ميلاد عالم المعرفة
ميلاد عالم المعرفة
بدأ المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالتخطيط العلمي لكثير من المشاريع الثقافية منذ الأعوام الأولى لتأسيسه, ومنها إصدار مجموعة من المطبوعات التي تلبي حاجة القارئ لألوان المعرفة. وما دمنا بصدد الحديث عن سلسلة كتب (عالم المعرفة) فتجدر الإشارة إلى أن هذه السلسلة أخذت من اهتمام قيادات المجلس حيزًا كبيرًا. لم يكن إصدار كتاب شهري, مؤلف أو مترجم, في فروع المعرفة المتشعبة, يطبع منه ويوزع خمسون ألف نسخة أمرًا هينًا. كان الحلم كبيرًا والإمكانات الفنية محدودة, فالمجلس حديث النشأة, صدر مرسوم إنشائه في منتصف العام 1973, وعدد موظفيه في السنوات الأولى لتأسيسه لم يتجاوز أصابع اليدين, معظمهم من الإداريين التنفيذيين, إذ كانت سياسة الأمانة العامة للمجلس تقضي بعدم تضخيم الجهاز, وتكديس الموظفين, كما هي الحال في كثير من أجهزة الدولة, والاستعاضة عن ذلك بالاستعانة بأهل الخبرة والكفاءة - كل في مجاله - من خلال اللجان المؤقتة, التي تنتهي بانتهاء مسئولياتها. وفي ذلك توفير للنفقات, وانتفاع بأجود الخبرات, وحماية للجهاز من الترهل والدخول في متاهات البيروقراطية. واتساقا مع ذلك التوجه, وبحكم الاحترام الذي يحظى به كل من الأستاذ عبدالعزيز حسين والأستاذ أحمد العدواني لدى جمهرة المثقفين والمفكرين فقد استطاع المجلس أن ينتفع بخلاصة خبراتهم وتجاربهم وأفكارهم, من خلال دعوتهم للمشاركة في لجانه المؤقتة, أو من خلال الطلب منهم تقديم تصوراتهم المكتوبة حول المشروعات التي يستشيرهم بشأنها. ومنها مشروعات الإصدارات: عالم المعرفة, سلسلة كتب التراث العربي, مجلة الثقافة العالمية, مجلة الطفل. وهذه المجلة الأخيرة لم يقدر لها الصدور. وقد تعاون مع المجلس في هذا المجال عدد كبير من المفكرين والمثقفين والكتاب, وفي مقدمتهم الدكتور شاكر مصطفى, الذي تعاون معنا بلا حدود ود.حسين مؤنس, ود.عبدالرحمن بدوي, ود.علي الراعي, ود.محمود مكي, ود.محمد يوسف نجم, ود.محمد عبدالهادي أبوريدة, ود.أحمد فؤاد الأهواني, وغيرهم. أما د.فؤاد زكريا فكان ذا دور مميز, لم يقتصر على تقديم المشورة, بل لقد تحمل عبئًا كبيرًا في تحويل الحلم إلى واقع ملموس, من خلال عمله الدءوب في مرحلة التأسيس, وهي أكثر المراحل مشقة كما هو معلوم. كان د.فؤاد ولا يزال مؤمنًا بالأهمية الكبيرة لعالم المعرفة, وقد أعطاها من وقته وطاقته وخبراته ما ينبغي أن يكون محلا للإكبار والإجلال. التأسيس ومن المثقفين العرب الأكفاء الذين شاركوا د.فؤاد في تحمل مشقة العمل في المرحلة التأسيسية الأستاذ صدقي حطاب مدير الشئون الثقافية في المجلس. كانت المرحلة التاريخية التي بدأت فيها (عالم المعرفة) بالصدور مرحلة دقيقة, ولذلك سدّت بصدورها فراغًا كبيرًا. فقد شهدت تلك المرحلة متغيرات سياسية في بعض الأقطار العربية أدت إلى تراجع ملحوظ في إسهامات أجهزتها الثقافية, فضلا عن التحولات في التوجهات الفكرية لمطبوعاتها, الأمر الذي أدى إلى تقلص منافذ النشر أمام كثير من المفكرين والكتاب العرب, وبخاصة ذوو التوجهات الليبرالية. ولما كانت عالم المعرفة مطبوعة حرّة التوجه, لا تحجر على فكر الكاتب, ولا تحدد له الفضاء الذي يتحرك ضمنه فقد رأوا فيها نافذة مهمة يطلون من خلالها على قاعدة واسعة من القراء بين المحيط والخليج. وكانت جودة طباعة السلسلة, وارتفاع كمية الموزع منها, وسعرها الرمزي من الأسباب التي أسهمت في توصيلها إلى النجاح الذي وصلت إليه, وجعلها قبلة الكتاب والقراء. وباقتراب العام 1977 من نهايته كان المجلس قد تلقى عددًا لا بأس به من مخطوطات الكتب المؤلفة والمترجمة, التي تمت مراجعتها, وأصبحت جاهزة للطبع, فضلاً عن تلقيه عددًا كبيرًا من المقترحات للتأليف والترجمة, وإبرامه العقود مع أصحاب تلك الاقتراحات. وكان الهاجس الذي يؤرقنا هو احتمال عدم توافر رصيد كافٍ من الكتب التي تكفل للسلسلة الصدور في مواعيدها دون تعثر. ولذلك, فقد أعدنا مخاطبة الجامعات والهيئات العلمية والكتاب, ودعوناهم للإسهام في الكتابة لهذه السلسلة الجديدة, كما كنا نلح على الذين تعاقدنا معهم بضرورة إنجاز ما كلفوا به في المواعيد المحددة. ومع بدء الخطوات الأولى لتنفيذ المشروع الحلم كان أمامنا ثلاث عقبات إدارية ومالية لا بد من تذليلها, وهي: - الطبع. - التوزيع. - الجانب المالي. وفيما يتعلق بالطبع, فقد كان من المفترض أن تقوم مطبعة الحكومة بإنجاز طبع السلسلة. غير أن التجربة أثبتت أن تلك المطبعة متخمة بالمسئوليات, وغير قادرة على تحمل المزيد, والقيام بالمهمة بالصورة المطلوبة. ونتيجة لحرص المجلس على صدور السلسلة في مواعيدها, وبالصورة التي نتمناها لها, فقد اخترنا التعاون مع القطاع الخاص. وتم الإعلان عن مناقصة الطبع, وتمت ترسية المناقصة على إحدى المطابع التجارية. وكانت شروط العقد مع المطبعة تتضمن جزاءات شديدة في حال الإخلال بالشروط, سواء من جهة سوء التنفيذ أو التأخير في الإنجاز, وكان الهدف من وراء ذلك الحرص على التجويد شكلا مادمنا مطمئنين إلى الجودة الموضوعية. أما موضوع التوزيع فتم حسمه من خلال إصرارنا على التعاقد مع شركة متخصصة في توزيع المطبوعات. إذ لم يكن من الحكمة تعريض مشروع ثقافي كبير للإخفاق بإسناد عملية التوزيع لجهاز المجلس الوطني الصغير, الذي يفتقر إلى الخبرة التخصصية في هذا المجال. وبخاصة أننا نقرر مصير كتاب شهري يطبع منه خمسون ألف نسخة ينبغي توصيلها إلى رقعة جغرافية تمتد من الخليج إلى المحيط. وقد حاول بعضهم تسويق اقتراح بإنشاء شركة جديدة للتوزيع يعهد إليها مهمة توزيع الصحف والمطبوعات الحكومية والأهلية, ومنها عالم المعرفة. ولم نكن مستعدين للمخاطرة بوضع السلسلة تحت رحمة مؤسسة لم تتضح ملامحها, ولا تعرف قدراتها. وقد صدق ما توقعناه, إذ إن المؤسسة المقترحة لم تخرج إلى الوجود حتى هذه الساعة. مسائل مالية وفيما يتعلق بالجانب المالي تجدر الإشارة إلى أن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب لم يكن يمتلك ميزانية مستقلة خاصة به. وكان عليه أن يبذل جهودًا كبيرة في كل حين لإقناع الأمانة العامة لمجلس الوزراء - المسئولة عن مصروفات المجلس - وكذلك وزارة المالية برصد ما يحتاج إليه, أو القبول بتصوره حول المشروعات الثقافية, التي لا تغطي نفقاتها بأي صورة, وفي مقدمتها سلسلة كتب عالم المعرفة, التي كانت تباع في مصر - على سبيل المثال - بربع جنيه, وهو مبلغ لا يكفي لتغطية أجور شحنها بالطائرة إلى مصر بله نفقات إصدارها. ويضاف إلى ذلك أن السلسلة سوف توزع في بعض الأقطار العربية التي تقضي أنظمتها المالية بعدم خروج عملتها خارج حدودها. وهذا يعني أننا لن نحصل على مقابل نتيجة التوزيع في تلك الأقطار, وإن كان ضئيلاً. إن للماليين منطقهم بحكم المسئولية التي يتحمّلونها. ولنا نحن الذين نعمل في الجانب الفني للأجهزة الثقافية رؤيتنا التي تقوم على أساس أن مشروعاتنا الثقافية, ومنها عالم المعرفة لا تهدف إلى الربح, بل هي رسالة اختارت الكويت القيام بها وتحمل أعبائها خدمة للأمة. وهذا الخلاف في التصوّرات ما كان له أن يحدث لو أن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب امتلك استقلاله المالي, أو ميزانيته الخاصة. وعلى الرغم من وجود هذه الثغرة في هيكل المجلس, فقد أمكن التفاهم مع الأمانة العامة لمجلس الوزراء, وتذليل كثير من العقبات. رجال مخلصون واليوم, وبعد مرور ربع قرن على صدور (عالم المعرفة) الحلم العزيز على نفوسنا جميعًا يمر شريط الذكريات سريعًا, وتمر من خلاله وجوه رجال مخلصين أعطوا بسخاء, كلٌّ في مجاله: الأستاذ عبدالعزيز حسين - رئيس المجلس, والأستاذ أحمد العدواني - الأمين العام للمجلس, اللذان يرجع لهما الفضل في ظهور هذه السلسلة المميّزة إلى الوجود. الأستاذ الدكتور فؤاد زكريا, الذي كان مثالاً للاقتدار والجديّة في العمل, وهو بمنزلة العمود الفقري لعالم المعرفة, ولولا جهوده المميّزة لما قدر لهذه السلسلة أن تكون في المستوى الذي خرجت به. وقد تحمّل د. فؤاد الأذى من قبل بعض القوى التي لم تكن تقدر مكانته وسعة أفقه, وبعده عن التعصّب لقناعاته. وهو رجل مبدئي لا يستسيغ تجاوز الأصول المرعية في التعامل مع الكتّاب. وقد حاول الاستقالة من مسئولية (مستشار السلسلة) غير مرة بسبب بعض المشكلات العارضة المتصلة بالنشر أحيانًا. وأغتنم هذه المناسبة لأشكر له تفضّله بقبول مناشدتي إياه العودة عن الاستقالة حين أصرّ عليها ذات مرة - ربما قبل نحو عشرين عامًا - وأصررت على عدم مغادرة منزله قبل الحصول على وعد منه بالعدول عن تلك الاستقالة. أما الأستاذ صدقي حطّاب -مدير الشئون الثقافية في المجلس - فكان نموذجًا للكفاءة والتفاني في العمل, فضلاً عن غزارة ثقافته وسموّ أخلاقه, وأريحيته وروحه المرحة التي كانت تخفف عنّا وطأة العمل الشّاق في المرحلة التأسيسية للمجلس, وكان دوره في متابعة ما يتصل بعالم المعرفة أساسيّا. وقد تولى سكرتارية عالم المعرفة عدد من الموظفين الأكفاء, الذين يستحقون الإشادة بهم, ومنهم د. جمال صادق, الذي كان يعمل بصمت وجديـّة, ود. سحرهنيدي الباحثة والمترجمة القديرة, التي خسرت عالم المعرفة باستقالتها كفاءة عالية. أما الأستاذ عبدالسلام رضوان, الكاتب والمترجم المعروف, الذي تولى سكرتارية عالم المعرفة لفترة وجيزة فكان مثالاً نادرًا للشجاعة في مواجهة المرض, بل والموت. فقد زرته في مكتبه قبل وفاته بنحو عام, وكان قد خرج من المستشفى بعد دورة علاج كيماوي جعلت صوته مبحوحًا ومخارج ألفاظه غير واضحة, ولم أكن في ذلك الحين مسئولاً في المجلس, إذ إن وظيفتي هي مستشار ثقافي. وقد فوجئت بقوله: أرجو ألاّ تقلق على (عالم المعرفة) أو عليَّ, فأنا لن أموت قبل مرور عام, وقد رضيت بهذا الواقع, ورتّبت أموري على أساسه, وخلال هذه الفترة سوف يتم توفير رصيد كافٍ من الكتب. وقد تحقق ما ذكره, إذ إنه توفي بعد نحو عام, بعد أن كثّف اتصالاته بالكتّاب والمترجمين, ووفر الرصيد الذي وعد به لعالم المعرفة. وتسلّمت سكرتارية التحرير بعده الأستاذة هدى الدخيل, التلميذة النجيبة للدكتور فؤاد زكريا, التي اكتسبت منه حبّ العمل والإخلاص في أدائه. أما المصحح لعالم المعرفة الأستاذ محمد علي العبد فأحسب أنه نموذج نادر للرجال المخلصين لقناعاتهم. وله مع السلسلة واقعة طريفة جديرة بالذكر. فقد أصرّ ذات مرة على تعديل الوضع الإعرابي لكلمة وردت في مخطوطة أحد الكتب المقدمة للنشر في عالم المعرفة, وهددنا بأنه سوف يستقيل من العمل إن لم نوافق على إجراء التعديل. وقد وعدناه بالموافقة على التعديل إن لم نجد مسوغًا نحويًا لما أورده الكاتب, حرصًا منا على عدم التدخّل في تعديل أساليب الكتّاب إلا حين يكون هناك خطأ بيّن. وقد اتضح أن ما ذكره الكاتب جائز نحويّا, غير أن المصحح الأستاذ محمد العبد أصرّ على رأيه. وحين رفضنا تنفيذ طلبه قام بتنفيذ تهديده بالاستقالة. الكتاب الأول ويبقى من بعد السيد (أبو عبده) المسئول التنفيذي للمطبعة التي نفّذت طبع الكتب الأولى لعالم المعرفة, فقد كان رفيقي في ليلة ميلاد الكتاب الأول, أو الابن البكر للمجلس. كنت جالسًا معه تلك الليلة في المطبعة, وقبل الشروع في تجليد النسخ الأولى للكتاب اطلعت على الملازم فوجدت واحدة منها باهتة إلى حدّ ما, ولم يكن المصحح قد اعترض عليها, فأبلغت أبا عبده بضرورة إلغائها, وحاول إقناعي بالعدول عن ذلك الطلب لأن فيه خسارة للمطبعة. وأصررت على رأيي مع إحساسي بالألم لسببين أولهما: أن المطبعة سوف تتكبّد بعض النفقات الإضافية, وثانيهما تأخر خروج المولود الجديد إلى الدنيا يومًا آخر. ولكن كان لابد من البدء بإرساء أسس صحيحة للعمل, والإصرار على تلافي التقصير والخطأ والتأخر في الإنجاز حتى لا نصل إلى المستوى الرديء الذي وصلت إليه مطبوعات أخرى رسمية بسبب التهاون والتراخي في المتابعة. واستجاب (أبو عبده) لطلب تغيير الملزمة الباهتة, وخرج الكتاب الأول (الحضارة) بالصورة التي كنّا نتمناها, خاليًا من الأخطاء والخلل, غير أن الزميل الأستاذ صدقي حطاب اكتشف ما عدّه هو والأستاذ أحمد العدواني خطأ ينبغي تلافيه, في الكتب التالية للسلسلة, وهو عدم قيامي بوضع اسمي ضمن أسماء أعضاء هيئة تحرير عالم المعرفة, المدرجة في الكتاب, على الرغم من كوني عضوًا في هيئة التحرير وأمينًا عامًا مساعدًا للمجلس. وقد أمر الأستاذ العدواني الأمين العام للمجلس بإضافة اسمي, وإلحاق صفة (نائب المشرف العام للسلسلة) به. ولأن الكتاب الثاني من السلسلة كان قد أوشك على الانتهاء من الطبع, فقد أضيف الاسم اعتبارًا من الكتاب الثالث. وقبيل نهاية العام 1987 استقلت من العمل في المجلس, غير أن الزميل د. سليمان العسكري - القائم بأعمال الأمين العام آنذاك - أرسل إليّ خطابًا رقيقًا يطلب فيه موافقتي على البقاء في هيئة تحرير عالم المعرفة. وقد وافقت على طلبه لأن لتلك السلسلة مكانة خاصة في النفس. ومن بعد تولى وظيفة الأمين العام للمجلس كل من الدكتور فاروق العمر, فالدكتور سليمان العسكري فالدكتور محمد الرميحي فالأستاذ بدر الرفاعي, وقد أصرّ هؤلاء الزملاء الكرام على استمرار عضويتي في هيئة التحرير التي امتدت حتى يومنا هذا. وبعد, فقد أتاحت لي ظروف العمل في المجلس, وفي عالم المعرفة بخاصة, وبقية مطبوعات المجلس بعامة فرصًا نادرة للتعرّف عن قرب على كوكبة من العلماء ورجال الفكر والثقافة, فضلاً عن الزملاء من أعضاء هيئات التحرير المتعاقبة. لم تكن الاجتماعات معهم تقليدية, بل كانت بمنزلة ندوات فكرية ثريّة المحتوى, أما العلاقات الإنسانية التي نشأت بيننا فكانت زادًا روحيًا لا ينفد.
|