مع الروائي الفائز بنوبل للآداب لعام 2003.. ثمن البقاء الفادح

 مع الروائي الفائز بنوبل للآداب لعام 2003.. ثمن البقاء الفادح
        

فاز الروائي الجنوب إفريقي ج.م كويتزي بجائزة نوبل في الآداب عام 2003, فكان فوزه تتويجا لرحلة طويلة, بدأت منذ أكثر من ربع قرن.

          بدأت رحلة هذا الكاتب حين نشر روايته الأولى (في قلب وطن) (1977), ثم توالت رواياته: (في انتظار البرابرة) (1980), (حياة وأزمنة مايكل ك) (1983), (أرض مظلمة) (1985), (عدو) (1987), (أرض منعزلة) (1990), (عصر الأغلال) (1992), (سيد بتسبرج) (1994), (خزي) (1999) وآخر رواياته التي أعلن عنها ولم تنشر بعد, وهي (اليزابيث كوستللو). وله كتابا مذكرات, هما: (طفولة: مشاهد من حياة محلية) (1997), و(شباب) (2002). كما أن له عددا من الكتب السياسية والأدبية, هي: (تصريح هجوم: مقالات عن الأسلاف) (1996), (حياة الحيوانات (1999), و(شواطئ غريبة: مقالات أدبية) (2001). وهو الكاتب الوحيد الذي فاز بجائزة البوكر مرتين عن روايتي: (حياة وأزمنة مايكل ك) (1983), (وخزي) (1999).

رواية: (خزي)

          نتابع في رواية (خزي) التي ترجمها أسامة منزلجي وصدرت عن دار الجندي بدمشق (2002) رؤية شديدة العمق, جرت أحداثها على أرض (الواقع) في جنوب إفريقيا, بعد انتهاء حقبة النظام (العنصري), وعودة السلطة إلى أبناء الوطن (السود), و(الثمن) الذي كان على (أحفاد) الفئة الباغية (البيض) أن يدفعوه, حتى يتاح لهم البقاء في (الوطن)!

بين عالمين

          تقدم الرواية التي تروى بضمير الغائب, عبر فصولها الأربعة والعشرين, (واقع) جنوب إفريقيا بعد الاستقلال, من خلال التغلغل بين حنايا عالمين (متناظرين): (مدينة) ويندسور مايخيتر و(قرية) سالم التي تقع على طريق غرامستاونكنتون. في المدينة بعض من فلول مجتمع (البيض), وفي القرية قلة من البيض وكثرة من السكان الأصليين (السود). في المدينة توجد جامعة كيبتاون, التي يعمل بها بطل الرواية العجوز ديفيد لري أستاذا مساعدا في مادة الاتصالات في اللغات الحديثة, ويبلغ من العمر اثنين وخمسين عاما, مطلق بعد أن تزوج مرتين, له ثلاثة كتب, ويعد مشروع أوبرا موسيقية عن الأيام الأخيرة في حياة بيرون, وفي القرية تعيش ابنته لوسي (من زوجته الأولى) وسط خمسة هكتارات من الأراضي الزراعية التي ساعدها على شرائها, وبناء بيت والإقامة فيه بمساعدة بتروس (الإفريقي), المتزوج ويعيش في الإسطبل بعد أن أدخلت إليه الإضاءة.

          كانت مشكلة الأستاذ العجوز هي إشباع حياته الجنسية, والتي وقع بسببها في المحظور حين مارس الجنس مع إحدى طالباته, فحول إلى التحقيق بناء على شكوى منها ومن أسرتها, وإزاء اعترافه الواضح وعدم اعتذاره طرد من الجامعة, فارتحل إلى ابنته في الريف, حيث جرى الاعتداء عليهما واغتصاب الابنة بواسطة ثلاثة من الوطنيين السود, ورفضت الابنة أن تبلغ الشرطة المحلية عن الاغتصاب!

          والآن, إذا نظرنا إلى موقف الأب والابنة من الحادثتين, فسنجد أن الأب قد برر ما حدث له بأن الجنس جزء من طبيعة البشر, والشيء السيئ أن يجعل المجتمع الإنسان يكره طبيعته, بينما كانت هي تشعر بأن الرغبة عبء يمكن الاستغناء عنه. كما أرجع الأب موقفه إلى حرية التعبير وحرية التزام الصمت, وكانت الابنة ترى أنها قد شبت عن طوق الأب وأصبحت لها حياتها المستقلة.

          وكان هو يرى أن الوقت قد حان لتواجه خياراتها بشجاعة, وكان رأيها أنه إذا أراد أن يضع حدا للمتاجرة به بواسطة فضيحة الجامعة, أما كان ينبغي عليه أن يصمد? أولن تتزايد الثرثرة إذا هرب?!

          وفي الوقت الذي كان يرى فيه أن (سر لوسي: خزيه هو), كانت هي تعتبر أن ما حدث مسألة خاصة محض, من شأنها وحدها, لأنها وقعت في هذا الزمان وهذا المكان, الذي هو إفريقيا الجنوبية. وعندما استمر في معارضتها قررت أنه (لا يفهم) أي شيء!

          وفي حفل أقامه بتروس, بمناسبة اكتمال إقامة بيته, دعاهما إليه, رأى الأب أحد الثلاثة, الذين اعتدوا على ابنته, وحين هاجمه دافع عنه بتروس وأخذه تحت حمايته, وعندما طالب ابنته بإبلاغ الشرطة رفضت مجددا. وتفاقم الأمر بعد أن ظهر أنها حامل, ورفضت فكرة الإجهاض. وحين عرض بتروس على الأب الزواج منها, وافقت على أن تستقل فقط بمنزلها وأن تكون الأرض مهرها, حتى تنضوي تحت حمايته, فاضطر الأب أخيرا إلى أن يذعن, وأن يبتعد عن طريقها. ورجع كسيرا, ليعتذر أولا لوالد الطالبة عما فعله معها. وكان في أعماقه مقتنعا بأنه غارق في حالة من (الخزي), ولن يكون سهلا عليه الخروج منها, حتى أصبح يقبل (الخزي) بصفته حالة وجوده, (لقد حوكم بسبب أسلوبه في الحياة, لأفعاله الشاذة). ولم يبق له إلا الفن, فحاول أن ينهمك في استكمال أوبراه, و(لهذا كان عليه أن ينصت إلى تيريزا. قد تكون هي آخر من بيدها إنقاذه. تيريزا هي الكرامة الغابرة). كما استمر في القيام بدوره الذي وجده في الريف بمساعدة صديقة ابنته, التي تعمل في مستوصف حيوانات, في القتل الرحيم والتخلص من جثثها بحرقها. وامتد الإهمال واستشرى إلى حياته, وأفل مشروعه الموسيقي (مسكينة تيريزا. لقد أعادها من القبر, ووعدها بحياة أخرى, والآن ها هو يخذلها, ويأمل أن تسامحه من قلبها). كان قد أصبح مجرد عجوز بائس, يقضي عقوبته!

ثمن البقاء

          ويبقى سؤال: بماذا (يتفسّر) موقف الابنة لوسي?

          إذا رجعنا الى (جذور) لوسي, كما أوضحها الأب خلال حديثه مع المشرفة على مستوصف الحيوانات, حين قال (والدة لوسي كانت هولندية ولابد أنني أخبرتك بهذا - اسمها إيفيلينا - عادت ايفي بعد الطلاق الى هولندا, وبعد ذلك تزوجت من جديد. ولم تتفق لوسي مع زوج أمها الجديد, فطلبت أن ترجع إلى جنوب إفريقيا), (واختارت محيطًا معينًا ومستقبلاً معينًا). ولعل في ذلك ما يفسر عرضه عليها أن ترحل إلى هولندا, حيث (لديها عائلة في هولندا وأصدقاء. وقد لا تكون هولندا المكان الأكثر إمتاعًا للعيش فيه, لكنها على الأقل لا تولد كوابيس). لكنها رفضت عرضه.

          والآن إذا أردنا أن نعرف (ما تريده) لوسي, فسيتجلى ذلك من خلال حوار مركز كاشف مع أبيها, وذلك حين قال ملوحًا بيده باتجاه الحديقة: (أهذا ما تريدين من الحياة?) ونحو المنزل الذي كان سقفه يعكس أشعة الشمس المتلألئة: أجابت لوسي بهدوء: (إنه يفي بالغرض).

          كما كانت لوسي (تعي) أن صديقتيها بف وبيل شو - كما قالت له - (لن ترقيا بي إلى حياة أفضل, والسبب في ذلك يعود ألى أنه لا وجود لحياة أرقى. هذه هي الحياة الوحيدة المتوافرة. أي التي نتقاسمها مع الحيوانات).

          وفي الوقت الذي كان والد لوسي يتعامل فيه بعقلية (الماضي) فيطلب منها أن تطرد بتروس, الذي كان (عبدا) عندها ذات يوم, كانت هي تتعامل بعقلية (الحاضر) بكل ما اشتمل عليه من متغيرات, وهو ما أوضحته حين قالت انه (ليس مجرد عامل مستأجر أستطيع أن أطرده لأنه - في رأيي يختلط بالأشخاص غير المناسبين. هذا الوضع انتهى, ذهب مع الريح, وإذا أردت أن تعادي بتروس, فمن الأفضل أن تتأكد مما لديك من حقائق).

          وقد يتفسّر ذلك بأن الأب مازال الفكر (العنصري) القديم يهيمن عليه, وهو ما بدا خلال حواره مع بتروس, حين أوضح له أنه سيتزوج لوسي فطلب الأب منه أن يشرح ما يعني, ثم تراجع قائلا (ليس هكذا نعالج نحن الأمور). (نحن) كاد يقول (نحن الغربيين).

          وعلى الجانب المقابل, جانب بتروس, تجلى ذات الاتجاه بالالتجاء الى (معسكره) الأكبر وبشكل سافر, وذلك حين واجه الأب بتروس بأنه كان يعرف أحد المغتصبين الثلاثة, ويدعى بولوكس وهو أخو زوجته, فأجاب بتروس مدافعا (لقد عدت لتعنى بابنتك, أنا أيضا أعنى بابني), ثم استطرد مؤكدا ذلك الارتباط (القبلي): (نعم, هو ابني, هو عائلتي, هو قومي). عندئذ فهم الأب (الحقيقة): (اذن هذا هو الأمر, لم يعد يكذب, قومي, جواب عار كما أراده).

          لم يكن الأب هو من لمس (لب) الحقيقة, بل كانت الابنة لوسي, حين فهمت أن هناك (ميراثا) قديما من الكراهية والحقد وجد له (متنفسا) بعد أن تغيرت الأحوال (كان الأمر شخصيا, وقد نفذ بحقد شخصي. هذا ما أذهلني أكثر من أي شيء آخر, أما الباقي فقد كان متوقعا, ولكن, لماذا يكرهونني إلى هذا الحد? إن عيني لم تكن قد وقعت عليهم قط).

          إن ما لم تستوعبه لوسي من الأمر, أنها لم تكن مقصودة بنفسها, بل (كرمز) لطبقة قديمة من البيض تأصلت كراهيتها عبر سنين من القهر في نفوس السود. ولعل ذلك ما عناه بولوكس بعد انتهاء شجاره مع الأب وكلابه, حين كانت آخر كلماته (سنقتلكم جميعًا!).

          وفي لحظة (وعي) استبصرت الابنة حقيقة ما يحدث, حين واجهت أباها (ماذا لو أن ذاك هو الثمن الذي على المرء أن يدفعه ليبقى هنا? ربما هكذا يفكرون هم, وربما هكذا يجب على أن أفكر أنا أيضا. هم يرون أني أملك شيئا. يرون أنفسهم كمحصلي ديون, كجباة ضرائب, ما المبرر ليسمحوا لي بأن أعيش هنا دون أن أدفع الثمن? لعل هذا ما يقولونه لأنفسهم).

          في تلك اللحظة, انداحت أمام عيني الأب (الحقيقة) عارية, سافرة (عصابة من ثلاثة رجال, ثلاثة آباء مجتمعين في واحد, مغتصبين أكثر منهم لصوصا, كما وصفتهم لوسي, مغتصبين اجتمعوا معا وراحوا يمشّطون المنطقة, يغتصبون النساء, وينغمسون في متعهم العنيفة).

          وحين رأى الأب (تقبل) ابنته لدفع (ثمن) البقاء, حاول أن يثنيها عن عزمها (لكن ما تتحدثين عنه أمر جديد, إنه استعباد, يريدون أن يستعبدوك).

          فصححت له الابنة تعبيره (إنه ليس استعبادا, هو إخضاع, إذلال)!

          وأسفرت عن قبولها الزواج بوضوح (عد إلى بتروس... - إذا ظل المنزل باسمي - فسوف أصبح ساكنة, وأقيم على أرضه).

          كانت تتنازل عن أرض سبق أن تملكتها, تتنازل عن كل شيء, مقابل بيت صغير تقيم فيه وحدها بحرية. فاعترض الأب (كم هذا مذل. كانت آمالا شامخة, وهاهي تنتهي إلى هذا).

          فأجابت (نعم, أوافقك, هو مذل, ولكن لعلها تكون نقطة بداية جيدة. لعل هذا ما ينبغي عليّ أن أتعلم قبوله. أن أبدأ من الصفر. دون أي شيء, بلا خيارات, ولا أسلحة, ولا ملكية, ولا حقوق, ولا كرامة).

          (ككلبة).

          (نعم, ككلبة).

          كانت الابنة عبر حياتها في الريف سنوات طويلة, قد تفهمت عدالة قضيتهم, حتى بعد أن وقعت ضحية في طريقها, وأنه كان يتعين عليها - مادامت اختارت البقاء - أن تدفع ثمن ميراث طويل من الكراهية والحقد والقهر والاستغلال لامبراطورية (الآمال الشامخة), التي تهاوت محترقة, وإن ظل أوارها حيا تحت الرماد, يحرق بعض الأبرياء بضراوة عمياء!.

 

حسين عيد   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات