حسن نجمي.. من شعرية الصحراء إلى جسد القصيدة

 حسن نجمي.. من شعرية الصحراء إلى جسد القصيدة
        

          الوعي بالظاهرة الأدبية اليوم ينطلق من تصور يراعي تطور وتشكل القصيدة العربية الحديثة, خصوصا حين يكون التمرد صفة ملازمة لجسد القصيدة الشعرية (المغربية نموذج دراستنا), لكن ألا يطرح هذا الخطاب إشكال البحث عن هوية تميز القصيدة المغربية عن مثيلاتها?

          ألم تغد التقاطعات التي يعرفها هذا الجسد الشعري عنوانا يفرز جزءاً من إشكالات النص الشعري بالمغرب?

          ضرورة هذه التوطئة ما خلفه صدور ديوان (المستحمات وأبدية صغيرة) للشاعر المغربي حسن نجمي, بعد سبع سنوات من صدور آخر دواوينه الشعرية (حياة صغيرة) سنة 1995, لذلك يمكننا أن نستوعب بلاغة حضور تقديم الشاعر لديوانه, كتوضيح صريح لهذا البياض وهذا الغياب..

          وتكتسي كلمة/ العتبة مدخلا نصيا ينفتح على مفارقات قرائية تصب معظمها على فعل الكتابة وتشكل القصيدة. يؤكد الشاعر حسن نجمي فعل تحرير حركة اللغة وحركة التخييل من خلال تحرير (حركة إيماءات الجسد, ورذاذ الشفتين) لكن في المقابل تقدم عتبة الديوان (الثانية بعد الغلاف) ترسيمة متوالية لما نعتناه بفعل تشكل القصيدة. يقول الشاعر:

(كتبت ومزقت
كتبت ومحوت
كتبت وسهوت
كتبت و نسيت
كتبت ونشرت
نشرت وندمت
ندمت واكتفيت
ضقت بما في أدراج نفسي
وقررت أن أنشر روحي..).

          قصائد الديوان تأكيد فعلي لهذا الامتلاء, لكنها بيت صوفي حيث تتحلل ذات الشاعر من وشائج العالم ويظهر هنا جليا البعد التطهيري بما هو حافز خصوصا أن الشاعر حسن نجمي عودنا على التروي في كتابة قصيدة لا تستجيب لرؤية أظهر ديوان (سقط سهوا) ملامحها النقدية الأولى).

          ولا تفاجئنا أفعال التراكم, الغرق و النشر إذ تلبي تلك الحاجة القصوى لفعل الكتابة بما هي حقيقة وجود لذا لا يرتكن البعد الكتارسيسي بعيدا عن إبراز رؤية شعرية تمثل خصوصية داخل المشهد الشعري العربي.

المستحمات وأبدية صغيرة

          يضم الديوان مجموعتين شعريتين: المستحمات وأبدية صغيرة وكل مجموعة تضم قصائد أخرى تختلف وتتوحد في آن, فالمستحمات تحتفي بالتيه, الفراغ, العزلة والصمت لكن أهم ما تقدمه قصائد المستحمات هو تيهان مزدوج للذات واللغة يقول الشاعر:

أنا صحراء
أنا الآن صحراء في صحراء
***
تعبت, أتستر على ألمي ويتراكم الفقدان

          توقفنا قصائد المستحمات بتوظيفها للرمل كعنصر شعري مجازي لكن حضور الصحراء يعمم أوجه هذا الحضور بقوة مما يفرز خصوصية للمدلول الشعري الذي هو (مدلول شعري ملتبس, إنه يأخذ المدلولات الأكثر حسية ليقوم بالزيادة في تجسيدها قدر الإمكان عبر منحها صفات خاصة) (جوليا كريستيفا - علم النص).

          إن قصيدة الصحراء المهداة للراحل محمد باهي عتبة ثالثة مهمة للدخول لمعالم الديوان, ولعل القصائد التي تلت القصيدة لم تزد إلا تعميق هذه الرؤية فقدان الشاعر ورغبته بالفراغ والتي لا تحد, فالصحراء هي الشاعر وهي مساحات الوحشة, ثمة توظيف سلس ـ يقدم الشاعر وضوحا في مجاز العبارة, لذلك يظل الشعر الجنس الإبداعي (الذي يؤكد وجود اللاوجود ويحقق ازدواج المدلول الشعري) (جوليا كريستيفا - اللغة المرئية).

          إن فعل الحلول الذي تضمنته قصائد المستحمات يعمق من توظيف تيمة الصحراء الى حد تمسي معه اللفظة منفى إراديا تختاره اللغة للقصيدة ويختاره الشاعر للغة, وكأننا أمام حلقة دائرية تصب في الماء نفسه فالصحراء هي (مساحات الوحشة) لكن الشاعر يدعو في مقطع آخر (تعالي نغرق في الرمل), إننا أمام شعرية ترغب في سلخ الذات, لكنها تعي حدود خصوصيتها وخصوصية القصيدة في الغور والخرق.

خلوة الشاعر

          في توطئة للديوان يؤكد الشاعر رغبته في (تعميم الخلوة وتحرير حركة إيماءات الجسد) والخلوة هنا تحتاج إلى نزيف حاد, لكن خلوة الشاعر تقابلها الرغبة الاستقرائية في تحديد ملامح قصيدة تعبر بتلقائية غريبة عن حالة فقدان, ولما أشرنا في بداية دراستنا للمساحة الزمنية بين إصدار آخر ديوان وصدور ديوان المستحمات فلنفهم أكثر هذا التيه والبحث, لذلك تصر اللغة على إعادة التشكيك في جدوائية القصيدة. يقول الشاعر في قصيدة نشيد الماء:

أتستر على ألمي ويتراكم الفقدان
يتراكم فقداني..

          وكم تصدمنا هذه المفارقة, كلما تعمق الألم وانفتح الجرح خفت الحاجة إلى القصيدة لكن كلما كانت القصيدة تتحقق في فعل وجودها تشكلت نافذة الحياة الوحيدة على البوح, والغناء, النشيد والكتابة.

          في قصائد أبدية صغيرة يعيد الشاعر حسن نجمي لطلقاته الصغرى المحببة, كتابة الشذرات, وتظل لعبة الحرف بهوا مفتوحا للغة الشعرية: 44 قصيدة قصيرة تبدأ بقصيدة (الشاعر) وتنتهي بـ (11سبتمبر) وفي القصيدة الأولى من أبدية يؤكد الشاعر:

صعب أن ينهض شعر هكذا
نهار آخر بلا قصيدة.

          إذن منذ البداية يسائل الشاعر جدوائية الكتابة الشعرية, لكن في مقابل هذا السؤال يتخذ وسيطا عضويا هو اليد التي ترد 12 مرة, ويزيد من تعميق هذه الرؤية حضور لافت للجسد, جسد يشكله الشاعر قطعة قطعة:

          الجسد - اليد - الظهر - الساق - الوجه - الصدر - اللحم - النهدان - الذراع - الشفتان - الفم - الكف - القلب - القدمان - العين - الجلد- الرموش - الركبة.

          إن هذا الحضور اللافت يستجيب في العمق لتشجير إيمائي وكأن القصيدة تمتلك حواسها الخاصة, وجسدها الذي تبنيه اللغة, لكن ثمة يدا تبحث عن الفهم وتتقصى إرادة الفراغ والصمت يقول الشاعر في قصيدته إيماءات:

أبحث عن شيء, لا أعثر إلا على نفسي
وأمد يدي بحثا عن يد, لا أجد قربي غير يدي

          ليست اليد إلا أداة إدراك وحيدة لفهم العالم, بل هي الإطلالة المتفردة التي عبرها (لا تخربش) تفاصيل الجرح ولا نرسم صورة الضوء الوحيد على الحياة, اليد حقيقة الشاعر الوحيدة حين لا يعرف (أين ستأخذه القصيدة القادمة).

          ويزيد الصمت (يحضر 11مرة) من تكثيف هذه الصيغة, إذ يعوض الصمت, فراغ وخواء الصحراء, ولأن القصيدة عالم لغوي بامتياز, يقوم الشاعر بخلق إيقاعين متعارضين:

إيقاع الصمت
و إيقاع خربشات اليد

          ولنحاول تتبع هذا الحضور المزدوج من خلال المتن نفسه:

أمد يدي بحثا عن يد, لا أجد قربي غير يدي
هذا الصمت بارد, بارد, بارد
قصيدة إيماءات
اذا أقول? هذا الصمت كاف
قصيدة أسئلة
هل هناك أكثر ثرثرة من هذا الصمت?
قصيدة ليس لي ما أفعله
جميل هذا الفراغ الذي يصاحبني
يعلمني النظر ويدع يدي باردة

قصيدة 11سبتمبر

          في قصائد (أبدية صغيرة) اقتناص ذكي لبلاغة المطلق بحكم أن العوالم التي تنفتح عنها لا تخرج عن عباءتها الخالصة, وبما أن الصمت صراخ, واليد جسد تحتوي الخسارات, فالقصائد بالتالي صدى لهذا الصمت ولثرثرته, واليد استعارة لكينونة شعرية لا تتحقق إلا في عزلتها وخصوصيتها. وهنا مكمن الرؤية التي يؤطرها ديوان الشاعر حسن نجمي بل يحاول قدر الإمكان أن يوصلها لمدى تتمكن من خلاله اللغة الشعرية أن ترسم بنيتها بمعالم نصية أي أن جسد القصيدة وشعرية الجسد استكمال لصورة أسبق في شعرية الصحراء, شعرية الخواء, فبالنسبة للنصوص الشعرية الحداثية قانونها الجوهري الدائم هو الهدم.

          ولنتبين ذلك من خلال الإشارة لنموذجين من قصائد الديوان, (كلب غويا), و(امرأة نائمة), فإذا (كانت اللوحة واقعا, بل نموذجا simulacre بين العالم واللغة) فإن القصيدتين معا مرآة ترميزية تتمفصل وتتقاطع لتشكل (شفرة تشخيصية) تماثل اللوحة الفنية ذاتها, مع ملاحظة التوليف النصي الذي مارسته القصيدة لأشكال وألوان ومجسمات ولعل ولع الشاعر بفراغ يصرخ ساعد في اختيار هذا الجنس الفني لكتابة علاقة حميمية كونتها اللغة مع تمثلات العالم. والتي ليست بالضرورة شكلا أو مادة بل قيمة.

          إن قصيدتي (كلب غويا) و(امرأة نائمة) قصيدتان تحتميان في إطار البياض لكنهما معا صيرورة ممتدة لعملية إعادة إنتاج لغوي جمالي لهذا الفراغ الناطق المجسم باللون والموضوع المصور.

          إذن الهدم هنا إعادة كتابة لعالم يرفض الفقدان.

          وديوان (المستحمات وأبدية صغيرة) صورة مثلى لأرق القصيدة لحظة التكون? لكنها في المقابل تظل تهزأ من شارع يرغب في تشكيل جسدها بألمه هو و(نحن)??.

 

عبدالحق ميفراني   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات