النظرة الجنسية إلى الأدب.. هل تغني الأجناس الأدبية?

النظرة الجنسية إلى الأدب.. هل تغني الأجناس الأدبية?
        

شهدت السنوات الأخيرة ظهور حركة نقدية نسائية قامت على أساس القول بأهمية النوع الجنسي, وتناولت بصورة خاصة, دراسة النتاج الشعري النسائي بغرض تأكيد الفوارق بين الإبداع الشعري لدى الجنسين وإبراز السيطرة الثقافية الذكرية في المجتمع.  

          لقد عادت هذه الحركة إلى التراث الثقافي الغربي فوجدته خلوا من شعر المرأة وأدبها بسبب الحرمان الثقافي والقهر الاجتماعي اللذين كانت المرأة تعانيهما. وكان الوعي باختلاف حظوظ كل من المرأة والرجل في المجال الثقافي عموما وفي الإبداع بصورة خاصة, قد بدأ باكرا في مطلع القرن العشرين, وتجسّد حينذاك خير ما تجسّد في العمل النسوي الكلاسيكي (A Room of One`s Own) الصادر عام 1928 للكاتبة والقاصة الإنجليزية فيرجينيا وولف (Virginia Woolf) حيث تقول إنه (حتى لو كانت أخت شيكسبير قد ولدت بعبقرية مساوية لعبقرية أخيها في زمن النهضة الأوربية لأصيبت بالجنون أو لقتلت نفسها دون أن تكتب كلمة واحدة).

          ولئن ظهرت أصوات أدبية نسائية قليلة في بريطانيا وفرنسا في القرن السابع عشر فقد كانت أولئك الكاتبات عرضة لسخرية الرجال وتهجمهم. تلك الحقائق التاريخية المريرة, وذلك الوعي بالحرمان التاريخي الذي عانته المرأة دهرا طويلا, جعل الحركة النقدية النسوية الغربية الحديثة أكثر تشددا في موقفها المؤكد وجود اختلافات أساسية بين إبداع المرأة وإبداع الرجل في الشعر والأدب.

الإبداع وجنس المبدع

          هذه الحركة النقدية النسوية الغربية وجدت صداها في كتابات عدد من النساء العربيات منذ سبعينيات القرن العشرين, وإن أمكن القول إنها لم تتحول إلى حركة نقدية متكاملة في المشهد الثقافي العربي المعاصر. ولعل ذلك يعود إلى كونها كانت أكثر بروزا في كتابات المبدعات عن أدبهن وأدب زميلاتهن مما هي في الكتابات النقدية العربية. غير أن حضور هذه القضية في حياتنا الثقافية يفرض معالجتها ويستدعي طرح عدد من الأسئلة النقدية:

          - هل الأعمال الأدبية التي تبدعها المرأة تختلف من حيث هي أدب, عن الأعمال الأدبية التي يبدعها الرجل?

          - هل يوجد جنس أدبي محدد يمكن أن يوسم بالإبداع النسائي?

          - إذا كانت المرأة تبدع ضمن منطق الأجناس الأدبية المتعارف عليها بين النقاد والقراء, هل تتحوّل المرأة في إبداعها بطبيعة هذه الأجناس من حيث هي أجناس أدبية?

          - هل تفيد دراسة ما يسمى بالإبداع النسائي في التعريف بصورة أعمق وأوثق بمفهوم الإبداع?

          - إذا كان الإبداع النسائي وجها من وجوه الإبداع, فما هو الوجه أو الوجوه المقابلة التي تستدعي تمييزه? وإذ نحن لم نسمع بمصطلح (الإبداع الرجالي),فهل يقف الإبداع النسائي مقابل الإبداع بذاته?

          - هل يسهم فصل الإبداع إلى صنفين: نسائي ورجالي في إدراك متميّز وخاص للطبيعة الإنسانية أو للقضايا الثقافية والحضارية في العصر?

          - هل يفيد تمييز الإبداع النسائي أو النظرة الجنسية إلى الإبداع في تعزيز الطاقات الإبداعية للمرأة?

          - إذا كان موضوع الإبداع النسائي يطرح من وجهة نظر اجتماعية, هل يؤدي تمييز الإبداع الذي تقدمه المرأة إلى دعم موقفها وتعزيز موقعها في المجتمع? أو حلّ مشكلاتها? هل تستفيد قضية المرأة من هذا الطرح إن لم تستفد قضايا الإبداع?

          إن الإجابة عن هذه الأسئلة تقتضي أساسا تحديد مفهوم الإبداع عامة والإبداع الأدبي بصورة خاصة.

          إن طرح موضوع الإبداع النسائي ينطوي على دلالة ضمنية بتميّز ما تبدعه المرأة من حيث هي امرأة, ويرتبط هذا الطرح بالنظرة إلى الأدب بما هو مجرد (محتوى), وهذا (المحتوى) ليس سوى تعبير عن ذاتية المبدع أو شخصيته, أو هو تبليغ لأفكار أو مواقف أو انعكاس لواقع كما يتبدّى لعين المعبّر عنه, ولا يتجاوز ما اصطلح على تسميته بالدور الاجتماعي للأدب إلى الدور الثقافي والحضاري الأعمق والأوسع والأشمل.

العمل الأدبي.. ما هو?

          إن هذا المفهوم للإبداع يندرج ضمن النظرة الرومنطيقية, وتعدّ العمل الأدبي تعبيرا شخصيا وخلقيا ذاتيا, ووصفا للمشاعر وإفصاحا عن المواقف, وهو مفهوم يلامس مبدأ المحاكاة في الفن والأدب القائل إنهما انعكاس للواقع وتمثيل للفعل الإنساني المتكرر في الزمن الخارجي. وقد قامت المذاهب الفنية والنقدية الحديثة على أساس معارضة هذا المفهوم للإبداع. فبعد انحسار الحسّ الرومنطيقي في الإبداع والنقد الأدبيين غدا مسلّما به القول إن الإبداع ليس هو الصوت الشخصي الحميم لمبدعه, والعمل المبدع ليس انعكاسا للواقع ومحاكاة له وتمثيلا لمظاهره, يتحدث لغة الحياة اليومية المتصفة بالسردية والتقريرية والمباشرة, وإن كان ذلك لا يعني أن العمل الأدبي منفصل عن الواقع ومستقل تمام الاستقلال بذاته, بل هو يظل مرتبطا بالواقع التاريخي ومحتفظا بما يتّسم به ذلك الواقع من حيوية وصراعية وتناقض وتجاوز, إنه جزء من سياق تاريخي - ثقافي عام, أو هو على حدّ تعبير المفكر الفرنسي الماركسي لويس ألتوسير (قوة اجتماعية حقيقية قائمة بذاتها, لها أحكامها ونتائجها الذاتية).

          فإذا كان الأدب صورة فنية مستقلة عن مبدعه, لا الصوت الشخصي للمبدع, وإذا كان ليس هو الواقع وليس انعكاسا مباشرا له وهو مستقل عنه استقلالا ولو كان نسبيا, فبماذا يتميز أدب المرأة من حيث هو أدب عن أدب الرجل? وإذا كان الأدب مثل اللغة نظام إشارات, كما يقول البنيويون, يصاغ بالعودة إلى تقاليد فنية يتم الإبداع ضمن منطقها المتميّز, فهل يجوز الحديث عن (لغة نسائية) كما يُتحدث عن أدب نسائي? أليست التقاليد الأدبية هي ذاتها التي يعود إليها كل من المرأة والرجل لإبداع ما يبدعانه, كما يعودان بصورة لا واعية إلى المنطق اللغوي نفسه في استخدامهما اللغة بصيغتها الأولية التواصلية? وكذلك أليست التقاليد الأدبية نفسها التي توجه ما تبدعه المرأة وما يبدعه الرجل, فتندرج الكتابة ضمن ما تحدد في التراث الأدبي من أجناس أدبية فيكون شعر المرأة شعرا وروايتها رواية وأقصوصتها أقصوصة... إلخ?

          ويصعب البرهان على أن الكتابات النسائية تميّزها خصائص ترتبط بجنس مبدعاتها, وتقابلها خصائص أخرى ترتبط بالرجال من حيث هم رجال, فضلا عن أن دراسة هذه الفروق الجنسية المفترضة بهدف البرهان عليها والنظرة الجنسية إلى الإبداع, لا تسهم حتما في الكشف عن خصوصيات الإبداع ولا في تحديد مفهومه, في زمن أصبحت النظرة الشمولية إلى الأدب القومي بأسره, بما هو متكامل وفي علاقته مع الإبداعات الأدبية العالمية, هي النظرة السائدة وقد أسهمت في تعميق إدراكنا للإبداع ذاته.

المرأة وأزمة الإبداع

          إذن لماذا يطرح موضوع إبداع ذي سمات خاصة تنتجه النساء? لا شك أن موضوع الإبداع النسائي يطرح لأنه يشكّل ظاهرة غير مألوفة في التاريخ الأدبي والفني في العالم بأسره, وليس لدينا وحدنا نحن العرب. ولهذا لا يوجد مصطلح مقابل للإبداع النسائي, أي إبداع رجالي. غير أن هذه الظاهرة التي كانت تبدو استثنائية وغريبة حتى القرن التاسع عشر في كل الثقافات غدت مألوفة في القرن العشرين الذي أبرز من النساء المبدعات في الأدب والفن وكل حقول المعرفة ما يفوق بكثير عدد من برزن في تاريخ البشرية بأسره. وقد أكّد القرن العشرون الذي قطعت فيه المرأة في ثقافات عديدة وفي الغرب خصوصا, شوطا بعيدا في طريق نيل حريّتها وتحقيق استقلالها ومشاركتها الفعلية البنّاءة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والعلمية, أكّد أن تقصير المرأة في العصور السابقة في مجالات الإبداع لم يكن بسبب قصور ذهني أو ضعف جسدي كما كان شائعا القول في الماضي. لقد كان تقصير المرأة في الإسهام في وجوه الحياة العلمية والعملية: إدراكا وإبداعا, بسبب ما تعرضت له, عبر قرون, من قهر نفسي وقمع فكري واستغلال جسدي, وما فرض عليها من حياة ضحلة خارج رحاب المعرفة والحياة الاجتماعية والاقتصادية. ومع أن الرجل نفسه عانى الاضطهاد والقمع في عصور طويلة في التاريخ, فإن المرأة ظلت أسوأ حالا من الرجل, فقد كانت أمَة العبد. ولعل قاسم أمين, في مطلع القرن الماضي, أحسن التعبير عن هذا الوضع بقوله: (انظر إلى البلاد الشرقية تجد أن المرأة في رقّ الرجل والرجل في رقّ الحاكم. فهو ظالم في بيته, مظلوم إذا خرج منه).

          واليوم لا تزال المرأة العربية تناضل لتحقيق الصيغة الإنسانية الحقيقية للحياة, وهي الحرية والمساواة بالرجل في الحقوق والواجبات, وقد قطعت في عدد من البلدان العربية شوطا لا يستهان به في طريق شاقة وطويلة. ومن نافل القول أن الحرية شرط أساسي من شروط الإبداع, فالمجتمع الحرّ برجاله ونسائه, بسياسته واقتصاده وفكره وتعليمه وثقافته, هو مجتمع الإبداع بكل تجلّياته الفنية والفكرية والعلمية.

          ويبقى السؤال, هل يفيد تمييز الإبداع النسائي أو النظرة الجنسية إلى الإبداع في تعزيز الطاقات الإبداعية للمرأة? ألا تؤدي هذه النظرة الثنائية الضدية في موضوع الإبداع إلى تكثيف الشعور بالانفصام الجنسي وإلى ما عرفناه في الغرب من حالات التطرف المتشنج في بعض الحركات النسائية, تطرف يضر بقضية المرأة ويسيء إلى المرأة نفسها ولا يصل بها إلى ما تبتغي تحقيقه?

          ومن الناحية النفسية اتجه علماء النفس إلى القول إن الإنسان يبدع بعناصر نفسه كافة, وبأن الفصل بين ذكورة وأنوثة في النفس الإنسانية فصل تعسفي يضرّ بالإنسان ويقلص طاقاته ويحدد من إمكاناته.

          وقد أبرز العالم النفسي السويسري الكبير كارل جوستاف يونج في دراساته المهمة حول النفس الإنسانية وإبداعاتها الأساسية الكبرى في التاريخ البشري, وقد تجلت في الأساطير والدين والملاحم والفنون - وتصدر عما أسماه بالنماذج الأصلية, وهي رموز جماعية هاجعة عميقا في اللاوعي الجماعي ـ أبرز أن أحد النماذج الأصلية الفاعلة في نفس الرجل هو ما أسماه بـ (anima) وعرّفه بكونه الظاهرة الأنثوية في الوجود المتمثلة في المرأة الكونية. وفي المقابل يوجد في نفس كل امرأة جانب ذكري قوي الأثر ولو كان خفيا دعاه (animus) لا بدّ أن تحسب له ما يستحق من حساب.

طاقة الإبداع

          وقد ذهب أستاذ علم النفس د.عبدالستار إبراهيم, في دراسته النفسية الجيدة (آفاق جديدة في دراسة الإبداع) إلى القول إن المبدعات والمبدعين, يبدي كل منهم ميلا أكبر إلى التعبير السلوكي عن مظاهر مميّزة للجنس الآخر, ورأى أن الإبداع ليس مجرد هبة طبيعية, لكنه طاقة يمكن خلقها وتنميتها, كما يمكن أن تتعرض لظروف معيّنة في المجتمع تقلّصها وتخمدها. وقال إن التنشئة الاجتماعية, في تأكيدها قيم الدور الجنسي التقليدية قد تؤدي إلى شلّ القدرات الإبداعية ومنع تفتّحها لدى الجنسين.

          واستنتج أن تنمية الإبداع تستلزم عدم الفصل فصلا حادا في شعور كل من الرجل والمرأة وفي سلوكهما, بين الدورين الاجتماعيين, أحدهما المفترض للذكروالثاني المحدد للأنثى. فالإبداع لا يتحقق إلا بتكامل النفس الإنسانية بعنصريها الذكري والأنثوي, بكل مايمثله كلاهما من عوامل يتحتّم تفاعلها لشحذ الموهبة الإبداعية وإنتاج العمل الإبداعي.

          وإذا كان تمييز إبداع المرأة غير ذي فائدة في إدراكنا لقضايا الإبداع إدراكا أكثر اتساعا وعمقا, وكان هذا الطرح غير منسجم مع المناهج النقدية الحديثة الداعية إلى تناول الأدب بنظرة شاملة إلى الحقل الأدبي القومي والعالمي لاستنتاج مبادئ أساسية تنتظم التراث الأدبي وتكسبه حضورا فعليا وتجعله مادة لدراسة منهجية تتجاوز الانطباعات الشخصية والأحكام القيمية المتحوّلة والمحكومة بالأهواء وتبدل الأمزجة, وإذا كان تأكيد وجود خصائص معيّنة للمرأة المبدعة ولإبداعاتها يحدّ, من الناحية النفسية, الطاقات الإبداعية للمرأة فتتراجع وتنتهي إلى العجز والانطفاء, فإن قضية المرأة في المجتمع, في سعي المرأة الطبيعي والمشروع والحتمي إلى تحقيق إنسانيتها تحقيقا تاما بنيل الاعتراف بمساواتها بالرجل في الحرية والاستقلال والتعليم والعمل المنتج, هذه القضية لا تستفيد, في رأي هذه الكاتبة, من استثناء نوع من أنواع الإبداع يسمى بالنسائي وتحويله إلى ما يشبه الجنس الأدبي تحدده شروط خاصة به وتكون له خصائصه ومميزاته, بل ربما تقاليده الفنية والأدبية.

          إن التوجه للحديث عما اصطلح على تسميته بالإبداع النسائي يشي بأن إبداع المرأة لا يزال يطرح كظاهرة استثنائية أو غير عادية أو حتى غير طبيعية, بينما يفرض - بعد زمن لا يُعدّ قصيرا على اقتحام المرأة عالم الإبداع وإنجازاتها فيه - أن ما كان ظاهرة غريبة أصبح أمرا اعتياديا, فإبداع المرأة كإبداع الرجل, صيغة إنسانية للتحاور مع النفس والحياة والوجود من خلال اللغة والتقاليد الأدبية والتراث القومي. وهذا التوجه يشي أيضا بأن المرأة لم تقتنع تمام الاقتناع بمساواتها بالرجل, ولا تزال تطرح نفسها وإنجازاتها من وجهة نظر جنسية تكشف إقرارها - ولو ضمنا - بدونيّتها, ولم تصل إلى تحقيق القناعة بإنسانيتها متجاوزة الانفصام الجنسي والمتعالية عليه.

          وليست هذه دعوة إلى أحادية الجنسية أو إلى تذكير المرأة أو تأنيث الرجل ليلتقيا في خصائص لا هي من الذكورة ولا من الأنوثة في شيء, فهذا مناقض للطبيعة الإنسانية التي أوجدت جنسين: ذكورا وإناثا. لكن المقصود هو القول بعدم المبالغة في تأكيد الفواصل الجنسية بين الرجل والمرأة في مجالات لا فائدة ترتجى فيها من ذلك الفصل, أو أنه يؤدي إلى نتائج مناقضة للأهداف المنشودة, والإبداع أحد هذه المجالات.

 

ريتا عوض   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات