الإنترنت.. الساحة الأخيرة للديمقراطية الرقمية

 الإنترنت.. الساحة الأخيرة للديمقراطية الرقمية
        

تخضع تكنولوجيا المعلومات والاتصال التي تميز العصر الحالي لسيطرة ونفوذ عدد من المؤسسات والشركات الكبرى, التي تملك من القوة المالية والقدرة المعرفية ما يؤهلها للتحكم في صناعة المعلومات, ولا يكاد يفلت من تلك السيطرة وهذا التحكم - حتى الآن على الأقل - سوى شبكة الإنترنت.

          إن هذا الأمر يدفع بعض المفكرين إلى أن يصفوا الإنترنت بأنها وسيلة ديمقراطية للمعلومات والمعرفة. فلها قدرة هائلة على تجاوز وتخطي الحدود الجغرافية والسياسية والاجتماعية والثقافية, كما أنها أداة للتعبير عن الرأي في حرية مطلقة عن طريق البريد الإلكتروني والمشاركة في الندوات الإلكترونية, التي تعقد على شبكات الاتصالات الدولية ولا تخضع للرقابة أو القيود ويتم فيها مناقشة كل المشكلات العامة بما في ذلك الأوضاع والتنظيمات السياسية وأساليب وطرائق الحكم وسياسات الدول المختلفة والقرارات والقوانين والتشريعات, التي تصدرها الأجهزة التنفيذية والتشريعية ومناقشة أصحاب القرار حولها. وهذه كلها أمور تتفق مع مفهوم الديمقراطية الذي يفترض وجود درجة عالية من التواصل بين صناع القرار السياسي والمواطن العادي, بل وإخضاع المسئولين في الدولة لرقابة المجتمع, وإن اختلفت أشكال هذه الرقابة ومدى فاعليتها.

          وقد أدت التطورات الهائلة والمتلاحقة في تكنولوجيا الاتصال والمعلومات إلى إمكان تحويل معطيات فروع المعرفة المختلفة إلى معلومات رقمية يسهل الحصول عليها وتخزينها واسترجاعها ونقلها من جهاز لآخر بغير عناء واستخدامها بتكاليف زهيدة جدا وفي وقت قصير للغاية بحيث أصبح يطلق على هذا العصر الحالي الذي يشهد هذه التغيرات اسم (العصر الرقمي). ويرجع الفضل في إطلاق هذه التسمية إلى إيستر دايسون التي تتولى رئاسة عدد من شركات صناعة الإلكترونيات. وتشير هذه التسمية بشكل ضمني إلى اتساع نطاق استخدام الإنترنت واعتبارها السمة الأساسية المميزة لهذا العصر والاعتماد عليها في تصريف كثير من أمور الحياة. وتقول إيستر دايسون في ذلك: (إنني أعيش على الإنترنت. فهي الأداة التي أستخدمها للاتصال بأصدقائي وزملائي الكثيرين وأدير بها أعمالي, كما أنها هي الموضوع الرئيسي الذي تدور حوله كتاباتي وأحاديثي والمجال الذي أقدم فيه استشاراتي, بل إنها هي الركيزة الأساسية في كل الشركات التي أستثمر فيها أموالي سواء في الولايات المتحدة أو في أوربا الشرقية.. فشبكة الإنترنت.. تتمتع بأهمية بالغة لأن الناس يستخدمونها كوسيلة للاتصال وإدارة الأعمال وتبادل الأفكار والآراء... إنها أداة قوية ومؤثرة في دمج الاقتصادات المحلية في الاقتصاد العالمي وإثبات مكانة هذه الاقتصادات وترسيخ وجودها في العالم. وليس من شك في أن تأثير الإنترنت في ضوء استخداماتها في الاتصال الإلكتروني المتبادل سوف تغير كل شيء في حياتنا). وهذا معناه أنه من دون الإنترنت سوف يعجز المجتمع - أي مجتمع - عن المشاركة في العصر الرقمي مما يقضي عليه بالتخلف عن مسايرة ومتابعة التطورات السريعة العميقة التي يشهدها العالم المعاصر.

مساحة من الحرية والفكر

          ويعتبر ظهور ما يطلق عليه اسم (الديمقراطية الرقمية) إحدى النتائج المنطقية للعصر الرقمي. فتكنولوجيا الاتصال والمعلومات الإلكترونية تتيح مساحات واسعة من الحرية الفكرية, وسهولة تبادل المعلومات وبخاصة عن طريق الإنترنت, كما تفتح مجالات عديدة ومتنوعة للاتصال بمصادر هذه المعلومات بما في ذلك المصادر الحكومية الرسمية مع إمكان الاتصال من دون عائق بالمسئولين ورجال الحكم بواسطة البريد الإلكتروني وإبداء الرأي فيما يصدرونه من قرارات, والتعرف من خلال ذلك على حقيقة الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية, والاطلاع على خطط الأجهزة الرسمية لمواجهة المشكلات التي تتعرض لها الدولة والمجتمع والفرد ومناقشة هذه الخطط ونقدها واقتراح تعديلها, وهذه كلها مظاهر تعكس أساسيات مفهوم الديمقراطية من ناحية, ومؤشرات على إمكان ممارسة المواطن العادي لحقوقه المشروعة في إدارة شئون وطنه, وإسهامه الرمزي والفعلي من خلال إبداء الرأي عن طريق الإنترنت في وضع سياسته العامة. وليس من شك في أن الثورة الرقمية هي التي تساعد على تحقيق هذه الإنجازات. فالثورة الرقمية تتمثل في زيادة الإقبال على استخدام الإنترنت, وإمكان الوصول عن طريقها إلى المصالح والإدارات والمؤسسات الحكومية والاطلاع على الوثائق الرسمية ومناقشة المسئولين في كثير من شئون الدولة, ونشر الرأي في شكل رسائل إلكترونية لا تخضع للرقابة أو القيود التي يمكن فرضها بسهولة على وسائل الاتصال الأخرى مثل الراديو والتلفزيون والصحف, وبخاصة في الدول التي تئول فيها ملكية هذه الوسائل للحكومة كما هي الحال في دول العالم الثالث. وليست الديمقراطية الرقمية, أو الديمقراطية الإلكترونية كما تسمى أحيانا, مجرد معلومات مسجلة في شكل رقمي يمكن الحصول عليها واللجوء إليها والاستعانة بها لفهم الأوضاع السائدة في المجتمع كما قد يستدل عليه من ظاهر الكلمة, وإنما هي في المحل الأول مشاركة فعلية وفعالة من جانب أعضاء المجتمع في عملية الحكم بل وتحديد الخطوط العريضة للفلسفة التي توجه السياسة العامة للدولة في مختلف المجالات, وتوطيد المبادئ التي تقوم عليها العلاقات الإيجابية التي تربط الحكومة بالمواطنين. وهذا يقتضي الاعتراف الواضح والصريح بما سبقت الإشارة إليه عن حق المواطن العادي في الاطلاع من خلال تكنولوجيا الاتصال والمعلومات على الوثائق التي تتصل به هو شخصيا كمواطن, أو المتعلقة بالقرارات والقوانين والتشريعات التي تصدر عن السلطتين التنفيذية والتشريعية ومراقبة إجراءات التنفيذ, وفي ذلك إقرار وتسليم بمسئولية الحكومة بأجهزتها المختلفة أمام جماهير الشعب مسئولية مباشرة, ودون واسطة وبصرف النظر عن وجود نواب منتخبين يمثلون هذه الجماهير.

          فباستطاعة المواطن العادي إبداء رأيه والتعبير عنه بصراحة وتوصيله إلى المسئولين مباشرة من خلال الإنترنت والبريد الإلكتروني. وهذه كلها عمليات تحقق درجة عالية من الشفافية لا تتوافر في النظم القائمة الآن حتى في أعتى الديمقراطيات.

