وداعاً إدوارد سعيد.. دفاع حار عن فلسطين وهجوم على تزييف الغرب

  وداعاً إدوارد سعيد.. دفاع حار عن فلسطين وهجوم على تزييف الغرب
        

          بعد معاناة مريرة دامت اثني عشر عاما مع مرض السرطان رحل في سبتمبر الماضي الكاتب الفلسطيني ذو الشهرة العالمية إدوارد سعيد (1935-2003) تاركًا فراغًا كبيرًا في ميدان النقد والدراسات الثقافية يصعب أن يملأه أحد بعده, كما خسر العرب برحيله واحدًا من أهم المدافعين عن الحق الفلسطيني. 

          إن أهمية إدوارد سعيد الثقافية والفكرية تتجاوز الإعلام والسياسة إلى حقول معرفية عدة من ضمنها: الدراسات الإنثروبولوجية, وتاريخ الفن, ودراسات خطاب ما بعد الاستعمار, والنظرية الثقافية التي كان سعيد واحدًا من أبرز المنظرين والباحثين الذين حوّلوا مسارها خلال ربع القرن العشرين الأخير, من خلال كتبه ومقالاته ودراساته التي تراوحت موضوعاتها بين النقد الأدبي والسياسة ونقد الموسيقى ودراسة ما يسمى في حقل الفلسفة المعاصرة تحليل أنظمة الفكر.

          أصدر إدوارد سعيد - إضافة إلى الكتب العديدة التي حررها أو أسهم فيها أو كتب مقدماتها - عددًا كبيرًا من الكتب, التي أثارت الحوار والجدل على صفحات المجلات والصحف البارزة في الغرب, وبوأته خلال السنوات العشرين الماضية مكانة رفيعة في حقول النقد الأدبي والدراسات الثقافية. كما ترجم العديد من كتبه, وعلى رأسها (الاستشراق), إلى عدد كبير من اللغات العالمية.

          من بين كتبه: جوزيف كونراد ورواية السيرة الذاتية (1966), بدايات: القصد والمنهج (1975), الاستشراق (1978), القضية الفلسطينية (1979), تغطية الإسلام (1981), العالم والنص والناقد (1984), ما بعد السماء الأخيرة: حيوات فلسطينية (1986), لوم الضحايا (بالاشتراك مع كريستوفر هيتشنز 1988), تنويعات موسيقية (1991), الثقافة والإمبريالية (1993), سياسة السلب: الكفاح من أجل حق تقرير المصير الفلسطيني (1994), صور المثقف (1994), غزة - أريحا: سلام أمريكي (1994), القلم والسيف (حوارات مع ديفيد بارساميان, 1994), أوسلو2: سلام بلا أرض (1995), خارج المكان (وهو الكتاب الذي يروي سيرته الذاتية ما بين القدس والقاهرة وأمريكا, ويكشف عن جذور عبقريته ودور والدته في دفعه باتجاه الأدب والفن والموسيقى, 1999), السلطة, السياسة, والثقافة: حوارات مع إدوارد سعيد (2003), فرويد وغير الأوربيين (2003).

نشاط فكري خلاق

          وتدل قائمة الكتب السابقة على تنوع اهتمامات سعيد والنشاط الفكري الخلاق الذي تحلى به خلال السنوات السبع والستين التي عاشها. لكن هذه الاهتمامات المتعددة كانت تنبع من بؤرة محددة أساسية, وهي انشغاله الدائب بالقضية الفلسطينية, فقد كانت فلسطينية سعيد, التي انتقدها مثقفو اليمين في الغرب وصبّوا عليه سخطهم بسببها, قوة أخلاقية لقول الحقيقة للسلطة أينما وجدت, في السياسة والثقافة كذلك. ولعل كتابه المميز (الاستشراق) أن يكون نافذته التي أطل منها على فلسطين ومأساتها, فحلل استراتيجيات الفكر الغربي في تعامله مع ما ليس غربيًا ليتوصّل في الكتاب, الذي حوّل مسار دراسات الآخر وأثر عميقًا في حقول بحثية ومعرفية عدة وتيارات فكرية وأجيال من الباحثين, إلى أن مأساة الفلسطينيين نابعة من قدرة الصهاينة على بث صور نمطية عن العرب والمسلمين وجعلهم المواطن الغربي يصدق هذه الصور.

