي إسلامي مكتوب وصل إلينا نتيجة لتعلم الكتابة التي سعى إليها النبي الكريم.

          وتتسع الدولة الإسلامية في العصر الأموي, مما يؤدي إلى اختلاط العرب بالأعاجم, وهو ما يؤدي بدوره إلى خشية إفساد اللسان العربي, وهنا بدأ التفكير في ضبط وتصحيح هذا اللسان العربي حيث كان تأليف كتب النحو والصرف, وفي الجانب الآخر تثور الفتن, وتستحدث المذاهب, وتكثر الفتاوى, فكان التفكير في وضع كتب في الدين, إليها يرجع القوم في أمور دينهم بعيداً عن الأهواء الشخصية, والنوازع السياسية, والميول العصبية, فيدوّنون الحديث النبوي الشريف, ويجتهدون في استخراج الصحيح فيه من غير الصحيح.

          وتنهض الدولة العباسية ومعها تنهض الكلمة العربية المكتوبة, وتظهر الكتب محتفظة بالطابع الذي أتى به المؤلفون وقتئذ من ضبط لهذه الكلمة, وتصحيح لها, حتى تكون دقيقة معبّرة عن ثقافة جديدة لها قواعدها وأصولها اللغوية التي ترفض الخروج عليها.

          فإذا كان هذا هو شيئا قليلا من اهتمام أجدادنا العرب باللغة العربية. فالأمر يختلف عند الأحفاد وإلا فما معنى أن تتكرر توصيات مجمع اللغة العربية في السنوات الثلاثين الماضية, متضمنة الشكوى المرّة والمستمرة, من تدهور مستوى التعامل مع اللغة العربية, مما أدى إلى ظاهرة الضعف اللغوي, ونشوء نوع من الصراع بين اللغة اليومية التي تساندها وسائل الإعلام, والفصحى التي تتراجع أمام سلطة هذه الأجهزة الإعلامية, وانهيار مستوى التعليم, وتخفيض ساعات تدريس اللغة العربية في الجامعات والمدارس, مع انتشار المدارس الأجنبية على حساب اللغة العربية ليتخرج فيها الطالب وهو غير قادر على كتابة سطر واحد صحيح باللغة العربية في وقت يتقن فيه الكتابة بغيرها من اللغات الأجنبية أدبا كان أو علما. بشكل يساويه بأبناء هذه اللغات الأجنبية حيث ينافسهم في الاختبارات, وربما يتفوّق عليهم.

          ولا يقل هذا الخطر عن خطر آخر هو خطر التغريب والتبعية الثقافية حيث نجد الكثيرين ممن يستهينون بلساننا العربي, إلى الدرجة التي يشككون في أدبه وفكره.

          يحدث هذا في وقت يقوم فيه غيرنا بإحياء وتنمية لغاتهم, فمثلا نجد اليهود يقومون بإحياء لغتهم العبرية وتنميتها, وذلك عندما تمكن علماء منهم من ترجمة جميع المصطلحات الطبية الحديثة إلى مرادفاتها العبرية. إيمانا منهم بلغتهم التي عادة ما تقترن بتمسكهم بقوميتهم. وهنا أمثلة أخرى بتمسك الآخرين بلغاتهم فلا تجد مثلا ألمانياً أو إيطالياً يسمح لنفسه بالتعامل مع غيره إلا بلغته. بينما نجد غير ذلك في بلاد عالمنا العربي, حيث نتعامل بغير العربية... وكأننا نتفاخر بذلك أمام العالمين.

          والغريب أن أبناء اللغات الأخرى يتعجّبون لموقف البعض من لغته العربية وذلك حين يطالب هذا البعض بأن يستبدل بحروف العربية حروفا لاتينية, أو أن يستبدل بلغته العربية كلها لغة أجنبية ليصبح عقله عربياً ولسانه أجنبيا. ويتساءل هؤلاء الأجانب مندهشين, أليست هذه اللغة هي لغة حضارتكم في القديم, ولغة مجتمعاتكم في الحديث? وأليست هذه اللغة من الحيوية بحيث تنال كل هذا الاهتمام في كل جامعات الدنيا? ثم أليست هذه اللغة من الأهمية حتى أصبحت الآن واحدة من اللغات المستخدمة في الأمم المتحدة والمنظمات التابعات لها?

          ولا عجب لذلك التقدير للغة العربية في الدوائر والأوساط العلمية والثقافية والسياسية في العالم. فلعل هذا التقدير مستمد من كونها لغة كتاب سماوي مقدس هو القرآن الكريم, وهي خاصية تنفرد بها دون غيرها من اللغات. حيث تجمع بين أمور الدين وأمور الدنيا, أي هي لغة الدين والدنيا, العبادات والمعاملات, العقيدة والتفاهم, وقلّما يكون للغة من اللغات مثل هذه المقومات.

          ولعلنا نذكر هنا حقيقة تسجلها كتب التاريخ, مؤداها أن اللغة العربية كانت إحدى لغتين - في العالم القديم - تكتب بهما الفلسفة والعلوم فيما بين القرن الثاني والقرن السادس عشر. حينما كانت العربية في الشرق - واللاتينية في الغرب - حتى اعتبرت اللغة العربية لغة عالمية وقتئذ ولعل هذا الأمر يبطل الدعوى القائلة بأن اللغة العربية لغة أدبية لا تصلح لأن تكون لغة علمية حيث إن هذه الدعوى باطلة بدليل ما يشهد به ماضي هذه اللغة, الزاخر بالفتوحات العلمية والفلسفية وذلك عندما استوعبت جميع أنماط المعرفة الإنسانية من علوم رياضية وكيميائية وطبيعية وفلكية إلى جانب الفلسفية بالطبع, ويكفي دليلاً على رسوخ العربية في مجال العلم أن مفرداتها ومصطلحاتها العلمية تشيع في لغات أكثر الأمم تفوقا في العلم والتكنولوجيا, إن بعض علوم هذه الأمم لايزال يعرف باسمه العربي ومثال ذلك علم الجبر.

          وحتى إذا صدقت الدعوى القائلة بأن العربية لغة أدبية فهذا الأمر يحسب لها, لا عليها. فاللغة إذا كانت ناجحة أدبيا لابد أن تنجح علميا. لأن المادة العضوية للغة هي الأدب الذي ينمّيها ويمدّها بنسمة الحياة. وليست هناك لغة علمية لا أدب لها. كما يتفق علماء اللغة وخبراؤها.

          ثم إن هذا الحرف العربي الذي أراد بعض أبناء الثقافة العربية أن يغيروه ويستبدلوا به اللاتيني مقرراً عدم جمالياته. هذا الحرف يعده الفنانون الأجانب من أجمل الخطوط, وأنه بأوضاعه وأشكاله المنسجمة مع المعمار العربي كان يحل محل التصوير الذي نهى عنه الإسلام في بداياته. ولذلك أوصى كثير من المستشرقين وفي مقدمتهم المستشرق الفرنسي (لويس ماسينيون) بالتمسك بهذا الحرف العربي كسمة من سمات الحضارة العربية.

العربية... تقاوم

          إن أهمية اللغة العربية, واقترانها بقومية أبنائها في الماضي جعلت المستعمرين للعالم العربي يحرصون على القضاء عليها أولاً وقبل كل شيء. وكم لاقت هذه اللغة من بطش الغزاة والمستعمرين على أرضها سواء كان ذلك في المغرب العربي أو المشرق العربي. لكن على الرغم من ذلك فقد انتصرت العربية على هذه المحاولات لأسباب كثيرة أولها وأهمها أنها لغة القرآن الكريم الذي قال عنه رب العزة: إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون.

          ونتيجة لذلك انتشرت هذه اللغة في مشارق الأرض ومغاربها من أواسط الهند شرقاً, إلى جبل طارق غرباً, ومن البحر الأسود شمالاً إلى المحيط الأطلسي جنوبا, وكان يمكن أن تكون لغة المسلمين في كل مكان وليس في العالم العربي وحده في العصر الحديث, وكان يمكن أن يحدث ذلك عندما شرعت الباكستان في أن تتخذ من هذه اللغة العربية لغة وطنية بعد الاستقلال, لما وجدت بينها وبين لغتها الأردية من صلات رحم وقربى. إلا أن المحاولة باءت بالفشل لأسباب كثيرة منها المؤامرة ضد هذه اللغة العربية وأصحابها.

          ولعل غربة اللغة العربية في ديارها بالوطن العربي في وقتنا الراهن تتناقص وموقفنا منها قديماً, حيث كان يتسم بالاهتمام بهذه اللغة, مع أن واقع الأمر يؤكد أنه ما من مجتمع متماسك متكامل إلا وكانت اللغة الواحدة من أهم عناصر تماسكه وتكامله وما من حضارة ازدهرت وأثمرت إلا وكانت اللغة من أهم عناصر ووسائل هذه الحضارة في التعبير عنها, وتجميع المواطنين في بوتقتها, وما من ثورة اجتماعية كبرى قامت إلا ولعبت اللغة دوراً ملحوظاً في التمهيد لها وتأجيج أوارها, وتأكيدها في النفوس.

          مثلاً الثورة الفرنسية قامت على أكتاف عدد من الأدباء والمفكرين الموسوعيين الذين نضجت اللغة الفرنسية في كتاباتهم من أمثال فولتير ورسو ومونتسكيو, وغيرهم, والثورة الروسية مهّدت لها روائع بوشكين ودوستويفسكي وتورجنيف وتشيخوف, وثورة يوليو عام 1952 سبقتها أعمال ناضجة لكبار الأدباء والمفكرين المصريين من أمثال عميد الأدب العربي طه حسين, وعملاق الفكر العربي عباس محمود العقاد, وعميد الفكر المسرحي توفيق الحكيم في كتابات معروفة بعينها, والثورة الجزائرية كانت في جانب كبير منها تمرّداً على محاولات الاستعمار الفرنسي في القضاء على اللغة العربية, واجتثاثها من جذورها في أرض الجزائر العربية, لتفريغ أبنائها من ثقافتهم العربية الأصلية حتى يمكن فرنستهم.

          فاللغة بوجه عام هي العنصر الأساسي في كل قومية, والمرآة التي ترى فيها كل أمة أهم مقومات شخصيتها وتجمع فيها مجمل حكمتها وخبرتها ورصيد قيمتها ومبادئها التي تعيش بها, وتكافح من أجلها.

          وإذا صدق هذا الأمر بالنسبة إلى كل قومية أو كل أمة على الأرض, فهو أصدق ما يكون بالنسبة إلى القومية أو الأمة العربية, ولسانها العربي, ودينها الإسلامي وكتابها المبين (القرآن الكريم) هذا الدين الذي اتخذ من لغة العرب معجزته الأولى, باهراً به أعداءه ومناهضيه من أهل البلاغة شعراء كانوا أو خطباء.

          وتبع ذلك محاولات القضاء على هذه اللغة على مر العصور, ويكفي أن نتتبع محاولات أعداء هذه الأمة للنيل من لغتها العربية ومحاربتها بشتى الوسائل والطرق, ومنع انتشارها بكل الحيل والأساليب, لندرك قيمة هذه اللغة في نظر أعدائها, ومقدارها في تقدم حياة أصحابها, وفي تجميع قواهم وتوحيد صفوفهم, هذه المحاولات سجلتها العديد من الكتابات المخلصة في صفحات طوال كانت في مجملها خير شاهد وأصدق دليل على عظمة وخلود هذه اللغة.

 

سامح كريم   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات