تيارات وآفاق من الواقعية

 تيارات وآفاق من الواقعية
        

لم تكن الواقعية التي سادت المشهد الأدبي في الخمسينيات تياراً واحداً. لقد كانت رؤى مختلفة بعضها قدم إنجازاته.. وبعضها لم يتعد مرحلة الوهم.

          ازدهرت الواقعية في الخمسينيات, شاملة في تدافعها أنواع الآداب والفنون المختلفة, وذلك على نحو غير مسبوق, وفي سياق تاريخي فرض هذا الازدهار وأنتجه في الوقت نفسه. ولذلك يمكن الحديث عن الخمسينيات بوصفها سنوات الصعود الواقعي بحق. وسواء تحدثنا عن النماذج الإبداعية للواقعية النقدية أو الواقعية الاشتراكية, في مدى الانحياز إلى الواقع والحرص على تصويره, فإن النتيجة واحدة من حيث غلبة الاتجاه الواقعي بوجه عام, وسيطرته على المشهد الثقافي, وما ترتب على ذلك من عملية إحلال وإبدال أزاحت الاتجاه الرومانسي الذي كان لا يزال متعلقا به أمثال يوسف السباعي ومحمد عبدالحليم عبدالله وأمين غراب وغيرهم, كما أزاحت كتابة الأجيال السابقة في مجال الرواية, خصوصا بعد أن أنهى جيل طه حسين والعقاد والمازني والحكيم إنتاجهم الروائي الأساسي.

          ويلفت الانتباه في هذا المجال أنه مع عام 1944 أصدر طه حسين روايته الأخيرة (شجرة البؤس) بعد أن كان قد أصدر (أديب) سنة 1936 و(دعاء الكروان) سنة 1941, و(الحب الضائع) سنة 1942, و(أحلام شهرزاد) سنة 1943. وكان ذلك في مسار يشبه مسار توفيق الحكيم الذي بدأ برواية (عودة الروح) سنة 1933, وأتبعها برواية (يوميات نائب في الأرياف) سنة 1937 ثم (عصفور من الشرق) سنة 1938, وأخيرا (الرباط المقدس) سنة 1944. وكان ذلك في السياق التاريخي الذي كتب فيه إبراهيم المازني روايته (إبراهيم الكاتب) سنة 1931, و(إبراهيم الثاني) سنة 1943. وكان العقاد قد نشر (سارة) سنة 1938 وتوقف بعدها عن الكتابة. ومما له دلالة في الاتجاه نفسه أن يحيى حقي نشر روايته الرائعة (قنديل أم هاشم) سنة 1944, العام نفسه الذي اختتم به طه حسين نشاطه الروائي, الختام الذي دلّ على اكتمال أعمال جيل طه حسين روائيا مع نهايات الحرب العالمية الثانية التي مهّدت الطريق لجيل جديد, وتيار أدبي مغاير في تقنيات علاقته بالواقع, هو تيار الواقعية الذي حمل لواءه نجيب محفوظ والسحار وباكثير ومحمد مفيد الشوباشي وعادل كامل, ثم جيل يوسف إدريس وفتحي غانم والشرقاوي وغيرهم.

الواقعية الحداثية

          وقد ازدهرت الكتابة الواقعية مقترنة بنزوع اشتراكي وليد, سرعان ما تبنته دولة المشروع القومي, ابتداء من ثورة يوليو في مصر, وذلك على نحو أشاع أفكار الاشتراكية التي اقترنت بمواقف قومية تقدمية, وذلك في زمن يستعيد وقائعه ماركسي تروتسكي طليعي هو إدوار الخراط الذي انقلب - مبكرا - على دعاوى الواقعية الاشتراكية وتمرّد عليها, واستبدل بالنزوع الواقعي الحداثة التي لا تزال عنوان مشروعه الأدبي.

توالي الأجيال

          إن الواقعية النقدية هي التيار الذي سبق إلى الحضور والتأثير طوال الأربعينيات, خصوصا مع المتغيرات الحاسمة للحرب العالمية. وهي متغيرات أسهمت في إشاعة الفكر الماركسي حقا, ولكنها لم تؤد إلى ظهور نماذج الواقعية الاشتراكية إلا مع مطالع الخمسينيات. ولذلك نجد المشهد القصصي طوال الأربعينيات يشهد غروب المدرسة القديمة لجيل الرواد, طه حسين والعقاد والمازني وغيرهم من الذين أسهموا في تأصيل حضور الرواية, ومن الذين شعروا فيما يبدو, مع سنة 1944 على وجه التحديد, بأن إنتاج الجيل الجديد الذي أنضجته سنوات الحرب قد أكمل عدته, وأخذ يفرض وجوده القوي, ويتولى مهمة المضي بعملية تأصيل فن الرواية إلى مداها الواقعي الذي انصب على نقد المجتمع, فترك الجيل الرائد فضاء إبداع الرواية العربية لإبداع الجيل الجديد الذي لمع من أفراده نجيب محفوظ وعادل كامل وعلي أحمد باكثير وعبدالحميد جودة السحار وغيرهم.

          وإذا تأملنا المشهد الروائي في النصف الثاني من الأربعينيات فسنجده مشهدا تتصدره الأعمال الروائية للأسماء التي ذكرتها. وهي أسماء تنتسب إلى الواقعية النقدية أكثر من انتسابها إلى الواقعية الاشتراكية. والفرق بين الواقعيتين كبير في درجة انحياز الثانية إلى طبقة البروليتاريا (العمال) ونزوعها إلى خلق نموذج البطل الإيجابي, وتأكيد نزعة التفاؤل التي تؤكد انعقاد النصر في نهاية الصراع لطبقة العمال, أو من في حكمهم من الكادحين, وذلك في صياغة تبين عن انحياز الكاتب في تعبيره عن موقفه الطبقي التقدمي الذي يتبنى مطالب البروليتاريا, وذلك على نحو يبين عن موقفه من صراع الطبقات بوجه عام, وحتمية انتصار الطبقات المسحوقة بوجه خاص, الأمر الذي يفرض غلبة نزعة التفاؤل على القص, وإبراز الأبطال الإيجابيين الذين لا بد أن يكونوا مثالا لغيرهم, وذلك في طابع تعليمي, أو أمثولات تعليمية, تستنهض همم المناضلين وتبشّر المسحوقين بالنصر النهائي القريب. ولا يفرض هذا الانتماء معالجة الشخصيات والأحداث من منظور الرؤية الاشتراكية فحسب, بل يفرض - إلى جانب ذلك - تقنيات مترتبة على الرؤية ومجسّدة لها, مع لغة مستمدة من واقع حياة الأبطال, وفي تراكيب تؤكد معنى المحاكاة بأكثر من دلالة.

الانحياز للواقعية

          وكان من الطبيعي - والأمر كذلك - أن يتأثر جيل نجيب محفوظ بكتاب الواقعية النقدية, وبخاصة من أطلق عليهم ستيفان زفايج اسم (البناة العظام) من أمثال بلزاك وديكنز ودستوفسكي, بالإضافة إلى كل الأسماء العالمية الكبيرة التي قرأها جيل نجيب محفوظ في لغتها الأصلية, أو مترجمة إلى اللغة الإنجليزية التي كانت نافذة أغلبهم إلى الرواية العالمية. وكان التأثر بمتغيرات الواقع من ناحية أولى, وحماسة الغوص عميقا في مشكلات المجتمع من ناحية ثانية, والإفادة من الأجيال السابقة من ناحية ثالثة, والتعلم من نتائج الصعود المذهل لفن الرواية في القرن التاسع عشر من ناحية أخيرة, مؤشرات دالة اقترنت بالانحياز إلى الواقعية النقدية لسببين: أولهما لا شعوري يرتبط بأن أعظم الأسماء العالمية المعروفة لجيل نجيب محفوظ كانت من رموز الواقعية النقدية بالدرجة الأولى فكان من الطبيعي أن يتأثر بها أبناء هذا الجيل. وثانيهما هو أن الانحياز إلى الواقعية يظل في الدائرة الآمنة, سواء بالمعاني السياسية, أو من حيث توافقه مع النزوع الإصلاحي الذي انطوى عليه أغلب أبناء هذا الجيل وصاغوه في أعمالهم التي وجدت الصدى الأكبر بين جمهور القراء.

          ويمكن التأكد من هذه النتيجة بالعودة إلى المشهد القصصي في النصف الثاني من الأربعينيات, حيث لا يفاجئنا نجيب محفوظ (المولود سنة 1911) بتخليه عن الرواية التاريخية (عبث الأقدار 1939, رادوبيس 1943, كفاح طيبة 1944) واتجاهه إلى الرواية الاجتماعية التي تجسّد الواقعية النقدية في أصفى حالاتها, في التتابع الذي شهد (القاهرة الجديدة ) (1945) و(خان الخليلي) (1946) و(زقاق المدق) (1947) و(السراب) (1948) و(بداية ونهاية) (1949) ثم الثلاثية. وكان ذلك في السياق الذي أصدر فيه عبدالحميد السحار (1913 - 1974) روايته (في قافلة الزمان) (1947), وهي رواية أجيال سرعان ما أفضت إلى (الشارع الجديد) (1952). وكان السحار في ذلك متأثرا بما أعلنه صديقه نجيب محفوظ عن إعجابه برواية طه حسين (شجرة البؤس) (1944) التي عدها أولى روايات الأجيال في الأدب العربي, مؤكدا حرصه على المضي في كتابة رواية أجيال تصوغ هموم جيل مختلف, ومراحل زمنية مغايرة, فانتهى الأمر به إلى كتابة رائعته الثلاثية التي فرغ منها في مطلع الخمسينيات, ونشرها يوسف السباعي على حلقات في مجلة (الرسالة الجديدة) ابتداء من أبريل 1954 إلى نهاية أبريل 1956. وكان ذلك بعد أن رفض سعيد السحار - شقيق عبدالحميد السحار - نشرها لضخامتها في (مكتبة مصر) التي لا يزال يملكها. ولكن الأثر الذي حققته الرواية مع نشرها في (الرسالة الجديدة) دفع سعيد السحار إلى التراجع, ونشرها في ثلاثة مجلدات ما بين 1956 - 1957.

الاشتراكية الإسلامية

          ويمكن أن نقيس على عبدالحميد جودة السحار ما نشره كل من عادل كامل وعلي أحمد باكثير, فالأول أصدر (مليم الأكبر) سنة 1944, السنة نفسها التي أنهى فيها طه حسين والحكيم عملهما الروائي الرائد, وأتبعها برواية (ملك من شعاع) سنة 1945 وتوقف بعدها عن الكتابة, تاركا المجال لزملائه نجيب محفوظ, وعبدالحميد السحار, وعلي أحمد علي باكثير (1885 - 1952) اليمني الذي عاش في القاهرة وأصبح من أبنائها وأدبائها, وأصدر فيها (سلامة القس) سنة 1944, السنة نفسها بدلالاتها التي أوضحتها, و(واإسلاماه) سنة 1945, و(ليلة النهر) سنة 1946, و(الثائر الأحمر) سنة 1949, والأخيرة لها أهمية خاصة في السياق الذي أتحدث فيه, لأنها محاولة إبداعية تسعى إلى إبراز الاشتراكية الإسلامية التي حرص باكثير على إبرازها, وتأكيد أنها أكثر ملاءمة للمجتمعات العربية لأنها نابعة من ميراثها الديني الغالب الذي يؤكد معنى العدل الاجتماعي ويدعو إليه. وكانت الرؤية الوسطية التي سعى علي أحمد باكثير إلى صياغتها في هذه الرواية بمنزلة رد على دعاوى الاشتراكية الماركسية التي أخذت تشيع في ذلك الوقت, وبمنزلة موقف مواز لمحاولة نجيب محفوظ تبني نزعة اشتراكية إنسانية لا تتناقض مع الدين فيما ذهب حسين أحد أبطال روايته (بداية ونهاية). وأتصور أن كلا الأمرين كان بمنزلة استجابة مغايرة لبعض المحاولات الروائية التي تعاطفت مع النظرية الماركسية, ومن ثم الاقتراب من بعض ضفاف الواقعية الاشتراكية. ولعل أبرز هذه المحاولات ماكتبه محمد مفيد الشوباشي (1899 - 1972) الذي أصدر (الصحوة الأخيرة) (1943) وأتبعها - بعد سنوات - بروايته (طلائع الأحرار) و(عاصفة في الصحراء) سنة 1949. وكان ذلك في مشروعه الروائي الذي شهد بعد ذلك (ثورة على فرعون) (1957) و(الخيط الأبيض) (1962).

          ولكن المؤكد أن محاولة محمد مفيد الشوباشي لم تترك أثرا دالا. أولا لأنها ظلت أقرب إلى الواقعية النقدية. وثانيا لأن نزوعها الإصلاحي ظل هو الغالب, فوقعت في المنطقة الرمادية التي تتوسل فيها الطوباوية بما يمايزها عن الواقعية الاشتراكية التي لم تكن قد برزت في الأربعينيات, والواقعية النقدية التي شهدت محاولات أنضج وأكمل وأكثر تأثيرا. ولذلك, ظل حضور محمد مفيد الشوباشي حضورا باهتا, خصوصا إذا حاولنا قياس ما كتبه إلى ما كتبه نجيب محفوظ أو السحار أو غيرهما من أبناء الجيل الذي تمثل نهج الواقعية النقدية الأوربية, ومضى من حيث انتهى إليه أساتذته من رواد الرواية في العالم العربي, فوصل من نقد المجتمع إلى ذرى جعلت له التأثير الأكبر, والجماهيرية التي أخذت تتزايد شيئا فشيئا. وظني أن هذه النتيجة لا تفسر نجاح جيل نجيب محفوظ, وتفرد مكانته فحسب, وإنما تفسر بالقدر نفسه أسباب الحضور النسبي الشاحب الذي ظل مصاحبا لكتابة محمد عبدالحليم عبدالله (1913 - 1970) ويوسف السباعي (1917 - 1978) وإحسان عبدالقدوس (1919 - 1990). وثلاثتهم ينتسبون إلى جيل نجيب محفوظ, لكن غلبت عليهم الرومانسية التي لم تجعل منهم أصواتا مؤثرة في المدّ الواقعي بأكثر من معنى, ورغم جماهيرية إحسان عبدالقدوس بتوابله المعروفة, وجماهيريته التي أسهمت فيها السينما المصرية, ورغم مكانة يوسف السباعي وحضوره السينمائي, فإن الأصوات الواقعية العالية, والمؤثرة, والمتجاوبة مع حركة السهم الصاعد في الواقع الاجتماعي والأدبي سلبت من الثلاثة الكثير من المكانة وإمكانات الإعجاب النقدي, فالنقد نفسه غلب عليه التيار الواقعي.

          الطريف أن ما ينطبق على واقعية الأربعينيات في غلبة الواقعية النقدية, حيث برز جيل نجيب محفوظ, ينطبق على واقعية الخمسينيات مع متغيرات دالة, لكنها متغيرات لم تجعل من الواقعية الاشتراكية تيارا سائدا أو غالبا بالقياس إلى الواقعية النقدية. وتتجلى خصوصية واقعية الخمسينيات في جيل ما بعد نجيب محفوظ: جيل عبدالرحمن الشرقاوي (1920 - 1987) ويوسف إدريس (1927 - 1991) وفتحي غانم (1924 - 1998) الذين شغلوا الدنيا والناس, واستطاعوا منافسة جيل نجيب محفوظ, والمضي إلى آفاق مغايرة عرف بها كل واحد من أبناء الجيل, وأصبحت علامة عليه.

          وأبرز ما يتميز به أبناء هذا الجيل أن نضجه الفكري اكتمل في الأربعينيات, وأخذ يعطي ثمار اكتماله مع مطالع الخمسينيات التي شهدت سنواتها الإنجاز التأسيسي لأبناء هذا الجيل, وذلك في التتابع الذي شهد للشرقاوي (الأرض) (1954) و(قلوب خالية) (1957) و(الشوارع الخلفية) (1958) كما شهد ليوسف إدريس (أرخص ليالي) (1954) وغيرها من مجموعات القصة القصيرة التي سبق أن تبعت روايات الخمسينيات من طراز (قصة حب) (1956) و(الحرام) (1959). ويكمل الحلقة فتحي غانم الذي كانت روايته (الجبل) (1958) توجها جديدا في الأفق الواقعي.

الواقعية والإنجاز الروائي

          وعندما نتأمل الإنجاز الواقعي الذي سيطر على الإنجاز الروائي في الخمسينيات, فاتحا من الآفاق الواعدة ما أغرى باتباعه على امتداد الأقطار العربية, التي أسهمت في رواية الخمسينيات, نجد أن هذا الإنجاز فرض نفسه حتى على أولئك الذين استغرقهم المنزع الرومانسي, أو النزوع التقليدي. ولولا الأثر الإيجابي لأعمال الشرقاوي وإدريس وغانم وأمثالهم, في سياق التأثر العام بواقعية جيل نجيب محفوظ, ما تخلى إحسان عبدالقدوس عن فضاءات الحب التي تنتهي بكثير من النقاط على امتداد الصفحة, وكتب رواية (أنا حرة) سنة 1954 مستجيبا إلى الحركة الصاعدة للمرأة الجديدة, في مواجهة المتغيرات القيمية التي دفعته إلى كتابة (الطريق المسدود) سنة 1956, و(في بيتنا رجل) سنة 1957, و(شيء في صدري) سنة 1958, و(لا تطفئ الشمس) سنة 1960. ويمكن أن نقول الأمر نفسه, مع بعض الاحتراز, عن بعض أعمال أمين يوسف غراب (1911 - 1970) الذي ولد في العام نفسه الذي ولد فيه نجيب محفوظ, وتأثر بالتيار الواقعي بما أخرجه عن نزوعه الرومانسي, فكتب (ست البنات) (1954) ثم (شباب امرأة) (1958). وينطبق الأمر نفسه على يوسف السباعي (1917 - 1978) الذي عاد إلى فضاء (أرض النفاق) (1949) تاركا سحائب دموع (إني راحلة) (1950) و(بين الأطلال: اذكريني) (1952) إلى رائعته (السقا مات) (1953).

أفق جديد

          لكن السؤال الذي يفرض نفسه بعد ذلك كله, وماذا عن الواقعية الاشتراكية التي أكّد إدوار الخراط أنها التيار الذي تمتع بالأهمية وبلغ من الاتساع والرواج مداه خلال الخمسينيات في الأدب المصري? الواقع أن أي مراجعة متأنية للإبداع الروائي للخمسينيات تؤكد أن الأمر على النقيض من ذلك, وأن الواقعية النقدية هي التيار الذي ظل غالباً, وأن التغير الملموس الذي لا بد من تسجيله هو الأفق الذي فتحته رواية (الأرض) للشرقاوي, عندما سعت إلى موازاة ما صنعه الكاتب الشيوعي الإيطالي إجنازيو سيلونه في روايته (فونتامارا) برواية (الأرض) التي بدأت بالهجوم على طريقة الرواد في الكتابة عن القرية - أعني (زينب) هيكل وغيرها من الأعمال المشابهة. ورغم كل ما أحدثته رواية الشرقاوي من تأثير, وما استقبلت به من حماسة الرفاق, فإن الأفق الروائي الذي فتحته لم يتسع كثيرا, ولم يخلق الشرقاوي نمطا كتابيا احتذاه من حفروا إبداعهم المؤثر في المشهد الروائي المصري على الأقل. وإذا تركت كتابة (الأرض) للشرقاوي إلى كتابة يوسف إدريس وجدنا موهبة الأخير تنتسب إلى نوع البصيرة الذي يجعلها تتمرد على كل مبادئ ثابتة. ولذلك, فإن إعجاب الرفاق بيوسف إدريس سرعان ما تحوّل إلى تصادمات فنية - ولا أناقش الآن الصدامات السياسية - نتيجة التمرد المستمر الذي انطوت عليه كتابات يوسف إدريس التي تتأبى على أي تصنيف مذهبي, حتى في دائرة الواقعية التي كانت سائدة في الخمسينيات, أو في خصائص واقعيته الاجتماعية التي جعلتها بصيرته خارجة عن التصنيف المذهبي, ولذلك, يصف إدوار الخراط موهبة يوسف إدريس بالحوشية والفطرية التي تجعل له مكانة قائمة برأسها في الكتابة. ورغم الغمز الذي لم يتوقف إدوار الخراط عن توجيهه إلى كتابة يوسف إدريس, بين الحين والحين, فإن تقديره لهذه الكتابة لم ينقطع, ويظل على حق في تأكيد قيم تمردها التي تجعلها نقيض مواصفات الواقعية الاشتراكية.

ضد القوالب الأدبية

          ويشبه يوسف إدريس فتحي غانم الذي كان يضيق منذ البداية بالقوالب الجاهزة, ويسخر من مبادئ التصنيف المذهبي, ولا يلتزم في كتابته إلا بإخلاص التعامل مع الواقع من خلال منظور تقدمي في النهاية, لكن بما لا يجعل من كتابته في (الجبل), مثلا, تطبيقًا للواقعية الاشتراكية أو استجابة لها, بل على النقيض من ذلك تبدو (الجبل) كما لو كانت تحمل نبرة إدانة واضحة للجماهير التي تنهب الجبل, وتؤثر الحياة الرديئة فيه. وفي الوقت نفسه, تحمل الرواية نبرة سخرية مبطنة من نزعة (الشعبوية) التي كان يتغنى بها الرفاق في ذلك الزمان.

          ولكن أين الواقعية الاشتراكية التي توهم إدوار الخراط وجودها الغالب في كتابة الخمسينيات? لا شيء مؤثراً, أو جوهرياً, يثبت حضورها الفاعل في كتابة الخمسينيات التي تصاعدت فيها أصوات الرفاق بالدعوة إليها, والإلحاح على مبادئها, وذلك على نحو يوهم أنها حاضرة مسيطرة مع أنها لم تكن كذلك. وكتاب محمود العالم وعبدالعظيم أنيس (في الثقافة المصرية) دليل على ذلك, فلا يوجد في هذا الكتاب ما يرضي المؤلفين روائيا في الرواية سوى (الأرض) لعبدالرحمن الشرقاوي, أما روايات نجيب محفوظ وأمثاله فقد ألقى بها عبدالعظيم أنيس في سلة وعي البرجوازية الصغيرة, وذلك في دوجماطية مذهبية فادحة, وفجاجة ذوقية مستفزة. ولم يجد محمود أمين العالم ما يتحمس له, ويرى فيه بشارة الواقعية الاشتراكية, وطليعة الأدب العمالي, سوى مجموعة قصصية ضعيفة المستوى الفني بعنوان (الأنفار) كتبها محمد صدقي, وأخرجتها دار سعد مصر سنة 1956, وقال عنها العالم في تقديمه لها ما لم يقله أبو نواس في الخمر, مؤكدا أن تمثل الاتجاه الجديد الذي تصوغه الطبقة العمالية أدبا واقعيا ينبع من حياتها المنتجة, وينبثق من نضالها اليومي وكفاحها الوطني, وأنها - أي المجموعة - ليست من إبداع محمد صدقي وحده, بل هي ثمرة سنوات خصبة من الكفاح الوطني والاجتماعي لجيل واع من شباب مصر, شارك جميعا في الإبداع, وتطوير القيم ودفع المواكب المظفرة. ولهذا ظلت المجموعة في وعي محمود العالم جانبا عزيزا من معركتنا المتصلة من أجل السلام والتقدم, وجانبا من تراثنا الجديد, وبشارة بكاتبها الذي (سيتبوأ مكانه اللائق به في تاريخ القصة العربية). ولم تتحقق نبوءة محمود العالم بما يدفع إلى السؤال: ولماذا لم يتبوأ مؤلف (الأنفار) مكاناً لائقا في الأدب الواقعي. والإجابة بسيطة وجارحة لأنه تبوأ المكانة اللائقة به في تاريخ القصة العربية بالفعل, ودخل إلى أودية النسيان التي يدخلها الذين تضعهم الأيديولوجيا في غير موضعهم.

وهم الواقعية الاشتراكية

          وتدفعني هذه الملاحظة الأخيرة إلى تأكيد أن الواقعية الاشتراكية ظلت وهما لم يتحقق في أعمال روائية أصيلة, وحتى إن تحقق على سبيل الندرة, مع كثير من التجاوز والتساهل, فإن الأعمال الروائية التي اقترنت بها ظلت أعمالا من الطبقة الثانية أو الثالثة, أو ما دون ذلك في التراتب القيمي للأعمال الروائية.

 

جابر عصفور   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات