مصطفى نبيل وماهر حسن

مصطفى نبيل وماهر حسن
        

أدهشني الاستسلام لقدر العولمة

          ظل هاجس الهم العربي والقومي يشغل مصطفى نبيل ككاتب طوال مسيرته القلمية مثلما يشغله ويؤرقه موقع العرب المعاصرين على خريطة العالم المعاصر, ولعله في مجمل كتاباته قد عبّر ورسخ لحقيقة مهمة ألا وهي أن التاريخ والسياسة وجهان لعملة واحدة, ويكاد يكون كل منهما نتاجًا للآخر, كما كانت كتاباته تؤكد أن أخطاء أمة ما, غالبًا ما تكون نتاجًا لعدم العكوف على إعادة قراءة التاريخ, الذي غالبًا ما يكرر نفسه, وأسلوب مصطفى نبيل في كتابة التاريخ يعمد إلى إبراز العبرة, خاصة أن اختياره للقضايا التي يطرحها أو يعرض لها يخضع لإبراز أوجه التشابه بين الليلة والبارحة.

          ولمصطفى نبيل ثلاثة كتب هي (سيرة ذاتية عربية), (حكايات من الزمن العربي), (مدن لها تاريخ), ويكاد يكون هذا اللقاء أشبه بحوار بين جيلين أحدهما وهو مصطفى نبيل* محمل بتراكم وخبرات وهموم الماضي والحاضر, والثاني وهو الشاعر والكاتب الصحفي ماهر حسن, شاعر مصري أنجز ديوانين هما (شروخ الوقت) و(وشايات عادية) وفي الطريق المزيد منها, فضلاً عن أنه أنجز مجموعة كبيرة من الموضوعات الصحفية نشرت في العديد من المطبوعات العربية بين المقال والنقد والكتابات التشكيلية والاستطلاعات والحوارات. لقد دخل مصطفى نبيل بمجلة الهلال مئويتها الثانية منذ تولى رئاسة تحريرها... ولذا فقد لزمت المراجعة.

  • المستفيد من التطرف طرف ثالث يهمه انهيارنا
  • غاب حرصنا على التطوير فانكفأنا على المقولات
  • نحن نريد الدخول في السياق الحضاري بلا ثمن
  • نحتاج إلى جهود عالم في قامة جمال حمدان
  • في مايو 1993, وفي إحدى مقالاتك الافتتاحية لمجلة (الهلال) كتبت رصداً تحليلياً موجزاً لتفاصيل المشهد الإنساني الملتبس على نحو يبعث على القلق والتشاؤم جاء في مواضع منه.
    (يشعر الإنسان العربي أن الكون قد أطبق على أنفاسه, غير أنه لم يرفع الراية البيضاء لأن السفينة التي تحمل شعوب العالم الآن في التيار الهائج باتت ثقوبها تهدد جميع الشعوب بما فيها الشعوب الكبرى, إن هذا الإنسان يحارب بعضه بعضاً تحت شعارات عنصرية, ويقتل بعضه بعضاً تحت هتافات دينية وفي زوايا الكرة تعربد إبادة الأجناس...) هل تغير رصدك لهذا المشهد بعد مرور سبع سنين عجاف عليه? وما قسمتنا في هذا المأزق? وهل تغيّرت أسئلة الماضي في مواجهة هذا الحاضر?

          - لم يتغير الكثير من ملامح هذا المشهد الذي رصدته, وسأضرب مثالاً على ذلك فالتصوّر الإسرائيلي العام, منذ وعد بلفور, يقول بأنه (لا قيام لإسرائيل إلا بسحق العرب), فكان من الطبيعي أن تمارس إسرائيل كل أشكال الاضطهاد والنفي والقتل وكان من المألوف ألا تجابه إسرائيل على ممارساتها الاستفزازية والقمعية هذه خاصة قبل هذا الانفتاح الفضائي العظيم الذي يعيشه العالم, حيث لا يرى أحد ولا يسمع, وحيث تسهل محاولات التعتيم والتضليل الإسرائيلي, وبالتالي فإن طبائع الأمور تقول, إنه يصعب القيام بتلك الممارسات في ظل هذا الانفتاح الفضائي, غير أن هذا لم يغير من الأمر شيئاً, ومازالت إسرائيل تمضي قدماً في غيّها على مرأى ومسمع من العالم كله, ولا أحد يستوقفها, كما لم يجرؤ أحد على وصمها بالإرهاب, وضربت بالأمر كله عرض الحائط, بل وتزايدت حملات اضطهاداتها وقمعها وقتلها للفلسطينيين العزل بما في ذلك الأطفال الرضع وكل هذا يتنافى مع واقع الأمور, بل والواقع كله, ولعلني أذكر حواراً قصيراً دار بيني وبين مراسل (الواشنطن بوست) في لندن حول الأمر نفسه حيث قال لي (ولكننا نحن الذين نغيّر هذا الواقع) ومما ينافي الواقع أيضاً أن الأمريكيين, ومعظم دول أوربا, يساندون ويؤيدون إسرائيل رغم درايتهم الكاملة بجذور ومرجعية هذا الصراع, ولديهم جميعاً الملفات التفصيلية للمسألة الشرق أوسطية. وفوق هذا, فإنك تلاحظ في زيارة شارون الأخيرة لروسيا أنهم لم يسألوه عن الأسلوب البربري غير المشروع في قتل القيادات الفلسطينية أو قتل الأطفال الرضّع والمواطنين العزل بالأباتشي والدبابات, وإنما تحدثوا عن تحالف روسي - إسرائيلي - هندي - صيني - تركي - أمريكي ضد الأصولية, رغم أن شارون يمارس حرب الإبادة والتصفية الجسدية لشعب كامل وعلى مرأى من العالم كله, ويستقبلونه بالترحاب والمساندة في كل أنحاء العالم, ويتهمون الفلسطينيين بالإرهاب, فهل هذه هي الأصولية التي يتحدثون عنها? وهل سينتصر الحق والخير والعدل في النهاية? أم أن الواقع سيخذلنا في هذا العالم الذي يتغير بسرعة فائقة تفوق تصوّرنا? أم أن الحق وحده لم يعد كافياً لتغيير الواقع?

استيعاب الحقائق

  • هناك أطراف كثيرة مسئولة عن ميلاد ظواهر الإرهاب وليس طرفاً واحداً, وما نراه أن الغرب أصبح يطلق هذا المفهوم على عواهنه, لتأخذ كلمة الإرهاب لديه شكل ومنطق التعميم الجائر, المقصود به كل عربي ومسلم وثوري على الرغم من وجود ظاهرة التطرف داخل كل دين على حدة, وأتصوّر أن مرجعية الغرب في هذا السياق تقود إلى ما لاقاه تاريخياً, وما يلاقيه حالياً من الفصائل الدينية التي لعبت وتلعب دوراً مشروعاً في مناهضة أشكال الاحتلال والإرهاب العنصري لإسرائيل, هل تعتقد أننا متورطون في تصدير هذا المفهوم للغرب بشكل أو بآخر? ويتعين علينا هنا أن نؤكد على اختلاف منهج وأرضية كل جماعة على حدة?

          - حينما تقرأ التاريخ المعاصر لمنطقتنا العربية, ستجد أن هناك تهمتين رئيسيتين وهما التعصّب والأصولية الإسلامية, وقد وجهتهما الأنظمة للخارجين عليها, فحينما تقرأ تاريخ الثورة العرابية, تجدهم قد اتهموهم بأنهم مجموعة من المتعصبين والأصوليين, وكذلك الأمر مع سعد زغلول الذي اتهموه بالأصولية أيضاً, وقد أحدثت هذه الأنظمة فجوة بين الأصوليين وجموع الناس, فاستفاد بهذه الفجوة طرفان, الأول مَن روّج لهذه الاتهامات والذي استخدم العنف, وأتصوّر أنه بالإمكان التصدّي لهذه التيارات, ولأن القضية المطروحة هي قضية أفكار, فإنه لا يوجد حل لها سوى الحوار وخلق تيار عام يستوعب الحقائق, وعلاج الظروف الموضوعية التي نجمت عنها هذه الظواهر, وليس بتصفية بعضنا البعض لأن هناك طرفاً ثالثاً هو المستفيد الأول من حدوث هذا الشرخ. وأقول لك إنه منذ التراجع العربي ومنذ تخلينا عن روح العصر, وغاب حرصنا على التحديث والتطوير وانكفأنا على مجموعة من الأقوال والنصوص, فإنك تجدنا إزاء كل كارثة أو هزيمة أو تراجع حضاري  نحرص على اتهام بعضنا البعض, ولدينا رصيد كبير من التهم مثل العمالة والشيوعية والإلحاد والتطرف وغير ذلك, وأنا من جانبي أسأل ما معنى أن يكون الإنسان متطرفا في حبّه لبلده, أو متطرّفا في صدقه أو أفكاره. إنني مع أفعال الناس التي يسيطر عليها القانون ويراقبها, ويعاقب عليها وينظمها. وهذه مسائل بديهية يدهشني أننا مضطرون لقولها, والتي إذا وعيناها من الممكن أن نخلق داخل مجتمعنا شكلاً من أشكال التناغم ونجعل من الدول التي أدمنت الهزيمة في حال من الاستقرار تساعدها على ألا تنهزم إن لم تنتصر. كما يجب ألا يغيب عن أذهاننا الموضوع الرئيسي ألا وهو التحديث, فهو المتن غير أننا نتحرك في الهامش الذي يقتصر على الكلام أو تبادل الاتهامات والقمع الفكري, ووأد كل أشكال الحوار, فلو كان هناك تطوير وتحديث وكانت هناك أفكار جديدة, فإن كل هذا خليق بملء الفراغ الذي يصنع التطرف.

  • يقودنا حديثك عن التحديث لإعادة تأمّل تعريف الدول بدول نامية ودول متقدمة ودول عالم ثالث أو عالم متقدم, ويبدو أن التصنيف لا يخضع لمنطق الثراء, فهناك دول غنية بمنطق الوفرة الاستهلاكية لكنها علمياً وإنتاجياً واستهلاكياً دول نامية, فما معادلة التقدم والتخلف في تصوّرك مع تحديد مسئولية الأفراد والمؤسسات معا?

          - الكثير من الناس ليسوا مدركين أن لكل شيء ثمنا, على الرغم من اللحظات التاريخية الاستثنائية التي واجهناها ولم نستثمرها جيدا, وآلية انتقال الدول النامية إلى خانة التقدم خاضعة بالضرورة لآليات وفلسفات التنمية لدى المؤسسات والأفراد - على حد سواء - وأنت كفرد في دولة نامية من دول العالم الثالث تحركك مجموعة من المفاهيم والأفكار ذات الطابع الأحادي والفردي, فإذا تصوّرت نفسك في بلد ما ومعك الملايين أو المليارات التي تفكر في استثمارها فإنك ستقوم باستثمارها في أوربا مثلاً حيث الضمان الأكبر والمجتمع الأكثر استقراراً ونظاماً وأماناً, وهذا لمصلحتك, لأنك تريد تحقيق دورة مال ناجحة تعود بالربح والنفع عليك فقط كرأسمال, وهذا خيار, أما الخيار الآخر فإنك ستوجه خططك في اتجاه تطوير المجتمع الذي تنتمي له, وفي هذه الحال سيكون الأمر أشبه بالمخاطرة حيث ستوجه أموالك لمشاريع استثمارية في السودان حيث لا يوجد استقرار عام, وهذه هي معادلة التخلف لأنك إذا أخذت إسرائيل كمثال فإنك ستكتشف أنهم يدفعون ثمناً لما يريدون الحصول عليه, حيث يعتبر يهود الغرب أنه من واجبهم أن يضخوا الأموال إلى إسرائيل رغم أن هذا لن يعود بالنفع الفوري على الأفراد, وإذا لم يكن لدينا استعداد لفعل هذا, فسيكون من الطبيعي أن إسرائيل تقوى وأنت تضعف, إذن فهل أنت مستعد لدفع ثمن أهدافك البعيدة أم لا? إن هذا يتطلب منك نظرة بعيدة المدى ومجموعة من التضحيات لتحقيق طموحات عامة, وفي هذه الحالة, ومع آخرين لهم نفس الرؤية الصائبة والمستقبلية, ستحدثون نقلة نوعية لمجتمعكم, أما على صعيد مسئولية المؤسسات, فإنه يشاركها فيها الأفراد كذلك ولعلني أرى مثالاً صارخاً في مجتمعاتنا, فهناك دول أرسلت أبناءها في بعثات علمية إلى جامعات عالمية في أوربا وأمريكا وغيرها إلى أن وصل أولئك الأبناء إلى مكانة علمية رفيعة هناك, وبدلاً من أن يعودوا لضخ هذه المعرفة وهذه الخبرات إلى بلادهم التي تحتاج إلى جهودهم, فإنهم يفضلون البقاء هناك لما يحظون به من رعاية ودعم واحترام وتقدير مالي ومعنوي ثم يتحول الأمر إلى أن من لا يعود من أولئك الأبناء إلى بلادهم, هم الذين يحظون في بلادهم التي بخلوا عليها - وضنوا بالوفاء لها - يحظون بالمكانة الأرفع والسمعة الأوسع والشرف الأكبر, أكثر من الذين ضحوا بمكانتهم هناك وعادوا لبلادهم ليطوّروها ويواجهوا في سبيل ذلك كل النكران وعدم التقدير وعدم الرعاية, يعني الذي لا يريد أن يدفع الثمن هو صاحب المكانة الأرفع وهذا - يجسّد فقداننا الحسّ والشعور العام, حيث تتناقض المصالح الشخصية مع المصالح العامة, وحينما تحرّك أهدافك في أفق لا يسع سواك, فإنك تسهم في رجوع بلدك للوراء.

مرض الشمولية

  • أخذت فكرة وحدة العرب العديد من الصيغ والمسميات, كما تعرضت لمجموعة من الإخفاقات حينما تعرضت لاختبارات حقيقية, فلم يبق منها سوى مسميات مثل (القومية العربية) و(الوحدة العربية) و(الشمل العربي) و(الصف العربي), فيما أن الواقع الملموس والظاهر يقول غير ذلك, حيث إن المنطقة العربية هي أكثر منطقة في العالم تعيش دولها العديد من صراعات وخصومات ونزاعات الجوار, فعن أي قومية يتحدثون ووفق أي مرجعية?

          - هذا السؤال مهم جداً في تصوّري, ولا أقول إنني من المؤمنين بالوحدة العربية وفق هذه الشعارات, بل إنني أنظر للمنطقة العربية باعتبارها وحدة واحدة قبل إطلاق مثل هذه الشعارات بزمان, ذلك أن فكرة القومية العربية قادرة على استيعاب العديد من المشتركات الثقافية والتاريخية والجغرافية, بل والفنية واللغوية والتراثية, حتى مع وجود جفوات سياسية, فالوحدة أولاً وحدة ضمنية بين الشعوب قبل أن تكون بين الأنظمة, لأنها وحدة طبيعية وليست مختلقة أو شعارية أو هتافية, والأمثلة في هذا السياق لا حصر لها, ولعلني أذكر مثالاً مبسطاً لها وهو أن المثقف العربي يعود إلى ابن خلدون والجاحظ والأغاني ونهاية الأرب وغير ذلك, وأتفق معك أن العالم ماض للتكتلات دون كلل, لأن اللحظة التاريخية القادمة هي لحظة جماعية ولحظة تكتلات وليست لحظة تشرذم, ولن تستطيع أي دولة عربية أن يكون لها مكان متميز في هذا السياق ما لم ننجح معاً في خلق تكتل عربي متعدد الأشكال والصيغ, وعلى رأس هذه الصيغ الصيغة الاقتصادية, فهل نجحنا في إقامة تكتلات أو تجمعات اقتصادية عربية ذات تأثير في العالم العربي بخاصة, وفي العالم عموماً? إن ما ألاحظه لدى النخب والكتاب العرب أنهم أخذوا من تجربة انفصال مصر وسوريا مثالاً للاستخفاف والتندّر, واعتبروا النظم الشمولية التي ارتبطت بالأفكار الوحدوية مرضا مرتبطا ارتباطاً مباشراً بالعمل الوحدوي مع أنه ليست هناك علاقة بينهما, لأنه من الممكن أن تكون وحدوياً ومستبداً, أو وحدوياً وديمقراطياً, ومن الممكن أن تكون انفصالياً ومستبداً أو انفصالياً وديمقراطياً وهكذا, وما يزعجني في هذه القضية أنه أصبح من المسلم به وكأن الفكرة العربية انهزمت, وأنها أصبحت من تراث الماضي, وأنها مرتبطة بالشمولية, وهذا غير صحيح, ولم يناقش الأمر بشكل موضوعي يخلو من الانفعال, ومهما يكن من أمر, إذا كنت مؤمناً بأن منطقتنا العربية تجمع بينها جملة من العوامل والعناصر والمصالح المشتركة, فإنه بالإمكان تحقيق عوامل التقارب العملي لتتحقق وحدة ليست مشروطة بأن تكون وحدة جغرافية وسياسية, وأنا أوافق على أن خلق علاقات وحدوية ليس بالأمر الهيّن, وله آلياته الخاصة, ولدينا نماذج يمكن التأسي بها, ولنتأمل - مثلاً - نموذج الوحدة الأوربية التي بدأت بالحديد والصلب إلى أن أخذت شكلها الحالي.

الحضارة الأقوى

  • كان للدول العربية موقف غريب إزاء فكرة العولمة تنوّع ما بين الصمت المطبق, أو السلبية, أو عدم الفهم للتداعيات المستقبلية لهذه الفكرة, أو الاحتفاء بها, وكان هذا الموقف هو الأغرب, وبدا بعض كتابنا محتفين بهذه العاصفة - فيما تظاهر ضد مؤتمرات العولمة العديد من الدول الأوربية, فما تحليلك لهذه المفارقة?

          - هذا هو الوجه الآخر للجانب المادي لمعادلة التطور التي أسلفنا الحديث عنها, وحينما نتأمل الأمر تاريخياً سنجد أن الإسلام نادى بفكرة الوحدة الإنسانية وتعامل مع البشر كوحدة واحدة وهذا عمل إيجابي, ولما جاءت الماركسية خاطبت الناس كوحدة واحدة, ولما قامت الحركات الاستعمارية, وسيطرت دولة على دولة أو على مجموعة دول تحدثوا عن (باكس رومانيكا) وعاملت الإنسان على أنه روماني في كل مكان, وصولاً للإنجليز الذين أرادوا توحيد العالم تحت سلطتهم, وها نحن إزاء أمريكا التي تريد توحيد العالم تحت سلطتها وبالتالي نحن إزاء قضيتين رئيسيتين مختلفتين وهما (النقود والسيطرة الدولية منذ باكس رومانيكا وصولاً إلى السلام الأمريكي) ومتغيرات تحدث في العالم بشكل متلاحق لابد أن نكون جزءاً فيها, ومن ثم فإنه لابد لنا أن نكون منافسين حقيقيين وإلا فسينطبق علينا منطق ابن خلدون الذي يقول إن اللغة التي تغلب هي لغة الحضارة الأقوى, وإذا استمررنا على أوضاعنا الراهنة فحتماً سنهزم بإحدى الوسيلتين, إما أن نكون جزءاً تابعاً في هذه المنظومة, وإما أن يفرض علينا ذلك كله فرضاً. ولكن ما يستلفت انتباهي بالفعل, بل وأخطر ما في الموضوع, هو أن هناك تياراً واتجاهاً يتبناه عدد كبير من المثقفين في مقالات يقول مضمونها إن العولمة قدرنا, أي أن السيطرة الأمريكية على العالم قدرنا بمعنى استحالة مقاومة هذا القدر, وفي تصوّري أن العولمة تحد للبشر ككل بما في ذلك آسيا وأوربا, فهل استعد العرب لذلك, أنا أرى فجوة كبيرة بين الفعل والقول وبينهما مساحة إما من الوهم أو التقديرات الخاطئة.

  • في كتابك (حكايات من الزمن العربي) وقفنا على منهجية عامة في الكتابة, وهي أنك عنيت بمنطق العبرة التي انحسر إزاءها التحليل المنهجي فضلاً عن ورود كل سيرة من السير وفقاً لمغزاها وليس وفقاً لشهرتها, فما فلسفة ذلك?

          - أولا من حيث نزوع الكتاب إلى إبراز العبرة التاريخية أكثر من التحليل, فإنني أتصوّر أنه كلما زاد التحليل ضاعت الغاية والعبرة الفلسفية, وأنا أردت أن أسوق وقائع ورموزاً (تقول من تلقاء نفسها) تماماً مثل صناعة الدراما الذي تبرز القصة فيها المغزى الرئيسي, أما عن إيراد كل قصة وفقاً لمغزاها, فهذا يسبب ارتباطها بواقع ما نحن قريبو العهد به.

  • أود أن أتوقف معك لدى إحدى نماذج هذه السير, وهو نموذج الزعامة العربية منقوصة الخبرة والوعي الذي اعتبرته نموذجاً متكرراً تتوافر له كل النوايا الطيبة, وكل الشجاعة إلى حد التهور والمغامرة في مقابل جهل بلعبة السياسة, فانتهى به المطاف مغامراً مدحوراً, وكأنك تشير بهذا النموذج لأحد نماذج الحكام المعاصرين, وأكاد أقول إنه صدام حسين?

          - كان هذا في ذهني فعلاً, فلقد كانت مشكلة أحمد الريسوني هي ذاتها مشكلة صدام حسين, ولعلني أؤكد هنا أن (الشطارة) بلا استراتيجية لن تؤدي إلى نتيجة, ولكن متى تكون الشطارة مفيدة? وأقول حينما تكون ذات معنى ومغزى وتصوّر عام, مع حساب دقيق للتوقعات بالنسبة لكل خطوة, وأنا وأنت نسأل مثلاً هل ياسر عرفات حينما أقدم على (أوسلو), هل فكر لحظة أنها من الممكن أن تفشل أم لا? وهل وضع في اعتباره أنها إذا فشلت كيف يستعد بتصوّر للخطوة التالية? اليوم مشكلة الصراع العربي - الإسرائيلي تجاوزت نصف قرن, فهل هذه الفترة لم تكن كافية لإضافة خبرات ومهارات للفلسطينيين في التعامل مع أعدائهم?

  • قلت ذات مرة وفي معرض حديثك عن الثورات المصرية (لا يقاس أثر الثورات بخفوت صوتها أو ارتفاعه بعد انقضاء السنين, وإنما يقاس ببقاء أثرها في ضمير الأمة) ولقد تدفق علينا في السنوات القليلة الماضية سيل من الكتابات عن ثورة يوليو بعضها بأقلام من ادّعوا أنهم كانوا أصحاب أدوار محورية فيها, وجاءت هذه الشهادات بين ما هو مهاجم أو مؤيد أو متعاطف مما أصاب جمهور القرّاء بحال من التشويش والبلبلة, كيف نقرأ تاريخنا وكيف نكتبه مع تعارض هذه الشهادات وتضارب بعضها أحياناً?

          - لقد كان نصف مصر مختلفاً حول سعد زغلول, ولما كنا نجلس في مجالس الرجال قديماً ونحن صغار, كنا نرى ذلك, فلقد كان هناك من يتعصّبون له جداً ومن هم ضده تماماً, وهذه ظاهرة من الطبيعي أن تكون موجودة, وإذا كان هناك من يهتم بقراءة أو بكتابة التاريخ, فإنه سيقرأ الآراء الضد والآراء المؤيدة, كما أنه سيسهل عليه الوصول إلى الحقائق وفق اقتناعاته الاطلاعية أو البحثية, وحينما تتوقف بالرصد عند عام 1954م أو مارس ستجد نفسك بالفعل إزاء العديد من الآراء, غير أنه يمكنك من مجمل هذه الآراء الوصول إلى اقتناع ما في هذا السياق, حيث إنك ستجد نفسك إزاء مجموعة من الحقائق التي لا خلاف حولها بمعنى الـ (Hard Facts).

          ونحن حينما نتأمل المائة عام الأخيرة نلاحظ أن هناك تاريخين وليس تاريخاً واحداً. التاريخ الأول وهو الذي يقدمه المستعمر وفق مرجعية (أنه لابد من وجود عرب مفككين لكي تقوم الكيانات الاستعمارية أو العنصرية أو ذات الأطماع التوسعية), والتجربة قائمة بجلاء ومجسدة حالياً في الوجود الإسرائيلي في المنطقة, وكانت قديماً متمثلة في (أنه لكي يستمر الإنجليز في مصر كان لابد أن يشوّهوا تاريخها), وبالتالي كان من الطبيعي أن نجد تيارات واتجاهات تشوّه ثورة عرابي وتشوّه سعد زغلول, اليوم نجد تيارات واتجاهات تشوّه عبدالناصر, إذن فهناك تاريخ يستخدمه كل طرف لصالحه ليحقق تأثيره وأهدافه, وهذا وارد, أما التاريخ الثاني فهو الذي نكتبه نحن بما يحتمل الخطأ أو الصواب والحيادية, أو التحيّز.

الحضاري والمعرفي

  • وماذا عن مسئولية أساتذة ومعلمي التاريخ والباحثين إزاء هذه المحاولات?

          - نعم هناك مسئولية تقع على عاتق هؤلاء وعلى واضعي التاريخ الأكاديمي والتعليمي, حيث إنه من الغريب أن أجد كتاباً أمريكيا يتحدث عن المنطقة العربية باعتبارها وحدة تاريخية واحدة, ويتحدث عن التأثيرات التاريخية لكل طرف على الآخر, غير أن كتاباً مهماً كهذا من ناحية منهجيته وتحليلاته غير موجود في المكتبة العربية. فضلاً عن هذا, فإنك تجد مصر ذاتها - وكمثال - لم يعد لها وحدة تاريخ واحدة بسبب أساتذة التاريخ, فإنك لا تجد كتاباً معاصراً تحت عنوان (تاريخ مصر) بمعنى (مصر الفرعونية القبطية البطلمية الرومانية العربية الإسلامية) وقد ساعد الأساتذة في التكريس والتأكيد على ذلك التفتيت, فنجد أستاذاً للتاريخ الفرعوني وآخر للقبطي, وثالثاً للإسلامي ورابعاً للتاريخ الحديث, وهكذا, وكل متخصص منهم معرفته قليلة بالتاريخ في الجانب الذي لا يعمل في حقله. وهذا خلل شديد, فنحن نحتاج إلى وحدة التاريخ على أقل تقدير على المستوى النظري الأكاديمي, بمعنى تحقيق الدراسات العامة التحليلية فيه, ورصد تأثيرات كل طبقة حضارية على الأخرى ورصد المحصلة النهائية لنتاج هذه الطبقات مجتمعة على الناس والمكان والجغرافيا والمعرفة الإنسانية وغير ذلك, باعتبار أن السمات العامة للبشر في أي وطن هي نتاج طبيعي ومحصلة نهائية لما هو حضاري ومعرفي, وهو أمر أكّد عليه عبقري مثل الدكتور جمال حمدان, والذي نفتقد حالياً جهود عالم كبير مثله.

  • باعتبارك رئيس تحرير مجلة دورية عربية عريقة ومهمة في تصورك ألا ترى أن هناك تحدياً ومنافسة غير متكافئة بين هذه الدوريات وهذا الانفتاح الفضائي الواسع الذي بدا مؤهلاً لسحب بساط التلقي من تحت أقدام هذه الدوريات حيث الكلمة المرئية أيسر وأكثر إمتاعاً وجذباً, فيما بدت هذ الدوريات.. وكأنها تتوجه برسالتها وموادها للخاصة من القراء, ما السبيل - في تصورك - لإلحاق تغيير جوهري في شكل ومضمون وسياسات هذه الدوريات.. وكذلك الكتب لتليق بهذه المنافسة واللحظة الحضارية الراهنة?

          - أجدني مضطرا لقول الكلام التقليدي في هذا الموضوع, حيث إنك من خلال رصدك التاريخي لمثل هذه المنافسات, ستلاحظ أن كل أداة جديدة كانت تعيش جنباً إلى جنب مع الأداة القديمة, غير أن القضية تكمن في السؤال: وفق أي هدف وأي مغزى, وعلى أي قاعدة أنت تعمل وتقوم بدورك? أو بالعامية المصرية: (إنت بتشتغل على إيه?) والإجابة أنك تنقل الكلمة, والتي هي وعاء لأفكارك وأفكار الغير, والتي تقدم المعلومة كذلك, ونلاحظ أن هناك وسائل جديدة دعمت أهمية الكتاب حيث أصبح بإمكانك نقل كتاب كامل على (C.D.), وأنه بالإمكان تقديم وتلقي المعلومة على الإنترنت, ومع هذه الفائدة في توسيع قاعدة الاستفادة من الكتاب بهذه الوسائط الحديثة, فإن هذا, في الوقت نفسه يشكل تحديا, وينطوي على خطورة على الكلمة المطبوعة والمكتوبة, لكنه - في نهاية الأمر - لن يستطيع - بحال من الأحوال - القضاء على الكلمة المكتوبة لأنها ستظل الأساس.

          وفي سبيل أن تؤكد هذه الكلمة المكتوبة على مكانتها, فإن ذلك يحتاج إلى جملة أشياء من بينها أن تحاول أن تكون أكثر جاذبية وأن تكون شائقة وفي شكل فني أكثر جمالا, وأن تلجأ للتيسير في أسلوب تقديمها للمادة, وهذه تحديات تواجه - في مجملها - الدوريات بشكل عام, وإجمالا لابد أن يكون هناك نوع من التضافر والتضامن بين الوسائل المختلفة حتى لا تتفوق إحداها على حساب الأخرى.

          وأنت حينما تشاهد التلفزيون الفرنسي - مثلا - ستجده يحتفي بالكتاب احتفاء شديدا وبكل كتاب جديد وبكل كلمة مكتوبة, كما أن هناك نموذجا أمريكيا آخر معروفا اسمه (على ضوء الشموع) وكانت مقدمة هذا البرنامج تستضيف مؤلف الكتاب وناقداً وواحداً من القرّاء, وتتم مناقشة الكتاب, وكانت المذيعة تقول إنه وصلتها من قراء أو كتاب العديد من الرسائل التي تريد المشاركة في هذا البرنامج, الأمر الذي استتبعه ازدياد نسبة توزيع الكتاب, التي قفزت في بعض الأحيان من ثلاثين ألفا إلى مليون نسخة, إذن فإن هذا يعكس نموذجا لنتيجة تعاون أداة مع أداة أخرى دون أن تنفي إحداهما الأخرى.

          نحن هنا نفتقد تضافر أطراف ما يمكن تسميته بالمثلث الذهبي, (الإعلام... التعليم... الثقافة) وضف على ذلك دور المسجد, حيث كل منهم في واد, مما يؤكد على انتفاء الهدف الاجتماعي العام, نقطة أخيرة أود إضافتها وهي أنه لا يمكن الاختلاء بديوان شعر مثلاً وهو مطبوع على (C.D.) لأن هذا النوع من الأجناس الأدبية يحتاج منك إلى أن تنفرد بقراءته في الوقت المناسب والمكان المناسب, وأذهب لأبعد من ذلك, فأقول إنه يمكن اعتبار الأدب خارج هذه المنافسة, أما المطبوعات المعرفية والمعلوماتية والموسوعية فيمكن الاستعاضة عن قراءتها بالبحث عنها على الإنترنت أو البرامج الإعلامية, غير أن هذا يمثل دعماً لهذا النوع من المعرفة, ولا تنس أنه - في العموم - قد استفادت المطبوعة من التقنيات التكنولوجية العالية على صعيد الطباعة واللون وتحقيق الجاذبية.

  • لم تتحدث عن أسعار الدوريات التي تشكّل عائقا في الإقبال على التلقي, الهلال - مثلا - أصبح سعرها أربعة جنيهات وهذا ليس في متناول كل القرّاء بمن فيهم الخاصة أيضا.

          - هذا موضوع آخر, وأتصور أن الثقافة أكثر الأشياء حاجة إلى الدعم حيث ليس هناك ما هو أهم أمام أي قيادة متحضرة, من تثقيف شعبها, الذي سيصب في النهاية في معين الارتقاء الحضاري الذي تريد أي دولة تحقيقه, فلا يتعين على حكوماتنا مثلا فرض ضرائب على الكتاب والأحبار والورق, كما يتعين عليها فتح الحدود أمام المطبوعة, لأن التوزيع الواسع يقابله انخفاض في سعر المطبوعة, ولعلني أضرب مثالا بمجلة (العربي) الكويتية كنموذج, حيث نجد أنها توزع بسعر أقل من تكلفتها لتتوافر للقارئ في كل مكان.

  • بمناسبة ذكر مجلة (العربي) فإنه يحضرني سؤال عن تجربتك وذكرياتك فيها, وما الذي تمثله هذه المحطة من أهمية في مسيرتك الصحفية?

          - الحقيقة أنني أحمل لهذه التجربة كل امتنان, فحينما ذهبت إلى الكويت كان المناخ ممتازاً والمجتمع هادئاً جداً فمكنني هذا بشكل واسع من تعميق ثقافتي, وتوسيع حدقة الرؤية على العالم العربي, وهذه المنطقة تحديداً, حيث كانت الحياة السياسية والاجتماعية في مصر صاخبة جدا, وتضج بالنشاط والندوات ولقاءات الأصدقاء, وحينما سافرت للكويت للعمل بـ(العربي) كانت هذه فرصة عظيمة لتعميق ثقافتي واختبار خبراتي ومعارفي, فوجدتني قادراً على التنقل بين الكتب والأشخاص والبلدان, وقد لعبت هذه الفترة دوراً مهماً في تكويني الثقافي, لقد ذهبت مع الكاتب الراحل الأستاذ أحمد بهاء الدين حينما عمل رئيسا لتحريرها, وظللت أعمل معه إلى أن جاء الدكتور الرميحي, الذي عملت معه لمدة عام, وكنت مديراً لتحرير (العربي), وهذه الفترة أضافت خبرة واسعة لي, ولعل جو الكويت الهادئ آنذاك مكنني من القراءة والتنقيب والارتحال, وقبل سفري للكويت كنت أعمل في مجلة (المصور) المصرية محررا للشئون العربية, فكنت مهتما بالظواهر السياسية, وتجليات ما هو تاريخي على ما هو سياسي والعكس, فلما رحلت للكويت استطعت توسيع وتعميق هذه الرؤية وحققت الكثير من المكاسب المعرفية على مدى السنوات السبع التي عملت فيها بـ(العربي) حيث نمت ثقافتي وقدراتي, وهذا يثبت لك أنه كلما توافرت الإمكانات كشف هذا عن قدرات الكاتب وأبرز خبراته, وأضاف إليها ليستثمرها في خدمة الآخرين, كما أن تلك الفترة أضافت لي مفهوماً صحفياً مهما, فإنك حينما تفكر أن تؤسس مجلة عليك أن تطرح أسئلة مهمة أولاً من قبيل لمن تتوجه بها? وكيف تحقق لها التنوع والتوازن? وكيف تتوجه بها لمختلف الأجيال? وتجربة (العربي) أفادتني كثيرا في هذا الاتجاه, بل وانعكست على منهج وسياسة رئاستي لتحرير مجلة (الهلال).

 

   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات