منارة... وقدوة

منارة... وقدوة
        

          لا يسعني الحديث عن سلسلة (عالم المعرفة), التي أسهمتُ في إصداراتها بنصيب أعتز وأشرف به, إلا إذا تحدثت عن السياق العربي الذي نشأت فيه ويحيط بها. والسياق الذي أعنيه هو السياق الثقافي أو المعرفي العربي, مقارناً بما حولنا على صعيد عالمي, ومقارنًا بما يقتضيه عصر حضارة توصف بحق بأنها حضارة المعلومات واقتصاد المعرفة.

          الحياة في جوهرها الاجتماعي فعل من أفعال المعرفة, إنها نشاط وحوار معرفي تكيفي بين الأنا - الدنا - الجهاز العصبي, وبين الآخر - المجتمع - العالم, البيئة, في تفاعل يصوغ مجمل الإيكولوجيا, أو فعل جدلي وتغذية متبادلة. ومن هذا الفعل الجمعي المتبادل نشأت في البدء وتطوّرت اللغة, الفكر, وخطا الإنسان على طريق التقدم بفضل المعرفة المتزايدة تأسيسًا على العقل الذي هو حصاد التطوّر والإنجازات داخل دائرة التفاعل والتأويل, ونشأ وتطور الوعي الذي هو في آن واحد حياة ومعرفة.

          ولا تكون المعرفة معرفة, أي لا توصف بأنها معرفة, إذا ظل حصادها داخل إطار الانحصار الذاتي, وهو ما يتناقض مع الفعل كنشاط جمعي. وإنما المعرفة دائمًا نشاط وإنجاز للكل وإن تجسّدت في بللورات من الأنا المفرد. ولذلك فإن المعرفة للإنسانية وبالإنسانية, وكذلك فإن الإنسانية دائمًا داخل نطاق المعرفة يتطوّران معًا في تزامن مشترك. ولذلك فإن المعرفة وجود جمعي لا فردي, ووجود تاريخي زماني ممتد في تنوّع بامتداد الحياة, والمعرفة في زماننا ديمقراطية بقدر ما يتحقق لها من شيوع وقوّة وفعل.

          وليس غريبًا أن تكون المعرفة دائمًا وأبدًا معلمًا دالاً على الهوية يوصف بها أو ينسب إليها الشخص وتكون مناط ممارسته, وهي في عصر التعقّد والوجود الشبكي معلم دال على المجتمع المنتج المبدع لها, ومعلم على التميّز والتمايز حاضرًا ومستقبلاً بين المجتمعات. قديمًا فجوة المعرفة الأبجدية مرادف الأميّة, والآن الفجوة الرقمية مرادف التخلّف عن عصر المعلوماتية.... تخلف في الأداء والإنتاج والتوظيف والممارسة والإسهام والاستيعاب المعرفي, ونحن نسهم بواقعنا المتخلّف في اطراد تزايد اتساع الهوّة المعرفية بهجرة العقول إلى الخارج, وهي الظاهرة التي تسمى outsourcing لتكون العقول المهاجرة التي أنفق على تكوينها وتربيتها المجتمع قوة عمل وإنتاج في الخارج حيث المجتمعات المتقدمة.

          وتشير تقارير لمؤسسات دولية عدة إلى ظاهرة فجوة المعرفة وخطرها على المجتمعات. أذكر هنا تقرير منظمة اليونسكو عن التربية في العام 1993, الذي يقول: (لاتزال أدنى معدلات معرفة القراءة والكتابة في إفريقيا جنوب الصحراء وجنوب آسيا وعدد من الدول العربية). ويستطرد قائلاً عن فجوة المعرفة: (إن فجوة المعرفة بين الشمال والجنوب فجوة واسعة, وقليلة هي العلامات التي تشير إلى قرب زوالها, لاتزال فجوة معرفة القراءة والكتابة في الجنوب هي أبرز جوانب الفجوة الأعم, ونعني بها فجوة المعرفة بين الشمال والجنوب).

