فؤاد زكريا.. وعالم المعرفة: جامعة شعبية وحرة

فؤاد زكريا.. وعالم المعرفة: جامعة شعبية وحرة
        

          الدكتور فؤاد زكريا.. اسم كبير في ساحة الثقافة العربية المعاصرة. مثقف موسوعي, لم يكتف بتخصصه الدقيق كأستاذ بارز في الفلسفة, بل مد بصره وبصيرته في اتجاهات ثقافية متعددة, كوّن منها لوحة عالمه الثقافي العريضة: الموسيقي, والتفكير العلمي, والتراث الحي, والأدب, والفن, وأحدث عطاءات العقول البشرية.

          وهو بتوسيع آفاق عالمه الثقافي خرج يشع على الناس بالكتابة, والمحاضرة, والمداخلة, فيما اعتقد أنه مهم ومفيد لإرهاف العقول وإعلاء السلوك. ولم يتراجع عندما تطلب الدفاع عما يعتقد في صوابه أن يشتبك, واشتبك مع من يخشى كثير من الناس بأس أصواتهم العالية ووفرة الأتباع المتأهبين للحرب والضرب بأدمغة خاوية. مثقف بارز, ومقاتل ثقافي, يمكن أن نختلف معه في بعض تفاصيل عالمه الثقافي, لكننا لا نستطيع أن ننكر فضله الثقافي حتى على من اختلفوا معه. كل هذا كان يدور في ذهني وأنا أبحث عن بيته, وعثرت عليه أخيراً هناك: على رأس شارع يحمل اسم (الدكتور محمد مندور). وأدهشتني المفارقة, لكنها لم تصرفني عن الاعتقاد بأن في كل صدفة قانوناً, ولكل صدفة معنى. فإذا كان الدكتور مندور علامة بارزة في نقد النص الأدبي العربي الحديث, فإن الدكتور فؤاد زكريا هو بدوره علامة بارزة في نقد الراهن الثقافي العربي الحديث كنص متعدد التجليات. ولم أكن طامحاً لاستجلاء ملامح هذا النقد العريض المتشعب, إذ كنت قاصداً الرجل لاستجلاء بعض دوره في إنجاز سلسلة كتاب (عالم المعرفة) الشهري التي تكمل ربع قرن من عمرها, وهو عمر عميق الأثر في حياتنا الثقافية العربية في الجزء الأخير من القرن العشرين, ومطلع هذا القرن الواحد والعشرين.

الفكرة والدستور

  • كان طبيعيا أن أبدأ أسئلتي عن بداية الفكرة - فكرة إنشاء سلسلة (عالم المعرفة) - وكان عادياً أن يجيب الدكتور فؤاد زكريا بأنه صاحب الفكرة, بل كنت أتوقع إجابة كهذه, جرياً على ما هو سائد في حوارات هذه الأيام, خاصة وحجم الرجل الثقافي الكبير ييسر عليه هذه الإجابة. لكنه فاجأني بكونه رجلاً كبيراً بالفعل, ليس على المستوى الثقافي وحده, بل على المستوى الأخلاقي أيضا, إذ أجاب ببساطة عميقة:
  • لم أكن أنا الذي اقترحت الفكرة, فقد بدت من المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت منذ الأيام الأولى لإنشائه عندما كان أمينه العام الأستاذ أحمد مشاري العدواني, وبدأت بإعلان من المجلس يطلب من كل المثقفين العرب عرض مشروعات ثقافية ينفذها المجلس الوطني, فكان اقتراح إنشاء سلسلة كتب شهرية.

          ولما لاقى الاقتراح موافقة قدمت مشروعاً يعتبر دستوراً لتسير عليه السلسلة في المستقبل, واقترحت على الأستاذ العدواني اسم السلسلة, فاقترح أن أكون مشرفاً عليها كمستشار علمي, وبدأنا في يناير 1978.

          ومنذ البداية كنت ألقى عونا عظيما من المجلس خاصة الأستاذ العدواني والدكتور سليمان العسكري والدكتور خليفة الوقيان, إضافة للأستاذ صدقي حطاب. كل هؤلاء كونوا أسرة متعاونة متضامنة لا تستهدف إلا إعلاء الثقافة في الكويت والعالم العربي. وبدأت السلسلة بتشكيل هيئة تحرير من المثقفين المرموقين في الكويت وكانت الأعباء موزعة على هيئة التحرير جميعاً.

  • الحديث عن توزيع الأعباء يعني بداهة وجود منهج أو نظام عمل لإنجاز أعداد السلسلة, فماذا عن هذا المنهج أو النظام?
  • نظام العمل يبدأ بأن يتقدم أي كاتب باقتراح للتأليف أو الترجمة يُعرض على مستشار السلسلة أولا لتتم عملية تصفية للاقتراحات غير الجادة, وبعد ذلك تُعرض بقية الاقتراحات على هيئة التحرير في الاجتماعات الدورية وترسل الموافقات إلى أصحاب الاقتراحات المقبولة. ونظرا لجدية السلسلة كانت الاقتراحات تتدفق من أقطار عربية عديدة ومازالت السلسلة تتعامل مع مؤلفين من كل أنحاء العالم العربي.
  • هل كان ذلك يعني أن السلسلة تعتمد على ما يرد إليها من اقتراحات, من خارجها, بينما الاقتراحات أو التصورات لمحتويات السلسلة لا تشارك فيها هيئة تحرير السلسلة?
  • لا. لقد كان لدينا دائما هذان الخياران, لكن بالنسبة للخيار الثاني, في بعض الأحيان كنا نحاول الاتصال بأشخاص محددين لطلب التعاون بالتأليف والترجمة, ولكن هذه الطريقة فشلت والسبب في ذلك أن كل مؤلف يكون مشغولاً ببحوثه الخاصة وليس من السهولة أن يترك أبحاثه ويقدم ما تطلبه السلسلة, فإذا قدّم هو اقتراحاً مقبولاً يكون هذا أسهل وأدعى للتعاون مع السلسلة.
  • لقد تصورت أن هناك مخططاً لتغطية جوانب ثقافية بعينها, وتناسق وتنوع موضوعات الكتب يوحي بذلك, فمن أين يأتي هذا التناسق والتنوع إذن?
  • كانت ولا تزال هناك مبادئ معينة تسير عليها السلسلة وتحاول أن تطبقها في كل ما تنشره, فهي تنشر الأبحاث والدراسات المتقدمة في ميدانها وتحاول أن تزود القارئ دائما بالجديد في العلوم الطبيعية والإنسانيات. وعندما يتراكم رصيد كاف من الكتب نحاول أن نرتبه ترتيباً منطقياً, أما عندما تكون المسألة (من اليد للفم) نضطر إلى اتباع نظام الترتيب حسب تواريخ ورود الكتب. والذي أستطيع قوله في هذا الصدد هو أن المؤلفين العرب متكاسلون في الكتابة إلى حد بعيد, فنحن نعاني قلة الكُتب المؤلّفة على عكس الحال في مجال الترجمة. ويبدو أن الأزمات العربية المتلاحقة قد أجهدت أذهان المؤلفين.
  • قد يكون هذا ليس تكاسلاً ولا إجهاداً, بل عدم استطاعة أو عدم قدرة على ملاحقة مستجدات الثقافة التي باتت مرتبطة بقفزات علمية وتقنية تأتي من خارجنا غالبا?!
  • بالنسبة لمتابعة التطورات الجديدة فلا شك أن لدينا كثيرا من الباحثين الذين يستطيعون متابعة الجديد في تخصصاتهم لكنهم يرسلون اقتراحات مغرقة في التخصص وهذا على عكس شرط السلسلة أن يكون الكتاب موجها للقارئ العام وليس المثقف المتخصص. تأتينا الكثير من اقتراحات كأنها مُقَّدمة لهيئة علمية. نحن نقدم كتاباً لطبيب أو مهندس يريد أن يثقف نفسه وهؤلاء لا يستطيعون تحمل الكتب التي لا يحتملها إلا الباحثون في الميدان نفسه. ومن المعروف أن تأليف كتب تقدم المعلومات العلمية الحديثة المتعمقة بأسلوب مُيسّر للقارئ غير المتخصص هو من أصعب الأمور.

الحاجة إلى الترجمة

  • لكن الكتب المترجمة في السلسلة على أي حال باتت تقوم بما لم يقم به مؤلفونا, ومن الملاحظ أن الكثير منها حديث ويلبي احتياجات ثقافية مستجدة, كيف تأتّى ذلك?
  • هناك كثير من الكتب المترجمة كنت أنا الذي اقترحتها لأنني بحكم سفري كل عام إلى لندن في الصيف حيث أقضى عدة أشهر, فإنني أستطيع أن أقتني العديد من الكتب الجديدة وأجلبها معي وأرشح منها ما يستحق الترجمة. كما أن المترجمين يقدمون مبادرات, لأن معظمهم من المثقفين الكبار والمجتهدين. وآلية الاختيار تتم كالآتي: أولا أقوم بفحص عينات تشكل صفحات قليلة من الترجمة المقترحة, ومن هذا الفحص الأولي يستطيع الإنسان بحكم الخبرة أن يحدد إذا كان المترجم مقتدرا أم لا. وفي بعض الحالات نقوم بتحديد مُراجع لتلافي بعض الأخطاء التي يمكن أن يقع فيها المترجم, حتى لو كان خبيرا. أما الاختيارات والترجمات التي لا تكون مناسبة أو مقبولة فهذه من الأفضل استبعادها من البداية.
  • ثمة ملاحظة أراها جديرة بالإبراز وهي خلو كتب عالم المعرفة من الأخطاء المطبعية واللغوية التي باتت من (شروط) نشر الكتاب العربي في السنوات الأخيرة, فمن يقوم بهذه (التقنية) لشوائب اللغة والطباعة?
  • هناك مصححون أكفاء, كما أننا نتعامل مع أشخاص بارزين في ميادينهم - من مؤلفين ومترجمين - وهؤلاء يحرصون على اللغة, وعندما كانت حال عيني تسمح, فإنني كنت أمسك الكتب وأدققها بنفسي.

          (فور أن ذكر الدكتور فؤاد زكريا ذلك, تداعت إلى ذاكرتي صورة تمثل شهادة شاهد عيان على ممارسته الفعلية لعملية التدقيق اللغوي والتصحيح الطباعي هذه, وهي عملية من النادر أن يقوم بها رجل بحجم فؤاد زكريا, لكنني رأيته يقوم بها, ويتوقف عند كل جملة بل كل كلمة, فقد استدعاني بعض الأصدقاء لرؤية الدكتور فؤاد زكريا وتقييم حالته الصحية العامة لخوفهم عليه, وبالرغم من ارتفاع ضغط الدم الواضح الذي ناظرته مع أعراض أخرى, فقد رأيت الدكتور فؤاد زكريا يراجع أحد كتب عالم المعرفة وكأنه من العاملين في جهاز التصحيح, بحرص وانفعال ودقة مرهقة!).

مرتكزات أخلاقية

  • د. فؤاد... لك رأي مقتحم في مسألة الأصالة والمعاصرة, حيث تقطع بأن كل ما هو ملائم لترقية حياتنا يكتسب قوة الأصيل, وبالتالي تنسف هذا الصراع - الذي تعتبره مصطنعا - بين الأصالة والمعاصرة. هل كان لرأيك ذلك تأثير على اختيارات عالم المعرفة?
  • في الواقع إنني لم أفرض أي رأي خاص بي على السلسلة, وكل ما كنت أشترطه عند الفحص أن يكون الكتاب مفيدا للقارئ العربي في وقته. وفي كثير من الأحيان كنت أوافق على كتب ضد آرائي الخاصة لشعوري بأنها مفيدة, وحاولنا أن نوفق بين تقديم أحدث المعلومات المعاصرة وأن نعرّف القارئ بالكتب الأصيلة التي تعرّفه بالذات العربية, وبالنسبة لي فإنني لم أنشر في السلسلة غير كتاب واحد هو (التفكير العلمي) الذي لاقى نجاحاً يؤكد ضرورة نشره.
  • ثمة مرتكزات أخلاقية ثقافية وإدارية ترتبط بنجاح أي مشروع ثقافي, خاصة إذا تواصل هذا النجاح على امتداد ربع قرن من الزمان كما هو حال سلسلة عالم المعرفة. هل يمكننا تلمّس حدود هذه المرتكزات?
  • من أهم المعايير الأخلاقية التي طُبقت في عالم المعرفة عدم الخضوع للوساطات وهي آفة أي مشروع ثقافي في العالم العربي ومثلها العلاقات الشخصية. وهناك معيار عام آخر, وهو نقطة بيضاء يذكرها التاريخ الثقافي العربي للكويت, فلم يكن هناك أي تدخل سلبي أو إيجابي, فالكتب كانت تُنشر دائما بكل حرية, وهذا جعل من السلسلة (موسوعة جامعة) وهو في رأيي التعبير الأدق عن السلسلة, ويمكن وصفها أيضا بأنها نوع من (الجامعة الشعبية) وكثير من القرّاء يعترفون بهذا في رسائلهم التي تصل إلى السلسلة. وبطبيعة الحال, فإن السعر الزهيد والطباعة الجيدة ومراعاة الناحية الجمالية, كل هذا ساعد على نجاح السلسلة. وكما تعرف هناك سلاسل كثيرة في العالم العربي كسلسلة (اقرأ) التي كان يكتب فيها طه حسين والعقاد, ثم بعد ذلك لم تعد تؤدي أي دور ثقافي الآن. بينما كان كتاب اقرأ ينتظره الناس كل شهر كما ينتظرون عالم المعرفة الآن والتي توزع بنسبة 100% وهي نسبة يصعب أن تصل إليها أيّ من المطبوعات الثقافية العربية الرفيعة.
  • في عالم متغير بإيقاع بالغ السرعة, ثمة أدوات ووسائل جديدة للمعرفة غير الكتاب المطبوع, هناك الكتاب المقروء والكتاب الالكتروني والإرهاصات التي مهّدت له, وهي بذاتها تطرح نفسها كبديل للاختيار في مواجهة الكتاب المطبوع, ومنها أيضا الأقراص المدمجة والتصفّح عبر الإنترنت, ما هو موقف سلسلة عالم المعرفة من هذه الوسائل التي تثير بدورها أسئلة جانبية عن العولمة والهوية, عن عودة الشفاهية إلى الثقافة, ماذا ترى في هذا كله?
  • أعتقد أن الوسائل الجديدة ليست شفاهية بدرجة مطلقة, وهي تجمع بين الشفاهية والكتابية في آن, وأؤمن أن الكتاب (المطبوع) سيظل محتفظا بمكانته كمصدر أساسي للمعرفة طوال القرن الحالي (الواحد والعشرين) على الأقل. ومادامت السلسلة (عالم المعرفة) متاحة بصورتها الحالية لمجموعة كبيرة من القراء, فأنا لا أدعو لوضعها على قرص مدمج مثلا, لأن هذا سيجعل قرّاء السلسلة يقتصرون على مَن يمتلكون الكمبيوتر, بينما هي بشكلها الحالي ككتب مطبوعة متاحة لأعداد كبيرة من القراء العرب وبأسعار زهيدة. أما مسألة العولمة فإنني أرى أن العولمة يمكن أن تؤكد الهوية, فلكي يكون لك كيان في هذه العولمة الشاملة لابد أن تتمسك بهويتك أكثر.

آمال وصعوبات

  • ماذا عن الآلام والآمال في عالم المعرفة? ماذا عن الصعوبات? وكيف يمكن إزالتها لتستمر السلسلة أبعد من ربع القرن الذي قطعته بنجاح?
  • الصعوبات تمثلت في الحساسيات الشديدة في بعض الأقطار العربية فيما يتعلق بسياساتها وأمورها الخاصة. بعض أعداد السلسلة صودر لمجرد إشارات طفيفة لا تحمل أي إساءة لأقطار عربية معينة, وانتشار الثقافة يقتضي تسامحاً أكثر من ذلك, أما الآمال, فهي أن يستمر التدقيق العلمي والموضوعي في الاختيار ويتزايد التعاون بين الجهاز الإداري والسلسلة. وأكرر أن عدم تدخل الدولة في الكويت في مسار السلسلة سيظل نقطة بيضاء يحمدها التاريخ الثقافي لهذا البلد.

 

محمد المخزنجي   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




د. فؤاد زكريا