قراءة في سلسلة (عالم المعرفة) الكويتية
صدر العدد الأول من سلسلة (عالم المعرفة) عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت في يناير 1978 بعنوان (الحضارة) تأليف د.حسين مؤنس, وذلك بإشراف أحمد مشاري العدواني, وقد قاربت أعداد هذه السلسلة الآن الثلاثمائة. والسلسلة ليست مجلة وإن كانت كالمجلة تحمل عنوانًا ثابتًا ورقمًا متسلسلاً مؤرّخًا. وحين نواجه سلسلة إصدارات كهذه السلسلة لابد من أن نبحث عن الغايات التي تهدف إليها, وعن الهمّ الذي تحمله, لأننا لا نستطيع معرفة قيمة هذه السلسلة من دون معرفة الداء الذي شخّصته واشتغلت على الشفاء منه, وقراءة عجلى لعناوين السلسلة تجعلنا ندرك الأفق الذي تتحرك فيه والمشكلة التي تعالجها.
فالأمة, ومنذ قرون, منقطعة عن تراثها, قاعدة عن المشاركة في صناعة الثقافة العالمية, وإذا كنا غير معنيين, في هذه العجالة, بتحديد أسباب هذه الأزمة والعوامل التي أنتجتها, فإننا معنيون بالمحاولات التي جرت لمعالجتها. علت أصوات كثيرة ومتلاحقة منذ مطلع عصر النهضة, معلنة النفير لمواجهة الأزمة, محاولة تشخيصها وتحديد سبل معالجتها. ولعل المشكلة الأبرز التي واجهت هؤلاء الدعاة في أثناء تصدّيهم للمعالجة متعلقة بالموقف من الثقافة الغربية قبولاً أو رفضًا.
من بدهيات القول, إن الغرب قد قبل ثقافتنا الزاهرة كما هي, حين كنا متقدمين وكان متخلّفا, فكان له أن تقدم تأسيسًا عليها. فهل جاء دورنا لنقبل الثقافة الغربية المتقدمة كما هي? وهل سنتقدم تأسيسًا عليها? يترتب على هذين السؤالين أسئلة أخرى تتعلق بتراثنا, وتثير شجون التغرّب وشئونه, إن حساسية العلاقة مع الثقافة الغربية مسألة شائكة وشديدة التعقيد تطال النظرة إلى مادية تلك الثقافة كما تطال الانقطاع التاريخي عن تراثنا المتجمّد عند حدود القرن الخامس للهجرة/الحادي عشر الميلادي. إنّ تراثًا كفّ, لأسبابٍ متنوعة, عن مواكبة الحياة منذ ما يزيد على عشرة قرون لا يصلح أن يكون, كما تحدّر إلينا, حلاً لأزمتنا, والتغرّب في المقابل لا يصلح وحده أن يكون حلاً لها, لأن الثقافة الغربية, بما هي عليه, هي إجابة عن أسئلة تتعلق بالحياة الغربية, وحلول لمشكلات وتحديات واجهت الغربيين في أثناء ممارسة الحياة, ويعني ذلك أنّ هذه الثقافة لا تستجيب لكلّ مطالب حياتنا. وتدفعنا هذه الحقيقة إلى البحث عن حلّ مناسب للعلاقة معها, حلّ يشكل خطوة على طريق الخلاص من أزمتنا, والذي لاشكّ فيه أننا بحاجة إلى المعرفة التي أنتجها الغرب, وإلى منهج في التفكير في سياق تلك المعرفة, كما أننا بحاجة إلى معرفة بتراثنا وإلى منهج نقدي نواجه به ذلك التراث.
وإذا كان الانتساب إلى المرحلة التاريخية الحالية غير ممكن ما لم نتصل بما يجري داخل الحياة الثقافية العالمية, بات لزامًاً علينا أن نلمّ بالثقافة الغربية من ألفها إلى يائها, ليس تحصيلاً للمعرفة فحسب, ولكن لكي نتمكن من أن نقف منها الموقف النقدي الحواري اللازم.
وسلسلة (عالم المعرفة) التي وعت واقعنا الثقافي, ونظرت بعين ثاقبة إلى المرتجى, قد أولت الثقافة الغربية عنايتها من دون أن تهمل تراثنا, ويدلّ ذلك على أنها قد أقامت العلاقة المناسبة التي لابد منها مع تلك الثقافة, أجرت معها الحوار الممكن المرتكز على المقومات الأساسية لشخصيتنا الإنسانية الثقافية, كما ظهرت في تراثنا يوم كان في أبهى تجلياته, عنيت القرون الهجرية الخمسة الأولى. وهذا التوجه لدى السلسلة دليل قوي على أنها قد سعت إلى إقامة توازن حقيقي داخل ذاتنا الواعية, فهل يعني ذلك أن أزمتنا قد وُضعت على طريق الحلّ?
إنّ أزمة بعمق الأزمة التي يعانيها المجتمع العربي هي أكثر تعقيدًا وأبعد منالاً من همّ تحمله مؤسسة وطنية تُعنى بسلسلة من الكتب تريد من خلالها إعادة تشكيل وعينا وحضورنا المعرفي والثقافي. ومع ذلك فالعمل جهد كبير ومحاولة جادة لكشف الظلمة عن زاوية من زوايا وجودنا الحضاري المعتم.
ولكي نتعرّف حقيقة الهمّ الذي تحمّلته, والدور الذي أدّته حتى الآن, لابد من أن نمرّ على القضايا والمشكلات الثقافية والسياسية التي تناولتها.
ويأتي تحديث العقل العربي على رأس اهتمامات هذه السلسلة, فوجود تسعة عشر عنوانًا (كتابًا) بين أعدادها ]من مثل: (التفكير العلمي), و(ظاهرة العلم الحديث), و(بنية الثورات العلمية), و(فجر العلم الحديث) بعدديه, و(فلسفة العلم في القرن العشرين)[, موضوعها التنظير للعلميّة له دلالته, فمثل هذه العناوين مثار لموضوع حسّاس قوامه وظيفة العلم ودوره في زماننا الراهن. إن (التفكير العلمي) يتعدّى العلوم البحتة ليخترق جميع أنواع العلوم الأخرى بما فيها العلوم الإنسانية. وقد وُضعنا في سياق نقد أدبي علمي, ودراسات لغوية علمية, ناهيك عن علم للنفس, وعلم للاجتماع, وعلم للتاريخ وغيره. يعني أنه قد صار للعلم فلسفة ووجهة نظر للسيطرة على الدراسات والأبحاث أيّا كان موضوعها, وأيّا كانت مادتها المدروسة, حتى غدت الفلسفة نفسها مع الفلسفة الماركسية فلسفة علمية. ولم تبق وظيفة العلم عند هذه الحدود, بل تعدّتها إلى دور أساسي في تغيير الحياة (رؤى مستقبلية.. كيف سيغيّر العلم حياتنا), وإذا ما تعرّضت وظيفة كل من العقل والعلم إلى الانتقاد من خلال بعض مناهج التفكير المتأخرة (التفكيكية) انبرى خطّ الحداثة ليتشبّث بمواقعه مدافعًا عن العلم والعقلانية من خلال كتاب (أسطورة الإطار.. دفاع عن العلم والعقلانية).
وإذا أضفنا إلى هذه المجموعة المنظّرة للعلمية مجموعة أخرى قوامها أحد عشر عنوانًا موضوعها العقل والإبداع, أدركنا الوعي العميق والدقيق بالدور الذي اضطلعت به هذه السلسلة, فعناوين من مثل: (تشكيل العقل الحديث), و(عقول المستقبل), و(العبقرية تاريخ الفكرة), هي دراسات نظرية تبحث في طبيعة العقل وخطورة دوره, وتشكّل علامة ذات دلالة عميقة على الإيمان بقطبية هذه الملكة الإنسانية.
وإذا كنا نعرف أنّ الحداثة الغربية قد قامت على عنوانين أساسيين هما: العقل والعلم, العقل إماما حقيقته الحقيقة وباطله الباطل, والعلمُ مخترقًا جميع حقول المعرفة, أدركنا أن إنتاج حداثة عربية هو همّ كبير وأساسيّ من هموم هذه السلسلة.
والتطلّع إلى هذه الغاية المركزية في حياتنا الثقافية لم يكن تطلّعاً رومانسيًا حياديًا, فقد وجّهت السلسلة عنايتها إلى العلوم البحتة لما لها من دور في تمكيننا من التقنيات اللازمة للوقوف إلى جانب الآخرين في ساحة الصراع العالمية.
اهتمت بعلم الأحياء والجينوم والهندسة الوراثية عبر أحد عشر عنوانًا وضعت أمام أعيننا المشكلات الأساسية التي أثارها هذا العلم وهو يطفر بقفزات نوعية في عصرنا الراهن. (البيولوجيا ومصير الإنسان), و(الوراثة والإنسان), و(التنبؤ الوراثي), و(علم الأحياء والأيديولوجيا), و(الطبيعة البشرية), و(الهندسة الوراثية والأخلاق), و(الشفرة الوراثية للإنسان), و(الجينوم), و(العصر الجينومي). وتدلّ هذه العناوين على الشوط الكبير الذي قطعته البشرية في بحثها عن أسرار الحياة وعن كيفية التحكم في مساراتها.
ولا تشير عناوين المجموعة الطبية من هذه السلسلة (سبعة عناوين) إلى موقف حيادي. فعدا العناوين ذات الطابع العلمي البحت من مثل (الحشرات الناقلة للأمراض), و(الميكروبات والإنسان), هناك عناوين تفصح بوضوح عن موقف انتقادي للطبابة القائمة على الأرض. وإذا ما حمل كتاب (أمراض الفقر. المشكلات الصحية في العالم الثالث), همّا إنسانيًا مرتكزًا على انقسام العالم إلى مجتمعات متقدمة وأخرى متخلفة, شكّل كتاب (الطب الإمبريالي والمجتمعات المحلية), اتهامًا واضحًا للمجتمعات المتقدمة في تعاملها الطبي مع المجتمعات المتخلفة.
ولا يطغى الهمّ العلمي وحده على العناوين المتعلقة بعلم الفلك, فإلى جانب الكتب العلمية البحتة من مثل (الطريق إلى المريخ), هناك عناوين عالجت مشكلة الإنسان ومخاوفه حيال فضائه الخارجي: (الكون والثقوب السوداء), و(النهاية - الكوارث الكونية), فالهدف ليس معرفيًا فحسب, ولكنه يطل على هموم القارئ العربي المتعلقة بوجوده في هذا الكون الوسيع.
وإذا اتخذت كل من الرياضيات والمعلوماتية والطاقة منحى علميًا بحتًا, أطلت التكنولوجيا على همّ إنساني متعلّق بتسابق المجتمعات المتقدمة نحو امتلاك الآلة الأكثر تطورًا بوصفها (قوة وسلطة).
ويبقى أن إيلاء العلوم البحتة مثل هذه العناية الخاصة مرتبط بهمّ واضح هو الاتصال العربي بما يجري في الحياة العلمية على صعيد العالم.
والاهتمام بحداثة الإنسان العربي يقتضي الاهتمام بالانتماء الإنساني من ناحية, وبمستقبل الإنسانية على الأرض من ناحية ثانية. وكان ذلك من خلال ثمانية كتب تنبئنا عناوينها من مثل: (العالم بعد مائتي عام), و(مستقبلنا المشترك) بإيمان عميق بما هو إنسانيّ. والمنحى الإنساني ليس إشارة حداثية فحسب, ولكنه إشارة تقدّمية, وتهدف مثل هذه الكتب إلى تعميق الانتماء الإنساني لدى القارئ العربي.
والحديث عن التوجه الإنساني لهذه السلسلة يجرّنا إلى الحديث عن الروح الحوارية التي دعت إليها, وتقتضي الحوارية تقديم فكر الآخر بما هو عليه, والآخر هنا هو الآخر الغربي بشكل أساسي, لأنه المنتج الأساسي للفكر والمعرفة. لذلك لم تكتف السلسلة بتقديم كتابين عن (حكمة الغرب), بل تعدّت ذلك إلى أهمّ ما يمثّل الفكر الغربي راهنا, عنيت (الوجودية) و(الموت في الفكر الغربي). ولم تقف عند هذا الحدّ, وإنما سلّطت الضوء على (الفلسفة المعاصرة في أوربا), وإذا كانت هذه الكتب الأربعة غير كافية لتقديم الحياة الفكرية الغربية, فإنها قدّمت لنا الأساسي فيها, وهذا كافٍ بالنسبة إلى سلسلة تحمل همّا ثقافيًا عامّا يطال نهضة الأمّة. وإذا كان الفكر الذي أنتجه شعب من الشعوب - الغرب هنا - هو المحرّك الأساسي لسلوكياته وتوجهاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية, فإن تقديمه إلى المثقف العربي هو بمنزلة دعوة له لمحاورة ذلك الفكر, وصولاً إلى قبول ما يُقبل منه.
والسلسلة التي اتجهت إلى بناء المثقف العربي الحديث لم تسقط العلوم الإنسانية من حسابها. لذلك وجدنا فيها عشرين كتابًا عن الاقتصاد, وتسعة عشر عن علم النفس, وسبعة عشر عن العلاقات الدولية, واثني عشر عن علم الاجتماع, وثمانية عن التاريخ, وخمسة عن التربية, وثلاثة عن الإعلام, واثنين عن القانون, وكتابًا واحدًا عن الإناسة.
وتشكّل هذه الحصيلة علامة دالّة على أهمية هذه العلوم, في حياة الإنسان المعاصر, فهي موضع الحساسية في الصراع الدائر الآن بين العولمة ومناوئيها. العولمة نظام اقتصادي سياسي اجتماعي نفسي, وكذلك الحركة المناوئة.
ولا تنفصل الحقول المعرفية الآنفة عن قضية الثقافة ووسائطها. ولذلك وجدنا ما يقارب عشرة كتب تعالج المشكلات الثقافية من مثل: (تاريخ الكتاب) (1-2) و(الشفاهة والكتابية), و(نظرية الثقافة) و(لماذا انفرد الإنسان بالثقافة?), و(الثقافة العربية وعصر المعلومات), فعناوين كهذه كفيلة بوضع أصبعنا على الآلية الدقيقة التي حكمت تطوّر الحياة الثقافية.
فالكتاب نقلة من الشفاهة إلى الكتابية خطت بالثقافة البشرية خطواتها السريعة المطردة نحو الدقة والعمق والشمول. وإذا كانت أزمة مجتمعنا أزمة ثقافية بالدرجة الأولى, أعانتنا هذه المجموعة على الوعي بها, وأخرجتنا من دائرتها.
ولم تغفل هذه السلسلة (الآداب والفنون), لأنها لا تشكل جزءًا من الثقافة العامة لأمة من الأمم فحسب, ولكنها تتعدى ذلك الموقع لتشاطر الفلسفة في عملية إنتاج الفكر. وإذا ما أضحى الفيلسوف شاعرًا يجيد قراءة العالم بعين عقله, أضحى الفنان فيلسوفا يجيد قراءة العالم بعين انفعاله, فلم يعد الفنان نتاجًا للعفوية والمصادفة, صار نتاجًا للمرحلة الثقافية, وللثقافة نفسها. وأي شاعر أو أديب, أو فنان لا يلمّ بثقافة عصره لن يكون مبدعًا, وهو متطفّل على الساحة الثقافية. فالمبدعون, في مرحلة ثقافية ما, هم حاجة من حاجات تلك المرحلة, ونتاج لها, وضالعون بما هو حسّاس فيها. ولعلّ رؤية القائمين على هذه السلسلة آخذة بهذا الاعتقاد إلى أبعد حدوده. ويأتي اهتمامهم بالنقد الأدبي داخل هذا السياق. فعناوين تتجاوز الإثنى عشر من مثل (مفاهيم نقدية), و(بلاغة الخطاب وعلم النص), و(المذاهب الأدبية والنقدية), و(البنيوية وما بعدها), و(مدخل إلى مناهج النقد), و(المرايا المحدّبة, من البنيوية إلى التفكيك), و(المرايا المقعّرة, نحو نظرية نقدية عربية), تدلّ على همّين أساسيين: الهمّ الأول اتصال المثقف العربي وخصوصا المبدع بالثقافة النقدية الغربية الراهنة. والهمّ الثاني البحث عن نظرية نقدية عربية متصلة بالتراث, تكون بمنزلة المشاركة العربية في الإنتاج العالمي. و(المرايا المحدّبة), و(المرايا المقعّرة), كلاهما يفصح عن هاجس المثقف العربي الذي ما فتئ يبحث عن ثقوب الضوء في عتمة حياتنا الثقافية. وما دمنا نتحدث عن دور هذه السلسلة في إذكاء الحياة الثقافية النقدية عندنا, لا بد من الوقوف عند كتاب (شعرنا القديم والنقد الجديد) الذي يعبّر عن استجابة حقيقية للأسئلة الحساسة التي تطرحها المرحلة الثقافية علينا.
وإذا كان النقد الأدبي فاعلية تابعة للأدب, وجب على هذه السلسلة أن تهتم بالأدب, الأدب العربي: قديمه (ستة كتب), وجديده (ستة كتب أيضًا), شعرًا, ونثرًا, والأدب العالمي قديمه وجديده, خصوصًا في القارات الثلاث: أوربا وأمريكا وإفريقيا (اثنا عشر كتابًا). والتوازن العددي بين الكتب المتعلقة بالأدب العربي, وتلك المتعلقة بالأدب العالمي لا يعني وضع الأدب العالمي في دائرة اهتمام موازية لتلك الخاصة بالعربي, ولكنه يعني أن الرافد العالمي يجب أن يصبّ في بحر أدبنا ليغتني به فكرًا ومادة وتقنيات.
ولا يكتمل قوام الثقافة الأدبية من دون الثقافة اللغوية التي خُصّص لها ثمانية كتب حتى الآن وهي كتب تقدّم معرفة عامة حينا من مثل: (أضواء على الدراسات اللغوية المعاصرة), و(موجز تاريخ علم اللغة في الغرب), ومعرفة متخصصة حينًا آخر مثل: (سيكولوجية اللغة والمرض العقلي), و(اللغة والتفسير والتواصل), و(اللغة والاقتصاد), والاهتمام باللغة, المادة التعبيرية الأساسية لكل من الأدب والعلم لا يمكن تفسيره إلا من خلال الهمّ المتعلق بتحديث الحياة الثقافية العربية.
واهتمام السلسلة بالأدب لم يكن على حساب الفنون الأخرى. فقائمة الكتب التي صدرت عن تلك الفنون طويلة (ستة عشر كتابًا تقريبًا) توزعت على المسرح (ستة كتب), والتصوير (خمسة كتب), والموسيقى (أربعة كتب), والسينما (كتاب واحد).
وهي فنون شديدة الاتصال بحياتنا المعاصرة. والموضوعات التي عولجت متخصصة حينًا من مثل (المخرج في المسرح المعاصر), و(القومية في موسيقى القرن العشرين), وعامة حينا آخر من مثل: (المسرح في الوطن العربي), وهي تهدف بشكل أساسي إلى الارتقاء بفنوننا لتحتل مكانها اللائق إلى جانب الفنون العالمية.
ويبقى أنّ الهمّ الذي تراءى لنا من خلال هذه السلسلة لا ينصبّ على الثقافة الغربية بماهي حاملة للمعرفة الحديثة فقط, ولكنه يتجه إليها بوصفها حاجة عربية في مرحلة وقف فيها العرب عاجزين عن إنتاج ثقافتهم. فلا أجوبة شافية لديهم عن الأسئلة الحرجة التي يطرحها الإنسان العربي على نفسه, ولا حلول للمعضلات الهائلة التي تواجههم. لا يوجد خيار بين ثقافتين أمامنا. خيارنا الوحيد هو بين الثقافة المتوافرة, وانعدامها. لذلك, وجدت السلسلة نفسها أمام تحدّ من نوع مختلف. كيف تعصم المثقف العربي من التغرّب? لم تجد سبيلا سوى الرجوع إلى تراثنا تثير مشكلاته من أجل إقامة حوار بينه وبين الثقافة الغربية وفي ظروف غير متكافئة فعلاً. ولكنه الخيار الوحيد المتوافر. والكتب التي قاربت الاثني عشر كتابًا لا تقدم العبقرية العربية التراثية فحسب: فنية كانت (تراث الإسلام) (1 ـ 2) أم علمية (مقدمة لتاريخ الفكر العلمي في الإسلام), ولكنها تبحث عن قيم فكرية وثقافية وحضارية أيضا (مفاهيم قرآنية). ولا تقتصر هذه الكتب على الجانب المشرق وحده, فقد كشفت السلبي مرة (جذور الاستبداد) والمشكلات الاجتماعية في حياتنا مرة أخرى (حكايات الشطّار والعيارين في التراث العربي). ويعني تقديم التراث بحلوه ومرّه عملية مكاشفة علنية مع الذات من أجل وعي أفضل في أثناء الحوارية التي يجريها العقل العربي الآن مع الثقافة الغربية.
وعملية المكاشفة مع الذات في هذه السلسلة موزعة على مجالات عديدة: التراث والأدب والفن والاقتصاد والسياسة والمجالات التكنولوجية والعلمية. ولعل أهمها على الإطلاق تلك التي تناقش وضعنا الراهن ومستقبلنا. والمتفحص لمثل تلك العناوين يجد إلحاحًا بيّنا على إبراز التحديات التي تواجه العرب: فكرية, وسياسية, وثقافية, وتقنية. ويعني ذلك معرفة بسبل الخلاص التي تغرينا بسلوكها. ولا يعني ذلك أن هذا النوع من المؤلفات هو مجرد دعوة فحسب, ولكنه تحليل لواقعنا الفكري والسياسي أيضًا (تحولات الفكر والسياسة في الشرق العربي 1930 - 1970). وهو إلى ذلك تحديد لحاجاتنا الأساسية, (حاجات الإنسان الأساسية في الوطن العربي), من دون أن ينسى موقع الثقافة العربية في عصر المعلومات. وذلك من خلال كتاب (الثقافة العربية وعصر المعلومات. رؤية لمستقبل الخطاب الثقافي العربي).
وإذا كان العقل الذي خطط لهذه السلسلة مهمومًا بهذا القدر فيما يتعلق بالمشكلات والمعوقات الأساسية الخاصة بالإنسان العربي وبحياته ومستقبله, فإنه لن ينسى المشكلة الكبرى التي تستقطب كل المشكلات الأخرى وتجعلها دائرة في فلكها. عنيت بذلك القضية الفلسطينية. كانت هذه القضية مدعاة لإصدار مايقارب عشرة كتب.
والمراقب لعناوين هذه المجموعة يجد تشريحًا وافيًا للعدو الإسرائيلي بطريقة تفكيره (الأيديولوجيا الصهيونية) (1 - 2), ومشاريعه المترتبة على تلك الطريقة (مشاريع الاستيطان اليهودي), وما يتصل بذلك من بنية الشخصية اليهودية, والقوى الرئيسية الفاعلة في إسرائيل, والهوية.
وإذا ما قدّمت قراءة عناوين السلسلة مثل هذه الدلالات, فإن قراءة أسماء المؤلفين تقدم دلالة لا يُستهان بها. فلو أخذنا أي حقل معرفي من الحقول التي عولجت لوجدنا أسماء المؤلفين فيها أسماء متخصصة مشهودًا لها بطول الباع في مجالها. والتمثيل بالكتب الأدبية والنقدية يشكل مصداقًا لهذا القول: فأسماء إحسان عباس وعبدالعزيز حمودة ونايف خرما وصلاح فضل وعبدالرحمن بدوي ومصطفى ناصيف ووهب أحمد رومية وعبدالملك مرتاض هي أسماء أساتذة الجيل في اختصاصاتهم, تُعدّ مؤلفاتهم حجة في بابها يفيء إليها الناهلون بكل ثقة وطمأنينة.
وإذا كان تسلسلُ صدور الكتب المنتمية إلى (عالم المعرفة) غير ممنهج أو متناسب مع الحاجة المعرفية للأمة بما فيه الكفاية, فإن مجموع الإصدارات يشكّل مكتبة كاملة تنتمي إلى رؤية واضحة إلى الواقع الثقافي العربي. فكلّ مثقف قادر على قراءة اثني عشر كتابًا في السنة. ومن يقرأ السلسلة كاملة يكن قد ألمّ بثقافة الإنسان المعاصر. صحيح أنّ بعضها شديد التخصّص ولا يُفهم إلاّ من قبل المتخصصين به, إلاّ أن العدد الأوسع من هذه الكتب موجّه إلى المثقف العادي الذي يمكنه أن يتمثل ما في هذه الكتب فتكون ثقافته ثقافة معافاة تقوم على الأساسيّ مما نحتاج إليه في حياتنا العامة.
ولقائل أن يقول إن ما جمعته هذه السلسلة موجود مفرقًا على شتى الاختصاصات المعروفة في جامعاتنا ومكتباتنا العامة. هذا صحيح. ولكنّ الأمر يختلف مع سلسلة (عالم المعرفة). هناك هموم معرفية متفرقة على اختصاصات. وهنا همّ ثقافي عام ينظر إلى أزمة الأمة ويحاول معالجتها. وليس الكتاب الذي يهدف إلى تقديم معرفة كالكتاب الذي يقدّم منهجًا لتحوّل الأمة, فيهيئها لتأخذ موقعها تحت الشمس.
وأن تُفتح السلسلة بكتاب (الحضارة), وأن يكون واسطة عقدها كتاب (الكويت والتنمية الثقافية العربية), يعني أننا أمام علامة مفتوحة تستوقف المثقف وتجعله ينظر إليها بكثير من التمعّن والانتباه, خصوصًا إذا وضع في حسابه أن كتاب (عالم المعرفة) شعبي بسعره, قومي بانتشاره, ديمقراطي بالرأي الذي يقدّمه.