الاتصال المباشر

          وثمة ما يشير إلى أن رجال السياسة في بعض المجتمعات الغربية أصبحوا - سواء كانوا في الحكم أو خارجه - على استعداد لتقبل فكرة الاتصال المباشر بينهم وبين أعضاء المجتمع - كأفراد وجماعات - عن طريق البريد الإلكتروني وعقد الندوات الإلكترونية التي يتاح للجميع, وبغير استثناء ومن دون دعوة محددة, المشاركة فيها لمناقشة أمور الدولة وطرح ما يعنّ لهم من أسئلة, دون سابق إعداد أو ترتيب واتفاق. وهذا هو ما يحدث فعلا وإن يكن على نطاق محدود في بعض الدول أثناء الحملات الانتخابية لعضوية المجالس النيابية. وتهيئ هذه الاتصالات الإلكترونية المباشرة الفرصة للمرشح لعرض برنامجه الانتخابي, وشرح وجهة نظره فيما يثار من موضوعات للمناقشة وتلقي الاستجابات وردود الفعل المباشرة والصريحة من المشاركين في هذه الندوات, والذين قد يكونون من خارج الدائرة الانتخابية, وذلك دون تحميلهم مشقة الانتقال من بيوتهم لحضور الاجتماعات التي يعقدها المرشحون في العادة في مثل هذه المناسبات تحت النظام الحالي. بل قد يكون هذا الاتصال الشخصي المباشر وسيلة جيدة للإقناع, وبالتالي كسب مزيد من أصوات الناخبين مع توسيع نطاق الدعاية للمرشح ولسياسة الحزب الذي ينتمي إليه, كما قد يكون أسلوبا فعّالاً لضمان نزاهة عملية الانتخاب ذاتها وعدم التزييف, حيث يتم التصويت عن طريق الإنترنت مباشرة كما يتم تسجيل الأصوات إلكترونيا وحفظها للرجوع إليها وقت الحاجة.

          وقد لا تكون تكنولوجيا الاتصال والمعلومات - وبالذات الإنترنت - ميسورة في الوقت الحالي حتى في المجتمعات المتقدمة لكل أعضاء المجتمع بشكل يضمن استطلاع جميع الآراء المعنية حول موضوع معين, كما أن نجاح تلك التكنولوجيات في المتابعة يتوقف إلى حد كبير على مدى الإيجابية في موقف الحكومات ذاتها وصدق تجاوبها وحرصها على توفير المعلومات المطلوبة وإزالة السريّة التي قد تفرضها على تلك المعلومات لسبب أو لآخر ومدى استعدادها لتعرف رأي الآخرين بمن فيهم أصحاب المواقف والآراء المعارضة. ومع ذلك فإن هذه التكنولوجيات وما سيطرأ عليها من تجديد وتطوير سوف تهيئ مساحات أكبر وأوسع بكثير مما هو متاح الآن للتعبير في حرية عن الرأي والمناقشة والنقد والمساءلة والكشف عن الأخطاء وأوجه الفساد والمؤاخذة على الانحرافات. وقد يساعد ذلك في القضاء على ظاهرة الانصراف عن المشاركة في الانتخابات وعدم إدلاء الكثيرين بأصواتهم, نظرا للشكوك التي تثور حول مصداقية المرشحين وقدرتهم على الأداء السليم, واستعدادهم الشخصي للخضوع لعوامل الإغراء ونزعات الإفساد وإهمالهم في أداء رسالتهم نحو الدفاع عن مصالح الناخبين في سبيل تحقيق بعض المكاسب الخاصة بهم هم, وهذه كلها أمور تلقي بظلال كثيفة على الممارسة الديمقراطية, ولكن أساليب المتابعة والمراقبة عن طريق التكنولوجيا الإلكترونية كفيلة في أغلب الظن بالقضاء عليها. وهنا أيضا تكون المساءلة شعبية أو جماهيرية بالمعنى الدقيق للكلمة لأنها مساءلة يتولاها الشعب ويطبّقها على النّواب الذين يمثلونه وعلى الأجهزة الرسمية سواء بسواء مما يحقق مبدأ أو شعار الشعب فوق السلطة, أيّا ما يكون شكل هذه السلطة.

المشاركة الشعبية في القرار

          فالديمقراطية الرقمية بهذا المعنى تساعد إذن على زيادة فاعلية المشاركة الشعبية في عملية اتخاذ القرار وإدارة شئون الدولة, بفضل ما توفره تكنولوجيا الاتصال والمعلومات من إمكانات لتحقيق التواصل بين المسئولين وأعضاء المجتمع على جميع المستويات, وإن كان هذا (التواصل) يفتقر إلى عنصر مهم هو (الاحتكاك) الشخصي أو اللقاء المباشر وجها لوجه بين الأطراف المعنية, لأن الاتصال يتم في الديمقراطية الرقمية من خلال البريد الإلكتروني (وهو الشكل الأكثر تقدما وتطورا من الفاكس) سواء في إنجاز المصالح الشخصية مع الإدارات والأجهزة الحكومية والمؤسسات العامة دون أن يضطر الشخص للانتقال إليها وإنفاق كثير من الوقت والمال والجهد لإنهاء هذه المهام, أو في مناقشة السياسة العامة للدولة, كما تسجلها بعض التقارير الرسمية التي قد تفرج عنها الدولة مما يهيئ الفرصة للمهتمين بمحتويات هذه التقارير لإبداء الرأي من خلال الندوات الإلكترونية على شبكة الإنترنت ومشاركة المسئولين في هذه الندوات بالرد والشرح والتفسير, أو في حال الحملات الانتخابية, ومن هنا يرى بعض المفكرين أن الديمقراطية الرقمية أصبحت حقيقة مستقبلية واقعية (رغم ما في هذه العبارة من لبس وغموض), وأنها سوف تؤلف في القريب العاجل ثقافة جديدة تقوم على الوعي والإدراك والمعرفة والمشاركة الإيجابية في سياسة الحكم, على ما يقول آرشيل باكورازده في ورقة بعنوان (منظورات الديمقراطية الرقمية والحكومة الإلكترونية في جورجيا), كان قد تقدم بها لمؤتمر (منظورات تكنولوجيا المعلومات), الذي عقد في مدينة تبليسي في الفترة بين 13و15 يونيو عام 2001.

          وتعمل دول العالم المتقدم التي لم تتحول بعد تماما إلى الديمقراطية الرقمية والحكومة الإلكترونية على الوصول خلال العامين أو الثلاثة المقبلة إلى هذه المرحلة المتقدمة من الاعتماد الكامل على التكنولوجيا الإلكترونية في مجال الاتصال والمعلومات, وذلك عن طريق إنشاء مواقع خاصة (محايدة وموضوعية) على شبكات الإنترنت, لإرشاد الأهالي إلى طرق الاتصال الإلكتروني بالمصالح الحكومية لقضاء حاجاتهم وإنهاء مصالحهم من جهة, وتوجيههم إلى ضرورة مناقشة البرامج الانتخابية بدقة ومن موقف نقدي من جهة أخرى, وذلك ضمن خطة شاملة تهدف إلى تثقيف المواطنين سياسيا وتعريفهم بحقوقهم إزاء الدولة, وتحذيرهم من الاستجابة أو الوقوع فريسة لجماعات المصالح الخاصة التي قد تحرمهم بطرقها الملتوية من ممارسة حقوقهم السياسية. وقد انتشرت هذه المواقع في الآونة الأخيرة بشكل لافت للنظر وكادت تحل محل الراديو والتلفزيون والصحف, وبخاصة في موسم الانتخابات النيابية والنقابية. ويساعد على هذا التوجه قلة تكلفة الاتصال بالبريد الإلكتروني, أو تبادل الآراء من خلال عقد الندوات الإلكترونية على شبكة الانترنت, فضلا عمّا يحسّ به الشخص من أهمية ذاتية مستمدة من شعوره بأنه يقوم - كفرد - بدور إيجابي في مناقشة سياسة الدولة, ومراقبة الحكومة واتخاذ القرارات ووضع القوانين والتشريعات. والطريف هنا هو أن بعض الكتابات تصف هذا العصر الرقمي الحالي وظهور الديمقراطية الرقمية بأنه (الروشتة) التي تحتوي على العلاج الصحيح الناجع, للقضاء على كل الأوجاع والمتاعب والاضطرابات التي يعانيها النظام الديمقراطي الحالي في بعض الدول, على أساس أن التكنولوجيا الرقمية هي خير وسيلة لتوصيل الآراء والأفكار في حرية وبأمانة وموضوعية مما يكفل تحقيق النزاهة والشفافية.

هل يتحوّل المسار السياسي?

          والمتوقع أن تسود الرقمية معظم أنحاء العالم في السنوات القليلة المقبلة, وأن الثقافة الإنسانية سوف تعدل من بعض مقوماتها الأساسية وتتكيّف مع الأوضاع الجديدة. فليس الالتجاء إلى التكنولوجيا الرقمية في إجراء وضبط واستكمال العملية الانتخابية أو في إجراء الاتصال والحوار مع السلطات والهيئات والأجهزة الرسمية سوى بداية لتحوّل المسار السياسي كله نحو الاعتماد على هذه التكنولوجيات.ولقد أصبح البريد الإلكتروني أداة فعّالة ومؤثرة وناجحة في تبادل المعلومات والآراء والتعبير عن الرأي في حرية تامة, وسوف تؤدي تطورات المستقبل إلى ظهور وسائل جديدة لتعزيز هذا الاتجاه, وتأكيد حرية التبادل الفكري في كل المجالات وليس فقط في المجال السياسي.

          ولكن يبقى بعد هذا كله السؤال الذي يهمنا نحن هنا بوجه خاص: ما الوضع بالنسبة لمجتمعات العالم الثالث التي لم تكد تجد طريقها نحو الكمبيوتر, فضلا عن استخدامات الإنترنت في ارتياد مجالات المعرفة المختلفة, كما أنها لم تكد تتعرف على ملامح ومقومات الديمقراطية التقليدية وما يتعلق بها من تحديد معالم العلاقات السليمة بين الحاكم والمحكوم?

          ليس من شك في أن مجتمعات العالم الثالث سوف تظل بعيدة لوقت قد يطول عن استخدام التكنولوجيا الرقمية في تحقيق الاتصال والتواصل الفردي مع الأجهزة الرسمية وفي تقبّل أو حتى مجرد فهم وتقدير متطلبات واشتراطات الحكومة الرقمية, بل وإقرار حق الفرد في التعبير عن رأيه في حرية كاملة, وحق الأهالي في مناقشة الاتجاهات السياسية ونقد القرارات والقوانين بصراحة وعلانية, والمشاركة في كل خطوات العملية الانتخابية ومساءلة النواب من خلال الإنترنت والبريد الإلكتروني وما إليهما.

          وقد يكون السبب وراء هذا التخلف (المستقبلي) العجز المادي عن امتلاك هذه الوسائل أو مناوأة الحكومات لتوفير هذه الخدمات التي من شأنها أن تفضح الفساد وتكشف العجز الحكومي, أو لرغبة الحكومات في استمرار ممارسة سياسة التحكم والتسلط وعدم الرغبة في التنازل عن بعض هذه السلطات للشعب أو مشاركة الشعب لها فيها, أو لجهل الشعوب النامية ذاتها بتلك التكنولوجيات وعدم الوعي بالوظائف التي يمكن أن تؤديها التكنولوجيات الرقمية وعدم إدراك حقيقة الأبعاد التي يمكن أن تترتب على الاستعانة بها في تدعيم أسس الديمقراطية, ولذا فلن يكون من المستغرب أن تتسع الهوّة الرقمية على الأقل لسنوات عدة مقبلة إلى أن يؤدي تقدم التعليم وازدياد الاتصال الثقافي والمعرفي بالعالم المتقدم إلى التغلب على هذه الصعوبات.

          والواقع أن ثمة شكوكا كثيرة تدور حول إذا ما كان مجرد توفير هذه التكنولوجيات لمجتمعات العالم الثالث يمكن أن يدفعها إلى التحوّل نحو الديمقراطية الرقمية, وهي التي لم تكد تعرف معنى ومدلولات وأبعاد الحكم الديمقراطي تحت النظم السائدة فيها. فالديمقراطية الرقمية لا تعني فقط - على ما سبق أن رأينا - إتاحة الفرصة الكاملة للمعرفة والحصول على المعلومات, ولكنها تعني أيضا المشاركة في الحكم من خلال حرية المناقشة وإبداء الرأي والقدرة على التعديل والتبديل, وانتخاب المسئولين عن إدارة أجهزة الدولة في كل المجالات وعلى كل المستويات, والحكم على أدائهم الوظيفي ومساءلتهم على ذلك الأداء. ولاتزال شعوب العالم الثالث بعيدة عن - أو ربما مستبعدة ومحرومة من - ممارسة هذه الصلاحيات.

 

أحمد أبو زيد   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات