المدينة الحديثة وأمراض الأسنان صبري أحمد نصرة

 إن المدنية الحديثة بقدر ما أعطتنا من وسائل للراحة والرفاهية، ويسرت علينا سبل المعيشة، ورفعت عن كاهلنا المجهود البدني، سلبت منا في الوقت نفسه أشياء غالية داخل أجسامنا. فما موقع أمراض الأسنان من ذلك؟

حسبنا التنويه - قبل أن نخوض في موضوعنا - إلى تأثير المدنية الحديثة على جسم الإنسان عامة، ونشير بسرعة- على سبيل المثال- إلى أن أمراض القلب وتصلب الشرايين وارتفاع ضغط الدم، تزيد كثيرا في البلدان المتحضرة عنها في البلدان النامية والمتأخرة حضاريا.

وتزداد أمراض الأسنان هي الأخرى بتطور سبل المدنية، وثبت أن الإنسان الذي يعيش في المجتمعات البدائية في غابات إفريقيا واستراليا وأنحاء القطب الجنوبي، والذي يشقى ليأتي بالطعام والماء، هو أقل تعرضا للإصابة بأمراض الأسنان من أخيه الذي يعيش في البلدان المتحضرة والذي ينعم بالضغط على أزرار.

وإذا أردنا أن نستعرض تأثير المدينة الحديثة على الأسنان، رأيناها متعددة ومختلفة، ويمكن تلخيص بعضها فيما يأتي...

المدنية وتسوس الأسنان
تسوس الأسنان ليس مشكلة تخص بلدا دون الآخر، إنه مشكلة عالمية، إلا أنه ازداد زيادة كبيرة في الدول المتقدمة حتى أصبح على شكل وبائي. وتتكدر الإحصاءات الحديثة أن حوالي 95% من سكان البلدان المتقدمة يعانون من تسوس الأسنان.. رغم التقدم الطبي في هذه الدول ورغم البحوث المتزايدة في هذا المجال ورغم ما يبذل من جهد في العلاج. وقد لوحظ على سبيل المثال في إنجلترا أن ما ينفق على علاج الأسنان من التسوس يبلغ مئات الملايين من الجنيهات سنويا، إلى جانب الوقت الضائع الذي لا يستفاد منه في الإنتاج القومي، والذي يصل إلى عدة ملايين من الأيام سنويا. وليس ذلك مقصورا على إنجلترا وحدها، بل يتجاوزها إلى كثير من البلدان الأوربية وأمريكا.

وتسوس الأسنان هو طليعة الأمراض التي يعاني منها الناس كبارا وصغارا، ولطالما يحث أطباء الأسنان على تنظيف الأسنان وقاية لها من التسوس.

والظاهر أن تلك الوقاية لم تتحقق على المستوى المرجو، لأن التسوس يزداد انتشارا بزيادة معالم الحضارة وارتفاع مستوى المعيشة أيضا. وقد يدهش المرء أن يجد المرض يتضاءل في المناطق المتخلفة- خذ غابات إفريقيا مثلا- حيث الطعام المتناول يتكون من مواد صلبة وألياف ومواد غذائية غير مطبوخة وغير لزجة، والتي تستوجب لمن يتناولها أن يقطعها ويطحنها بقوة قبل ابتلاعها، فلا يبقى شيء منها ملتصقا حول الأسنان، وبذلك لا يكون ثمة مصدر خصب لبكتريا التسوس.

أما إنسان المدينة، فإن طعامه مطبوخ ولين، ولا يحتاج إلى قوة ماضغة كبيرة، مما يترك قدرا، منه حول الأسنان.. على عكس الأطعمة الليفية والصلبة.

أضف إلى ذلك.. أنه في المطاعم والفنادق الفخمة، يهمل الإنسان (المتحضر) أن يغسل فمه وأسنانه، فيحل محل الماء والصابون منديل من القماش أو الورق تجفف به الأيدي، وكذا الشفاه من الخارج.. ويبقى على الأسنان ما كان ملتصقا بها، فتصبح بنية صالحة لنمو. بكتريا التسوس وفعلها بالأسنان.

على أن بعض الحالات الأخرى للتسوس، نابع من استخدام العقاقير، وهناك دلائل لا تقبل الشك على الإسراف في استهلاك العقاقير لاسيما في البلدان المتقدمة، فقلما نجد مسكنا فيها خاليا من صيدلية صغيرة ملأى بمجموعة من العقاقير، والتي لا يخلو بعضها من ضرر.. فبعض عقاقير الأطفال يدخل في تركيبها نسبة مرتفعة من السكر، كيما تقوم على إغراء الأطفال بتناولها، فأصبحت هذه الأدوية المحلاة سببا في بعض حالات التسوس، خاصة بين الأطفال دائمي الإصابة بالأمراض.

المدنية ومشكلة ضروس العقل
عدد غير قليل من المرضى فيما بين 16- 25 من العمر يعانون كثيرا من ضروس العقل، فتظهر الشكوى من عدة أعراض مثل: الصداع، الألم، الالتهاب التاجي، صعوبة فتح الفم، صعوبة المضغ والبلع، ألم في الأذن. ومرجع هذه الشكوى هو عدم بروز ضروس العقل بروزا كاملا، أو بقاؤها مدفونة في عظام الفك.

والسبب الغالب لعدم بروز ضروسا العقل بروزا طبيعيا، هو صغر حجم الفكين العلوي والسفلي عند الإنسان الحديث، فحجم القوس السني يزيد على حجم الفك، مما يعيق بروز ضروس العقل في مكانها الطبيعي المخصص لها على القوس السني، نظرا لضيق المسافة العظمية، ولكونها آخر ما يظهر من الأسنان.

أما عن صغر حجم الفكين عند إنسان العصر الحديث، فإن المدنية من أهم العوامل المهيئة له، حيث إن معظم الناس يتناولون الطعام اللين والمطبوخ، فلا يحتاج إلى قوة ماضغة كبيرة والتي تساعد على نمو الفكين، لأنه من الصحيح أن يتناول الإنسان أطعمة صلبة- إلى حد ما - تساعده على نمو الفكين وظهور الأسنان جميعها بصورة صحيحة.

ولقد أكدت البحوث والدراسات ذلك، فبعد فحص فكوك من يعيشون في البلدان غير المتحضرة كالإسكيمو والهنود الحمر، تبين أنه لا يوجد في فكوكهم أسنان مدفونة (غير بارزة) أو معوجة، حيث نوعية طعامهم الصلبة القاسية تساعدهم على نمو الفك بطريقة صحيحة.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن ضروس العقل ليست الوحيدة التي لا تتمكن من الظهور بسبب صغر حجم الفكين، فيمكن لأسنان أخرى أن تتعرض لذلك مثال: الأنياب العلوية والسفلية وغيرها.

المدنية وصرير الأسنان
في ظل الظروف المتغيرة والحياة المضطربة والتأثيرات الكثيرة.. يعاني الإنسان (المتحضر) من التوتر العصبي والاضطراب النفسي والأرق الشديد، فلا يكاد يمر يوم إلا ويعزيه ما يعكر صفو حياته سواء في عمله أو بيته أو حتى في الطريق العام.

وإذا نظرنا إلى مدى تأثر الأسنان بذلك، لوجدنا أنها تصاب بالصرير (أو الصرقعة)، ويعني ذلك عادة قيام النائم بالمضغ بأسنانه دون وجود طعام في فمه، وفي بعض الأحيان.. يحدث صرير الأسنان في أثناء النوم والاستيقاظ معا.

وصرير الأسنان ليس نادر الشيوع، ويتضح ذلك جليا في سكان "الولايات المتحدة الأمريكية، وقد دلت الإحصاءات على أن ضحاياه يقدرون بنحو 25% من جملة السكان.وهو ضار جدا بالمصابين به، إذ يؤدي - بتأثير قوى الاحتكاك- إلى تآكل سطوح الأسنان، تاركا طبقة العاج مكشوفة والتي هي شديدة الحساسية، فيشكو المصاب من إحساس شديد بالألم، وتصبح الأسنان المصابة شديدة الحساسية للتغيرات في درجة حرارة الطعام والشراب.

وهناك أعراض فموية أخرى تنجم عن الاضطرابات النفسية، منها مثلا: المذاق المر في الفم، البخر (رائحة الفم الكريهة)، التهاب اللسان وجفافه.

المدنية والرضاعة
في زحام ملاحقتنا للحياة، وفي خضم متابعتنا لإنجازات المدنية الحديثة، وفي ظل عمل المرأة.. تنشغل الأمهات عن متابعة أطفالهن من الناحية الصحية والنفسية، خاصة في المرحلة الأولى من العمر، حيث ينبغي أن تكون هناك متابعة مستمرة ودقيقة.

ومن المهم جدا الاعتماد على الرضاعة الطبيعية من صدر الأم، فهي الوسيلة الوحيدة والأكيدة لنمو الطفل نموا سليما، وهي تكفل للوليد غذاء كاملا من الفيتامينات اللازمة للجسم، كما أنها تعطي لأعضاء الفكين العلوي والسفلي التدريب والحركة اللذين يؤثران على نموها بطريقة صحية وبالتالي ظهور الأسنان.

أما الرضاعة الصناعية، فهي أقل أهمية وتأثيرا من الناحية الصحية، إذ إن الحليب الصناعي عند تعرضه للحرارة في أثناء غليانه، يفقد الكثير من مكوناته الأساسية ومنها بروتين
Lysine وهو ضروري لتكوين الأسنان بصورة صحية.