          وفي تقرير آخر للجنة الجنوب, يوضح ما يلي: (نحن نعيش في عصر يبرز فيه بمزيد من الوضوح دور الثقافة القائمة على العلم كعامل حاسم في وتيرة التغيّر الاجتماعي والاقتصادي, وفي هياكل القوى العالمية. وفي حين كان الجنوب في الماضي مهدًا لحضارات كبرى خصبة العطاء العلمي, فإن القسط الأعظم من المعرفة الحديثة يتولّد اليوم في بلدان الشمال... لذلك لابد لمجتمعات الجنوب كافة من أن تعمل بعزم وتصميم من أجل استيعاب التطوّرات التقانية والعلمية الحديثة وتطويعها, وأن تتمثلها كجزء من استراتيجيتها الإنمائية... والأساس الذي ينهض عليه تكوين قدرات علمية وتقانية في الجنوب يتمثل في توافر قوى عاملة متعلمة وماهرة تتاح لها الفرص اللازمة للتعليم المستمر واستيعاب المعارف والمهارات طوال حياتها العلمية المنتجة...). وتحقيقًا لهذا الهدف, يشير المؤتمر العالمي عن التربية للجميع 1990 إلى ما يلي (يمكن استخدام جميع أدوات وقنوات الإعلام والاتصال والعمل الاجتماعي المتاحة للمساعدة على نقل المعارف الأساسية وإعلام الناس وتثقيفهم بشأن القضايا الاجتماعية).

          وهنا يتبين بوضوح سبق سلسلة عالم المعرفة في العمل الجاد وعن وعي لإنجاز هدف: (نقل المعارف الأساسية وإعلام الناس وتثقيفهم), دون أن يقتصر الإعلام على القضايا الاجتماعية وحدها, بل اتسع نطاق الإنجاز ليشمل نقل المعارف العلمية على اختلاف فنونها.

          وتظهر لنا حقيقة الواقع المأساوي العربي إذا عرفنا أن أكثر من مليون عالم ومهندس عربي مغترب يشكّلون في دول المهجر المتقدمة إضافة علمية قيّمة في الشمال مثلما يمثلون خسارة لمجتمعاتهم التي لا توفّر مجالاً للإنجاز والتطوير.

عقل عربي جديد

          واستطرادًا لما سبق, أشير هنا أيضًا إلى مؤتمر اتصالات العالم العربي المنعقد في يونيو 2002 بالقاهرة, حيث أشار جان فرانسوا ريشار, نائب رئيس البنك الدولي, إلى أن العرب ليس لديهم سوى فرصة ضئيلة جدا للخروج من مأزق التخلف في مجال التقانة الرقمية التي تعتبر عماد (اقتصاد المعرفة).. وقال إن المطلوب عقلية جديدة, ونبّه إلى أن الاقتصاد العربي مازال يعتمد على النفط والسياحة والتحويلات المالية, أي اقتصاد ريع. واعتبر ريشار أن تجديدًا جذريًا في نظام التعليم العربي هو السبيل للخروج عمّا ثبت عليه خلال خمسين عامًا. وقال: (مطلوب نظام تعليمي يعتمد على حفز الإبداع والملكات المهنية العملية...).

          هذا وإن كنت أرى أن ليس المطلوب نظامًا تعليميًا قائمًا على المحاكاة, وإنما أن يكون النظام التعليمي استجابة لعملية تطوير حضاري, شاملا كل أركان وعلاقات الحياة في مجالات السياسة والثقافة والاقتصاد والتعليم والإعلام والتنشئة الاجتماعية والحريات... إلخ, أي تطوير اجتماعي يفضي إلى إعادة تشكيل جذرية للأساس المادي والمعنوي للمجتمع, ويفضي إلى التحوّل على طريق التصنيع في مستوى منافس داخل إطار حضارة العصر, وأن يأتي قرين ثورة ثقافية, والخروج من أسر وهم عقيدة الثوابت إلى عقيدة التغيير التي لا تعني قطيعة معرفية مع الماضي, ولكن اتصالاً حضاريًا تاريخيًا متنوعًا.

          إن التعليم والثقافة والمعرفة قد تكون جميعها قاطرة المجتمع للتغيير وقابلية التكيّف, والاستزادة المعرفية الإبداعية, وقد تكون علّة تحجر وجمود. والملاحظ حرصنا الشديد على أن تكون سياستنا التعليمية أداة للحفاظ على ما يسمى خطأ ثوابت الفكر والثقافة. وهنا يفضي هذا الحرص إلى تعطّل وظيفة أساسية للثقافة الاجتماعية, هي وظيفة تكفل دينامية الحياة الاجتماعية المتطوّرة. وأعني بذلك تعطّل دور الثقافة المتجدد كآلية استرجاع وتغيير موجه للسلوك وللبيئة الاجتماعية, ومن ثم تكون آلية تصحيح ذاتي دينامي متطور. إن العلاقات بين الثقافة والبنية الاجتماعية هي في حال السواء الاجتماعي عملية لا تنتهي من إعادة البناء وإعادة التفسير للرؤى الثقافية الحاكمة للسلوك وإعادة تفسير وتصحيح وتشكيل للبيئة وللسلطة وغيرهما من أدوات المجتمع. إن سياسة التعليم ومواد ومناهج التعليم على اختلاف المستويات هي آلية المجتمع للتطوير وبناء الإنسان أو تعظيم رأس المال الاجتماعي ورأس المال البشري.

عقبات معرفية وثقافية

          ولكن بيننا وبين الأمل - إذا كان التغيير هو الأمل - مسافات ومعارك يفرضها واقع الموروث في السياسة والاقتصاد والعلاقات والثوابت الثقافية... إلخ. وتشهد وقائع وإحصاءات الحياة العربية على ضرورة عقد العزم وتجميع الموارد والجهود, وتوحيد الإرادة للقضاء على السلبيات.

          إن إصدارات الكتب تأليفًا وترجمة في مجموع البلدان العربية لا يزيد على 6500 عنوان في السنة, ونحن في عصر المعلومات, وتعداد العرب أكثر من 250 مليون نسمة, هذا بينما جملة الإصدارات من اليابان تتجاوز عشرة أمثال ما نصدره, وتعدادها 126 مليون نسمة, وجملة إصدارات الولايات المتحدة أكثر من 68000 عنوان, وتعدادها 275 مليون نسمة, وجملة إصدارات إسرائيل 2310 عناوين, وتعدادها 5.8 مليون نسمة.

          وتصل الأمية الأبجدية - ناهيك عن الأمية الثقافية والأمية الرقمية - في العالم العربي إلى حوالي 50 في المائة, وتزيد عن ذلك كثيرًا في بعض البلدان. وسبق أن أشرنا إلى فجوة المعرفة التي تجسّدها الأمية الثقافية وتكشف عنها إحصاءات إصدارات الكتب واستهلاك ورق الطباعة, وكم وكيف منشورات الجامعات ومنجزات البحث والتطوير, أي المنتج الاجتماعي من المعرفة, إذ نعاني حال عدمية شبه كاملة في إنتاج الجديد من المعرفة, بينما تدور المنافسة عالميًا على أساس ما يسمى الآن فائض قيمة المعرفة كإنتاج اجتماعي, بعد أن كان الأساس فائض قيمة العمل. وتنفق البلدان الصناعية ما بين 2 في المائة و5 في المائة من إجمالي الناتج القومي على البحث والتطوير, بينما يصل متوسط إنفاق المجتمعات العربية إلى 0.2 في المائة.المعرفة تاريخيا أساس رئيسي للإنتاج الاجتماعي والتطوير والتكيف مع التغيرات أو التحديات... ولكن المعرفة الآن, أضحت أساسا لتأكيد هوية المجتمع ليس بمعنى ما هو المجتمع, بل ماذا يفعل وينتج ويبدع معرفيا, إذ الهوية هي الفعل المجتمعي وليست الأصل والحسب والنسب. والمعرفة الآن هي المنتج مناط المنافسة والصراع. وكلمة المعرفة لا تعني مجرد رصيد من المعلومات, بل معالجة اجتماعية نسقية للمعلومات, وتوظيف لها قرين قدرة إبداعية على توليد وإنتاج المعرفة, وقدرة على إدارة المعرفة في مراحل دوراتها, وقدرة على التحكم معرفيا في عقول الآخرين. وتعني مناخا اجتماعيا يتصف بالحرية من حيث التلقي والتعبير والإبداع, وعلاقات اجتماعية شبكية حيث تنتفي التراتبية الهرمية الراسية من القمة إلى القاعدة hierarchy ويتحول المجتمع إلى منظومات متغايرة ذات علاقات شبكية مستوية heterarchy.

          وتوضح نظريات التطوير والتنمية أن المعرفة وإبداع الإنسان العام وخياله وإرادته المبنية على أسس منهجية وعلمية هي الموارد الوحيدة المهمة للتطوير, وما لهذا من انعكاسات على قضايا محلية وإقليمية وعالمية مثل حقوق الإنسان, ونظام الحكم, وعلاقات المجتمع, ومعنى المواطنة وحرية المواطن وواجباته ومسئولياته, وضمان التلاحم الاجتماعي الأساسي بعيدا عن أي انحيازات عرقية أو دينية أو أطماع.

عالم المعرفة والآفاق الجديدة

          في ضوء كل ما سبق يبين بوضوح دور سلسلة (عالم المعرفة) كعمل رائد وطليعي. انها امتداد لمحاولات التنوير في التاريخ العربي الحديث, انطلقت من إيمان بحق المعرفة ودورها النهضوي, والانفتاح على الآخر, وأن المعرفة سبيلنا للتغيير والتطوير. إنها امتداد لمنظومات ثقافية سابقة في مصر, واستحقت بها مصر أن تكون آنذاك منارة للثقافة العربية خلال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين. وهي امتداد أيضا لجهود طليعية في لبنان التي تسلمت راية الثقافة العربية وكانت قبلة المثقفين والناشرين. وحملت دولة الكويت الراية منذ مطلع السبعينيات وقدمت سلسلة عالم المعرفة التي ظلت منذ ميلادها كيانا ثقافيا ناهضا ناضجا واعيا بالرسالة والدور الحضاري وأوجه النقص أو الحاجة. ولم يكن غريبا أن يكون أول إصداراتها كتابا عن (الحضارة).

          فتحت السلسلة النوافذ, وهيأت للقارئ العربي آفاقا جديدة, ويسّرت ما كان عسيرا الوصول إليه من معارف وبثمن زهيد. وأصبح كل بيت عامرا بالعديد من إصدارات سلسلة عالم المعرفة. وحرصت السلسلة على أن تسهم بنصيب في سد فجوة المعرفة العربية, وأن تكون إصداراتها متنوعة الاتجاهات شاملة لمختلف فنون المعارف في صورة موسوعية وعلى نحو يلبي حاجة ومستوى المثقف العربي العام ضمانا لشيوع الثقافة الأدبية والعلمية والحضارية بعامة.. إلخ. والوصول إلى مستوى معرفة حضارة العصر قدر المستطاع دون تجاوز لمحارم التقليد أو دون مساس بما اصطلح على تسميته ثوابت الفكر العربي والإسلامي.

          ويكفي أن نستعرض إصدارات السلسلة على مدى عمرها الفتي الخصيب كشهادة صدق.

          وحري أن نشير هنا إلى أن هذا النبع الثري توقف عطاؤه المعرفي الحضاري وكف عن الصدور عاما كاملا من سبتمبر 1990 وحتى أغسطس 1991, بسبب غزو همجي شنه حاكم العراق السابق. وأحس المثقفون العرب آنذاك بالحرمان من دور ثقافي متميز وطليعي لدولة الكويت مما أجج نار الغضب في نفوسهم, علاوة على انهيار القيم بين الأشقاء.

          إن نظرة فاحصة إلى إصدارات السلسلة تكشف عما يلي:

          299 عنوانا تأليفا وترجمة حتى ديسمبر 2003.

          103 عناوين ترجمة, أي 28 في المائة من جملة الإصدارات.

          21 عنوانا عن التراث العربي والإسلامي.

          65 عنوانا (حوالي 30%) في العلوم الإنسانية والطبيعية النظرية والتطبيقية للتثقيف العلمي, من ذلك المعلوماتية وعلوم الكون والفضاء وفلسفة العلم والتفكير العلمي والهندسة الوراثية.

          49 عنوانا قضايا عربية سياسية وفنية وعلمية وفكرية واقتصادية.

          10 عناوين عن قضية فلسطين ومظاهر الصراع العربي - الإسرائيلي.

          11 عنوانا للتعريف بالحضارات وثقافات الشعوب.

من المحلية إلى العالمية

          وننتقل من التعميم إلى التخصيص, ونذكر شيئًا عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في دولة الكويت, الذي انطلقت منه السلسلة, وأولته الدولة مهمة حمل الراية, وإضاءة المنارة, وأداء الرسالة.

          ضم المجلس نخبة من المفكرين والمثقفين الكويتيين مع عدد من المفكرين العرب تأكيدا لوحدة اللحمة والدور والهدف, والتنسيق بين الأشقاء ممن يشاركونهم الرأي والرؤية.

          رسم المجلس سياساته في التزام بإطار ثقافي جديد, إيمانا منه بأن جهده الثقافي والمعرفي إنما يكرسه للعرب جميعا مادة وموضوعا, مع الحرص على الكلفة الرمزية. وحرص المجلس على تنوع الشكل, وهو ما تمثل في تعدد أنواع إصداراته مثل الفكر المعاصر, والمسرح العالمي ثم إبداعات, علاوة على سلسلة عالم المعرفة.

          ولعل اسم السلسلة يكشف عن الإطار الفكري لهذه النخبة المسئولة, إنها عالم, بعد أن لم تعد الجغرافيا هي الحدود في مجال الفكر والمعرفة, وبعد أن انطلق العقل بإنجازاته العلمية والتقنية إلى أطراف الكوكب. وهي عالم لأن السلسلة لسان عربي وعالمي معاصر تأبى الانزواء في حدود الموروث والانحصار داخل التراث, مثلما تأبى الذوبان في معارف الغرب وحده, وإنما الحرص كل الحرص على تقديم بانوراما كاملة ومتكاملة عن المعرفة الإنسانية في العالم لعقل عربي ناقد.

          الكوكب والتاريخ كلاهما الآن للبشرية جمعاء. وليس في مقدور أي مجتمع يريد الحياة والبقاء والتقدم أن يتحاشى التفاعل بروح العقل الناقد والفعل الإنتاجي الذاتيين الإبداعيين... فهذه هي الحداثة.. وتطوير العقل تأسيسا على جدل الفعل والتفاعل والتغذية المرتدة كوكبيا هو التحديث, لأنه الطريق إلى تطوير الفعل الإنتاجي الاجتماعي... إنتاج مشروع الوجود الجمعي.

نحو منارات معرفية جديدة

          بيد أننا ونحن نحتفي بسلسلة عالم المعرفة وقد أكملت خمسة وعشرين عاما حافلة بالثراء والخصوبة, حري بنا أن نلقي نظرة نقدية لا تخص السلسلة المحتفى بها, ولا تخص نخبة المفكرين والمثقفين ممن لهم الولاية على المجلس, وإنما هي نظرة نقدية للجهد الثقافي المعرفي العربي بعامة.

          نعم السلسلة فتحت نوافذ وهيأت آفاقا كوكبية, وحملت عن المثقف عبء المال, وحمّلته عبء التزود بالمعرفة الجادة العميقة العالمية في يسر وسهولة.

          ولكن لا تزال هناك عربيا نوافذ ثقافية ومعرفية مغلقة, ولا تزال هناك آفاق محجور عليها لأسباب وحجج تقليدية. وما أحرانا أن نشرع من تلقاء أنفسنا بفتح هذه النوافذ, والتسامح مع إنجازات العقل دون تحريم أو إدانة أو تجريم, خاصة بعد أن سقطت الحواجز والحدود بفضل التقدم العلمي والتقني والإعلامي (الميديا). ولعلنا إذا فعلنا هذا بحريتنا الإبداعية, قرين عهد وتصميم على تطوير مجتمعاتنا حضاريا لنكون قوة صناعية إنتاجية, خير من أن يشير علينا غيرنا بخارطة طريق للتغيير المبتسر والمجتزأ لصالح الآخر, ولكننا نلتزم بما يشير علينا به طوعا أو كرها.

          وشتان بين أن أبتكر وأقرر أنا من تلقاء ذاتي طريق النهضة والتطوير استجابة لحاجتي عن وعي عقلاني بها, وبين أن أرتضي الخطو مثولا لحاجة الآخر لا حاجتي, حتى وإن خطوت على مضض. إذ في الحالة الأولى يكون التطوير امتدادا سويا وصحيا لخصائص ثقافية ذاتية إيجابية متطورة بوعي ناضج ووعد بمستقبل رؤاه وحدوده تملأ عقلي وخيالي. ولكن التطوير في الحالة الثانية لن يكون سوى زخرفي أو مسخ غير ذي أثر في حياتنا, وربما يرسخ حالة التبعية المزمنة... الحالة الأولى إجابة ذاتية وبجهد ذاتي على تساؤلات ومشكلات وقضايا محلية, والحالة الثانية تغير ظاهري وحمل كاذب.. بل وصمت مكره على كوامن سلبيات التقليد.. الحالة الأولى قطيعة معرفية مع التقليد دون إنكار لتاريخيته, ومن ثم فهي اتصال حضاري ارتقائي للذات, بينما الحالة الثانية تمزق للذات.

          إنني أحيي سلسلة عالم المعرفة وأخواتها التي كفلت رافدا ثقافيا ومعرفيا مهما, وحافظت على نبض الوجود الثقافي لدى المثقف والقارئ العربي, وعمرت بها البيوت. وأؤكد أنها منذ ميلادها منارة هادية كاشفة, بددت بعض ظلمة كثيفة. ولكن شواطئ المجتمعات العربية ممتدة بعيدة المسافات من الخليج إلى المحيط, ولا تكفيها منارة واحدة بل منارات عدة متكاملة وضاءة بفضل الحرية والتنوع والعالمية قرين استراتيجية تطوير حضاري دعاماتها الإبداع الحر والمعرفة الكوكبية.

 

شوقي جلال