          لقد صدر إدوارد سعيد, في رؤيته النقدية وعمله المعرفي, عن تصوّر يرفض النظريات الأصولية في فهم الأدب والتاريخ, أي تلك التي ترى في الأصل الغربي - الأوربي - مصدر إشعاع يغمر بضيائه الثقافات الأخرى, وكان كتابه (الاستشراق) بمنزلة نقد مضاد لكل هذه النزعات الأصولية حيث اختار لهجومه موضوعًا من بين أكثر الموضوعات الشائكة في التفكير الغربي حول الشعوب الأخرى, وهو الدراسات الاستشراقية التي صعد نجمها في مرحلة تاريخية ترافقت مع التوسع الاستعماري الهائل خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. لكن سعيد استطاع ببصيرته النافذة, وعقله التحليلي الذي هضم معارف الغرب ومناهجه الجديدة, أن يعيد تأطير فكر المستشرقين وإنجازهم, مفككًا هذا الفكر واضعًا الاستشراق في إطاره التاريخي الثقافي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر, وصولاً إلى النصف الأول من القرن العشرين. وقد وصف سعيد الاستشراق بأنه ممارسة من ممارسات القوة تخدم - بغض النظر عن الحالات القليلة التي تمثل الاستثناء لا القاعدة - برنامجًا استعماريًا للهيمنة والسيطرة, ولم تكن أهدافه, من ثمّ, علمية خالصة كما ادّعى ممارسوه وأتباعهم ممن درسوا تاريخ الاستشراق وإنجازه النصّي. رأى سعيد أننا (إذا اتخذنا من أواخر القرن الثامن عشر بداية محددة تقريبية للانطلاق منها, فإن الاستشراق يمكن أن يدرس ويحلل بوصفه المؤسسة المشتركة للتعامل مع الشرق - التعامل معه بإنشاء عبارات وزوايا نظر مفوّضة حوله, بوصفه وتعليمه وتحديده والحكم عليه. إن الاستشراق, باختصار, هو الأسلوب الغربي للسيطرة على الشرق (....) وامتلاك السيادة عليه). (الاستشراق, ص:3).

فضيحة العقل الغربي

          ومن الواضح أن ما أثار حفيظة الكثير من نقاد سعيد هو اللهجة الهجومية, التي تستند إلى أرشيف ضخم من الكتابات الاستشراقية, كما تستند إلى معرفة دقيقة بمناهج التحليل الغربية الجديدة التي قرأت مناطق أخرى من ممارسات القوة - المعرفة وكشفت عن فضيحة العقل الغربي في أزمنة التنوير والحداثة (قراءة فوكو لتاريخ الجنون, وتاريخ الجنس, وتاريخ العقاب... إلخ), ولذلك أصبح (الاستشراق) من الكتب الأساسية, في القرن العشرين, العابرة للتخصصات والتي أثرت في عملية تغيير التفكير في موضوع الاستشراق, وكذلك في حقول التفكير بالعالم الثالث وعلاقة المستعمِر بالمستعمَر مما مهّد لظهور ما يسمى الآن (دراسات ما بعد الاستعمار) التي تعيد النظر في الخطاب الاستعماري حول البلدان والشعوب المستعمَرة, ومن ثمّ تفكك هذه العلاقة وتنظر إلى الذات الوطنية بعيون جديدة غير خاضعة لمناهج التحليل الغربية المهيمنة.

          بالمعنى السابق يمكن القول إن إدوارد سعيد, سواء في (الاستشراق) أو في كتابه التالي (الثقافة والإمبريالية) ودراساته العديدة الأخرى, قد ألهم قطاعًا واسعًا من النقاد والباحثين في الدراسات الثقافية وتحليل الخطاب, الذين بدأوا يعيدون النظر في الكثير من المسلّمات التي روّج لها الخطاب الغربي في العلوم الإنسانية.

          كان (الاستشراق) إذن قد وضع إدوارد سعيد في دائرة الضوء, لكن عملا آخر سبقه لم يلق من الاهتمام ما يستحقه, لربما لطبيعة موضوعه المتخصصة المعقدة. إن كتاب (بدايات) يدور حول مشكلات بداية العمل الأدبي أو الفلسفي واختيار الكاتب الحاسم لبداياته التي يرتحل منها وتميّز عمله عن غيره من الأعمال التي سبقته. لكن أهم ما في (بدايات) هو تساؤلاته الجذرية حول اللغة بوصفها موضوعًا للتفكير, وحول الهيمنة الثقافية لمجال ثقافي أو قومي على آخر, وحول الأصالة والتحرر والحرية (بدايات: ص381), وهي أسئلة بحثتها أعمال تالية لإدوارد سعيد بدءًا من (الاستشراق), مرورًا بـ (القضية الفلسطينية) و(تغطية الإسلام), و(العالم, والنص, والناقد), وصولا إلى عمله (الثقافة والإمبريالية) الذي يوسع أطروحة (الاستشراق) لتشمل جهات جغرافية أوسع في العالم تتجاوز الشرق, كما تشمل حقول بحث وإبداع كالرواية والشعر, دارسًا في هذا الكتاب, التحليلي الواسع الاطلاع والمعرفة, علاقة صعود الرواية وتطوّرها بالتوسّع الإمبريالي في القرنين التاسع عشر والعشرين.

          في (الثقافة والإمبريالية) ربط سعيد كتاباته عن فلسطين والشرق الأوسط وتأملاته حول دور المثقف ووظيفته بنقده للثقافة الغربية وأشكال الهيمنة الغربية على العالم غير الغربي. لكنه تحدث كذلك عن ثقافة المقاومة مقترحا صيغة جديدة من صيغ القراءة سماها (القراءة الطباقية). وما عناه سعيد بالقراءة الطباقية هو (إعادة قراءة الأرشيف الثقافي) للمستعمِر والمستعمَر, شاملين في بحثنا الخطاب المهيمن والخطاب الواقع تحت ثقل الهيمنة. وقد اقترح, في مواضع عدة من كتابه, أن نقرأ أوبرا عايدة لفيردي وأعمال ألبير كامو استنادًا إلى التاريخ الاستعماري, وأن نقرأ جين أوستن بمصاحبة فرانز فانون وأميلكار كابرال, بحيث تشمل القراءة الطباقية الإمبريالية والمقاومة التي تتصدى لها في الوقت نفسه.

تهجين الثقافات

          يمكن أن نعيد تصوّرات سعيد السابقة, فيما يتعلق بمنهجية القراءة, إلى فكرته الأساسية حول تهجين الثقافات واختلاط هويتها, وهجومه المستمر على الرؤية المحافظة التي تغلف الهوية بادّعاءات جوهرية بحيث تفصل البشر بعضهم عن البعض الآخر بسيف بتّار. ولعل تعريف الهوية - والثقافات من ثمّ - بأنها متغيرة غير ثابتة هو ما يعطي كتاب (الثقافة والإمبريالية) قوة دفعه وأصالته, وذهاب سعيد بعيدًا في مشروعه الثقافي والشخصي بوصفه مقيمًا (بين الثقافات) وعلى حدودها المشتركة. لقد حاول سعيد في كتابه ذاك, الذي عده تتمة لـ(الاستشراق), أن يحلل فكرة الإمبراطورية, والتوسع والامتداد الجغرافي للإمبريالية الغربية في آسيا وإفريقيا, واتصال الحضور الإمبريالي بالثقافة وكونه جزءًا مُشكلاً لمعنى الثقافة الغربية في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين, ومن ثمّ لم تكن غاية (الثقافة والإمبريالية) تقديم قراءة متوازنة لما كتبه كتاب الغرب عن العالم الثالث, وما كتبه كتاب العالم الثالث عن بلادهم, كما أن القراءة الطباقية, التي تحدث عنها سعيد, ليست سوى مقترح يعرضه للتخفيف من فائض التحيّز الذي يغمر الكتابات الغربية عن العالم الثالث. لكن هذه القراءة المقارنة, بالمعنى الواسع والعميق لفعل المقارنة, ليست هي موضوع (الثقافة والإمبريالية) مثلما لم يكن كتاب (الاستشراق) معنيًا بتقديم قراءة مصححة للخطاب الاستشراقي, إذ إنه كان معنيا في الحقيقة بتحليل الأنظمة الداخلية للخطاب الاستشراقي: كيف تشكّل هذا الخطاب, وكيف كان يعمل بنوع من الآلية الداخلية, وما غاياته وطرق اتصاله بالسلطة التي تستعمله. وهذا التحليل مدين بقوة لعمل ميشيل فوكو, الذي تأثر به إدوارد سعيد كثيرًا خصوصًا في (الاستشراق), رغم افتراق السبل بين فوكو وسعيد من حيث فهمهما المختلف لغايات تحليل الخطاب والفوائد التي نجنيها من عملنا على الخطابات بأشكالها المختلفة.

          في كتاب سابق على (الثقافة والإمبريالية), هو (العالم والنص والناقد), عمق إدوارد سعيد فكرته الأساسية عن ترابط الإنجاز النصّي والعالم وشروط الحياة اليومية للبشر رافضًا تصوّرات منظري ما بعد البنيوية الذين يرفضون أي مقاربة لعلاقة النص بالعالم, مفضلين الاهتمام بالتداخل النصي! إنهم, كما رأى سعيد, لا يقدمون (أي دراسة جدية لمفهوم السلطة, سواء من حيث الطريقة التي تنتقل بها السلطة تاريخيًا وظرفيًا من الدولة إلى المجتمع المشبع بالسلطة, أو بالعودة إلى العمل الفعلي للثقافة ودور المثقفين والمؤسسات والأجهزة الاجتماعية. (العالم والنص والناقد, ص172) ومن الواضح أن هذا النقد الذي وجهه سعيد, إلى منظري ما بعد البنيوية, يمس بصورة عابرة ملهمه الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو. ومن هنا فإن علاقة سعيد بفوكو تبدو متغيرة غير ثابتة, فهو رغم نهله من عمل فوكو وعدّه له مصدرًا منهجيًا أساسيًا, لا غنى عنه, يزوّده بتعريفه للخطاب ويدله على أشكال لموضع السلطة في الخطاب, فإن سعيد يبدو متشكّكًا فيما يتعلق بفهم فوكو للسلطة, ويرى أن هذا الفهم يقود إلى نوع من عدم المشاركة السياسية, خصوصًا أن الفيلسوف الفرنسي لا يؤمن بأن النظرية أو التحليل يؤديان إلى أي فعل, إن منهجية فوكو في تحليل علاقات القوة والمعرفة تعمل على فضح صيغ التوتاليتارية وأنظمة الاستبداد وأشكال عملها في الفكر والمؤسسات, لكن ذلك لا يقود إلى أي مقاومة, ولا يحفز على وضع برنامج عمل, وهذا هو الفرق الحاسم بين تفكير كل من فوكو وإدوارد سعيد الذي يشدد على مفهوم المقاومة وعلاقة النصوص بشروطها المكانية - الزمانية. ومن ثمّ فإن سعيد يؤسس في (العالم والنص والناقد) مفهومه لدنيوية النصوص ويقارن بين ما يسميه النقد الديني والنقد الدنيوي مفضّلاً النقد الأخير الذي يرى أن النصوص الأدبية (في أكثر أشكالها مادية تكون مشتبكة بالظرف والزمان والمكان والمجتمع).

الوعي النقدي

          لقد ميّز سعيد أيضًا بين النظرية والوعي النقدي انطلاقًا من عقيدته الدنيوية إذ رأى أن (الوعي النقدي هو إدراك الاختلاف بين المواقف, وإدراك الحقيقة التي مفادها أن لا نظام, أو نظرية, يمكن أن يستنفد الموقف الذي منه انبثقت أو إليه انتقلت هذه النظرية (.....), إن الوعي النقدي هو إدراك مقاومة النظرية, وإدراك ردود الفعل التي تثيرها النظرية في التجارب والتأويلات الملموسة التي هي في صراع معها. وفي الحقيقة فإنني أريد أن أذهب بعيدًا وأقول إن عمل الناقد هو توفير مقاومة للنظرية, وفتح هذه النظرية على آفاق الواقع التاريخي, على المجتمع والحاجات والاهتمامات الإنسانية, إن عمله هو أن يحدد الشواهد الملموسة المستخلصة من الواقع اليومي الذي يكمن خارج أو بعد منطقة التأويل). (العالم والنص والناقد, ص: 242).

          لقد ظل إدوارد سعيد, إذن, وفيا لأفكاره التي مسّها بصورة عابرة في (بدايات), وشرحها بوضوح تام في (الاستشراق) ثم قام بتوسيعها ومد مجال تحليلها في (الثقافة والإمبريالية), وكذلك في (صور المثقف) حيث يركز على ضرورة أن يمتلك المثقف وعيًا نقديًا. وهو يشدد في الكتاب الأخير على ضرورة ألا يغيب المثقف في كتلة التفاصيل وألا يصبح مجرد شخص يضاف إلى جمع المتخصصين. يقول: (أريد أن أشدد على أن المثقف فرد له دوره العمومي المحدد في المجتمع الذي لا يمكن اختزاله ببساطة إلى وظيفة لا وجه لها, إلى مجرد فرد مختص منشغل تمامًا بعمله. إن الحقيقة المركزية بالنسبة لي, كما أظن, هي أن المثقف فرد منح قدرة على تمثيل رسالة, أو وجهة نظر أو موقف أو فلسفة أو رأي, وتجسيدها والنطق بها أمام جمهور معين ومن أجله). (صور المثقف, ص:8).

          من التشديد السابق على دور المثقف في حياة المجتمع يمكن فهم الدور الذي اضطلع به إدوارد سعيد في الدفاع الحار عن الحقوق الفلسطينية, والانشغال الدائم بتحليل الشروط التاريخية للوعي الفلسطيني, وكذلك وعي العالم بالقضية الفلسطينية. وقد استخدم لشرح وجهة نظره أشكالا ووسائل متعددة لتوصيل أفكاره: الكتابة الأكاديمية والأبحاث المتخصصة, الكتابة الصحفية, والمقابلات التلفزيونية والإذاعية, مما جعله شخصية عامة مؤثرة في الولايات المتحدة وبريطانيا. ومن هنا يبدو عمل سعيد الفكري مثالاً ملهمًا في سياق الحديث عن مفهوم المثقف ووظائفه في المجتمع. لقد لفت النظر إلى حقيقة أن المثقف, ولو كان منفيًا بعيدًا عن تربته الوطنية غريبًا في المجتمع الذي أصبح يحمل جنسيته, يستطيع أن يعلن احتجاجه ونقده لثقافة المجتمع الذي يعيش بين ظهرانيه.

دفاع عن فلسطين

          يعيدنا هذا المسار الفكري لعمل إدوارد سعيد, وإنجازه على صعيد البحث وتاريخ الأفكار, إلى السؤال الأساسي لوظيفة المثقف وموقفه مما يدور في هذا العالم. لقد رفض سعيد أن يتقوقع في بيئته الأكاديمية كأستاذ مرموق للأدب الإنجليزي في جامعة كولومبيا الأمريكية, وفضّل, رغم ما كان سيكلفه ذلك على صعيد المكانة الأكاديمية والسلامة الجسدية, أن يكون مدافعًا عن القضية الفلسطينية في قلعة الغرب المعادية لحقوق الفلسطينيين, وأن يفكك المفاهيم الزائفة المصطنعة التي بناها الغرب خلال قرون من الزمن عن نفسه وعن الآخر. ويمكن أن نعثر في كتبه العديدة على الباعث الشخصي لمسيرته الفكرية والثقافية, على جذوره كمثقف منفي لا منتمٍ, مستقل يقول الحقيقة للسلطة سواء كانت هذه السلطة فكرية أو سياسية.

          تمثل هذه الظلال من مسيرة إدوارد سعيد الشخصية, كفلسطيني مهاجر إلى الولايات المتحدة في أوائل الخمسينيات, الخلفية التي تقوم في أساس كتابه (صور المثقف) حيث يمزج المفكر الكبير الراحل بين الشخصي والعام. بين النظرية والممارسة الحياتية, للتشديد على وظيفة المثقف في هذا العالم والتأكيد على دنيوية عمله وانخراطه في الدفاع عن المظلومين الذين لا صوت لهم ولا حول أو قوة. وفي هذا السياق يمكن فهم الإشارات الكثيرة إلى عمله الأكاديمي ومسيرته كمثقف في الولايات المتحدة, وإلى انشغالاته السياسية الفلسطينية واتفاق أوسلو ومعارضته له. إن هذه الظلال الشخصية توفر توضيحًا عمليًا للأفكار والمفاهيم التي عرض لها سعيد في ثنايا ذلك الكتاب صغير الحجم, وتحيل المجرد إلى كيان ملموس من الممارسة الإنسانية.

          بالمعنى السابق لا يمكن عد كتاب (صور المثقف) بحثًا نظريًا في مفهوم المثقف وشرح وظائفه, بل إعادة قراءة للمفاهيم المختلفة حول المثقف في ضوء التجربة الذاتية والإدراك الشخصي لمفهوم المثقف والأدوار التي اعتقد سعيد أن عليه تأديتها. ومن هنا فإن الفكرة الأساسية للكتاب تدور حول مفهوم للمثقف يربطه عضويًا برسالة يؤديها في المجتمع. وما يلفت انتباه إدوارد سعيد في تحليل المفكر والراهب الفرنسي جوليان بندا لدور المثقف, في كتاب الأخير (خيانة المثقفين), هو التشديد على دور المثقف الرافض القادر على قول الحقيقة للسلطة. وإذا كان سعيد يفضل منظور أنطونيو غرامشي في تحليله لوظائف المثقفين, فإننا نحسّ في خطابه ميلا إلى ما يمثله بندا, وانجذابا إلى نبرة المفكر الفرنسي الرافضة الغاضبة. يقول سعيد إن على المثقف أن (يطرح على الناس الأسئلة المربكة المعقدة, وأن يواجه الأفكار التقليدية والعقائدية الجامدة (لا أن ينتج هذه الأفكار ويمارس تلك العقائد), أن يكون شخصًا لا تستطيع الحكومات أو الشركات اختياره والتعاون معه بسهولة, شخصا تكون علة وجوده هي تمثيل الناس المنسيين والقضايا التي تم إهمالها بصورة متكررة أو أنها كنست وخبئت تحت البساط. إن المثقف يقوم بهذا الدور استنادًا إلى مبادئ كلية شاملة: إذ من حق البشر أن يعاملوا, فيما يتعلق بالحرية والعدل, استنادًا إلى معايير سلوكية لائقة من قبل القوى العالمية أو القومية, وأنه ينبغي إثبات الانتهاكات, المتعمدة أو غير المتعمدة, لهذه المعايير ومحاربتها بشجاعة).(ص:9).

          في ضوء هذا الانسحار بالشجاعة الأخلاقية العالية لجوليان بندا يبدو تحليل سعيد لواقع المثقف في العالم المعاصر عودة إلى المفهوم السارتري للمثقف الملتزم, خصوصًا أن الحضارة المعاصرة تشجع المثقف على التحوّل إلى مجرد متخصص يسجن نفسه داخل حقل تخصصه مبتعدا تمام الابتعاد عمّا يجري حوله من أحداث وما يرتكب من جرائم وفظائع بحق البشر أفرادًا وجماعات. إن وحش التخصص والاحتراف, والتكسب من المهنة, هو ما نبه سعيد إلى خطره الذي يتهدد المثقفين في العالم المعاصر. وهو الأمر الذي جعله ينادي بتحوّل المثقف إلى شخص هاو في حقل الثقافة لا يجتذبه إغراء السلطة السياسية والشركات الكبرى التي تدعوه للعمل لمصلحتها ورهن نتائج عمله برغباتها وأهدافها التي قد تمثل أضرارًا كبيرة تلحق بالأفراد أو بمجموعات معينة من البشر.

المثقف المستقل

          يمكننا أخيرًآ تأمل هذه النظرة إلى وظيفة المثقف ودوره الرسالي في ضوء ما كتبه سعيد في كتابيه (غزة - أريحا: سلام أمريكي), و(أوسلو2: سلام بلا أرض) لنرى كيف وظف رؤيته لدور المثقف في الدفاع عن وجهة نظره كفلسطيني في المنفى فيما جرى الاتفاق عليه في أوسلو والقاهرة. لقد دافع في (صور المثقف) عن المثقف المستقل, اللامنتمي (بالمعنى الإيجابي لعدم الانتماء), البعيد عن دائرة السلطة, المنفي والهامشي, كما تحدث عن فضائل المنفى وما يوفّره من هامشية للمثقف وقدرة على إعادة النظر فيما تواضع عليه البشر وعدوه صحيحًا, إن وظيفة المثقف, حسب سعيد, هي معارضة الوضع القائم في زمن الصراع وتأييد المجموعات المهمّشة, التي تتعرض للظلم والإجحاف, أي تلك المجموعات غير المُمثلة التي تحتاج إلى صوت يمثلها ويعلن وضعها للعالم. وهذا ما فعله سعيد كباحث أكاديمي وكاتب مقالة ومتكلم باسم الفلسطينيين في الغرب ومنافح عن حق أبناء العالم الثالث في تمثيل أنفسهم وتشكيل هوياتهم الثقافية والوطنية, ما جعله مثالاً لمثقف العالم الثالث الحر, الهاوي بالمعنى الذي قصد إليه في (صور المثقف).

 

فخري صالح   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات