فيلكا.. جزيرة القوافل والتاريخ

 فيلكا.. جزيرة القوافل والتاريخ
        

عبر تاريخها الممتد إلى الحقب البعيدة, ساهمت جزيرة فيلكا الكويتية في صناعة الحضارة في بلاد الرافدين ووادي الهندوس.

          (التجارة أم الأشياء), مقولة علمية فيها الكثير من الصحة والصواب. فالتجارة تعني التعارف والتبادل, الأخذ والعطاء, وبشكل طبيعي المساهمة بالتطور الإنساني المعرفي الذي يقوده بالتالي إلى التطور الحضاري وذلك من كل الجوانب المادية والتكنيكية والثقافية والدينية وإلخ... ولولا التجارة وطرقها ومحطاتها وناسها ومعتقداتها لما كان عندنا اليوم شيء اسمه حضارة بالمعنى الشمولي.

          والطرق التجارية الأشهر صاحبة الفضل الأكبر في نشوء وتطور حضارات كرتنا الأرضية هي للتذكير طريق الحرير الذي ربط الشرق بالغرب وطريق البخور الذي ربط الجنوب بالشمال.

          ومن الطرق المهمة التي ساهمت بشكل فعّال في تطور وازدهار حضارات جنوب بلاد الرافدين القديمة الدرب التجاري الذي كان مساره الشاطئ الغربي من الخليج العربي بمستوطناته المتعددة مثل جزيرة (فيلكا).

          و(فيلكا) هذه تعتبر من المعالم الأثرية المهمة جدا على طريق القوافل التجارية في العصور الغابرة في الخليج العربي, رغم مساحتها الصغيرة فقد كانت من المراكز والمعالم الأثرية المهمة في عصر حضارات بلاد الرافدين ووادي الهندوس - باكستان اليوم - أي عصور ما قبل الميلاد, وكان لها أيضا مكانة مميزة وخاصة في العصر الهيليني اليوناني.

          وهذا الدرب التجاري الطبيعي الذي كان يربط ما بين بلاد الرافدين وبلاد وادي الهندوس كانت همزة وصله وربطه مستوطنات وواحات شواطئ الخليج العربي, بالإضافة إلى مستوطنات شواطئ بحر العرب.

          هذا المسار - إلى جانب مسارات أخرى في الشرق والشمال والغرب - له أهمية تاريخية وحضارية خاصة بالنسبة لازدهار ونهضة وتطور حضارات بلاد الرافدين المشهورة والتي كانت جزيرة فيلكا إلى جانب المراكز الأخرى في الخليج تلعب دور الوسيط الواصل والفاعل بها.

علاقات تجارية عميقة

          كما هو معلوم ومعروف تعتبر منطقة بلاد الرافدين منطقة زراعية بالدرجة الأولى وهي بلاد تفتقر إلى جميع أنواع المعادن الضرورية والمهمة مثل: النحاس, القصدير, الفضة والذهب كذلك الأحجار الكريمة, وهذه الأشياء موجودة بكميات كبيرة - من الجهة الجنوبية لبلاد الرافدين - في منطقة الهند الطبيعية.

          من خلال المكتشفات الأثرية التي جرت في منطقة الرافدين ومنطقة وادي الهندوس توجد معلومات شبه كافية عن عمق وقوة العلاقة التجارية التي كانت سارية في الأزمان المذكورة بين هاتين المنطقتين الجغرافيتين.

          ومن باب التذكّر لا الحصر, فإن المحطات المهمة والمعروفة لهذا العصب التجاري المهم في تلك الحقب والعصور الماضية كانت: ميناء مدينة (أور) في جنوب بلاد الرافدين, وجزيرة فيلكا, وجزيرة البحرين, ونواحي شواطئ عُمان اليوم, التي كانت تدعى في تلك الفترة (ماجان) وشواطئ بحر العرب حتى مصب نهر الهندوس بالقرب من مدينة كراتشي اليوم), وأيضا مستوطنات رافدي نهر الهندوس كموقع مها نجارو المشهور.

          كانت فيلكا الجزيرة الصغيرة في الخليج العربي, مركزا دينيا ذات شأن عال وعلى الأرجح محجا مهما لمواطني شواطئ الخليج في الأزمان الغابرة.

          وفي تاريخ الكويت الحديث طورت وحُسنت الجزيرة وأصبحت بحق واحة سياحية ثقافية بكل معنى الكلمة. فقد أنشئ فيها ميناء اصطناعي صغير لاستقبال السفن الصغيرة بالإضافة إلى مجمع سياحي كبير في الطرف الجنوبي من الجزيرة يضم شققا مفروشة ومسابح ومطاعم وملاعب رياضية.

          من الأماكن السياحية التي كان زائر الجزيرة يؤمها قبل غزو النظام الصدّامي في العراق للكويت عام 1990, مزار الخضر عليه السلام, موقع القرنية حيث يوجد حوض بناء مراكب وزوارق (الدو) التراثية, إلى جانب الشواهد والأوابد الأثرية في منطقتي سعد وسعيد, وأخيرا المجمع السياحي المذكور بكل مرافقه, مع الأسف الشديد تعرضت الجزيرة أثناء حرب تحرير الكويت لأضرار كبيرة وجسيمة, خاصة في مواقعها وشواهدها الأثرية, ومنذ ذلك الوقت أصبحت الجزيرة تحت الإدارة العسكرية - أي منطقة محرمة - ومن حينها توقفت حركة الزوار إليها. (تسعى دولة الكويت الى تحويل الجزيرة الى منطقة سياحية وأثرية حاليا).

          وبالإمكان القول إن: فيلكا عاشت ثلاث نهضات تاريخية حضارية مميزة, اثنتان منهما في التاريخ القديم وواحدة في التاريخ الحديث: النهضة الأولى كانت كجزء من حضارة دلمون المعروفة الموغلة بالقدم, والثانية كجزء من إمبراطورية السلوقيين اليونانيين وعاصمتهم سلوقيا على نهر دجلة, وأخيرا في فترة نهضة دولة الكويت الحديثة.

          بواسطة قراءة ودراسة وتحليل المكتشفات واللقى الأثرية التي عثر عليها في الجزيرة, تعتبر فيلكا من المراكز والأماكن ذات الأهمية الكبيرة فيما يسمى - ويصطلح عليه اليوم - بحضارة دلمون المشهورة المؤرخة في عصور ما قبل الميلاد وذلك من الناحية التاريخية والثقافية والحضارية. ونتيجة التقنيات الأثرية العلمية - الأركيولجية - التي جرت في الجزيرة عثر على كمية كبيرة من اللقى والمخلفات والأوابد الأثرية التابعة لهذه الحضارة المذكورة مثل الفخار والأختام والنقوش وأشياء أخرى. وتسمية دلمون هذه مستقاة من الكتابات المسمارية السومرية والمقصود بها منطقة شواطئ الخليج العربي حتى مضيق هرمز.

          وحسب المكتشفات الأثرية التي جرت حتى الآن في منطقة شواطئ الخليج تعتبر جزيرة البحرين اليوم  أول المعالم المهمة لهذه الحضارة.

          فيلكا الجزيرة لعبت دورا لا يستهان به في حقبة زمنية طويلة تعود بداياتها, حسب المعلومات الأثرية المكتشفة حتى الآن, إلى فترة عصر البرونز المبكر حوالي 2300 قبل الميلاد, واستمرت في فترات ازدهار وانحسار حتى انهيار الإمبراطورية البابلية/الكلدانية - سقوط مدينة بابل في عام 539ق.م. - على يد الفرس الأخمينيين. وبعد مائتي عام عادت الجزيرة مرة أخرى إلى الأضواء, وبدفع أكبر من السابق, وذلك في العهد السلوقي اليوناني, أي الفترة ما بين القرن الثالث ق.م. وعلى الأغلب حتى القرن الثاني بعد الميلاد. في هذه الحقبة التاريخية كانت الجزيرة معروفة باسم (إيكاروس), تيمّنا بإحدى جزر بحر إيجة غرب تركيا الحديثة.

استيطان مبكر

          فيلكا كانت على الأرجح الحد الثقافي والحضاري الفاصل ما بين حضارة دلمون الخليجية وحضارات بلاد الرافدين وذلك حسب اللقى والمخلفات الأثرية التي وجدت بكثرة في الجزيرة والتي كان أغلبها ذا صفة وطابع دلموني.

          إن فيلكا: هي جزيرة صغيرة بالحجم ولكن كبيرة جدا بالمكتشفات الأثرية, تقع في شمال غربي الخليج العربي وتبعد فقط بضعة كيلومترات عن شاطئ الكويت وساعة بالمركب البحري. طولها بحدود اثني عشر كيلومترا وعرضها بحدود ستة كيلومترات, على الجزيرة أربعة أمكنة معروفة: مزار الخضر عليه السلام, بلدة السعد والسعيد وبلدة الزور, وقد كانت الجزيرة في الماضي دائما غنية بالمياه العذبة التي ساعدت على الاستيطان المبكر والمتواصل فيها, وذلك عبر حقب وعصور تاريخية مختلفة, ولكن صغر حجمها لم يسمح بكبر وتوسع المستوطنات عليها.

          ومن العام 1958 وإلى عدة أعوام متلاحقة في ستينيات القرن الماضي نقبت بعثة أثرية دانماركية عدة مواسم تنقيبية فيها, هذه المواسم كانت تمتد أحيانا إلى الشهرين في السنة الواحدة, والبعثة الأثرية المنقّبة كانت برئاسة عالم الآثار المشهور جيوفري بيبي, المتخصص في آثار حضارة وتاريخ وثقافة دلمون.

          وكانت المكتشفات الأثرية العائدة لحقبة وفترة دلمون المشهورة  بقايا بناء, على الأرجح لمعبد ديني, كذلك بقايا استيطان معماري سكني ومخلفات فخارية كثيرة إلى جانب لقى أثرية مميزة مثل أختام جميلة مزيّنة برسوم ذات مواضيع وأشكال مختلفة.

          من سوء الحظ أنه لم يعثر على أي نصوص كتابية تساعد على إعطاء معلومات مفصلة عن هذه الحقبة التاريخية المهمة أو على الأقل تُعرفنا على اسمها بتلك الحقبة والعصر - باستثناء نص صغير غير كامل منقوش على كسرة وعاء أو طبق حجري. معظم المصادر والأخبار والمعلومات عن هذه الفترة التاريخية مأخوذة كلها من الكتابات المسمارية التي وجدت عند جيرانها المباشرين أي عند السومريين والأكاديين والبابليين والآشوريين, والمعلومات المستقاة من الجزيرة هي المعلومات المقروءة والمحللة بواسطة اللقى والمكتشفات الأثرية.

          في الطرف الغربي من منطقتي سعد وسعيد وبعمق أمتار عدة عثر على بقايا أركان معمارية جدرانها مبنية من الطوب - اللبن المجفف تحت أشعة الشمس - وأساساتها من الحجر. هذه الأركان هي في أغلب الظن أجزاء من مبنى كبير, ونتيجة قراءة وفحص اللقى التي عثر عليها هنا يرجح أن هذه الأوابد والشواهد المعمارية عائدة وتابعة لمعبد ديني مهم. في ثنايا هذه الأوابد عثر على لقى أثرية كثيرة العدد ومختلفة النوعية منها أوان وقطع فخارية, ومنها بعض الدُمى والتماثيل الصغيرة بالإضافة إلى كسر كثيرة من نوع حجر السيتاتيت القاسي المائل للسواد. على بعض هذه الكسر نقوش وأخرى من دونها, إلى جانب هذه اللقى عثر أيضا على عدد كبير من الأختام الرائعة المنقوشة والمنحوتة برسوم وأشكال جميلة, معظم هذه القطع واللقى هي من الطابع الفني الثقافي الدلموني. كل هذه المكتشفات عائدة لفترة ما يسمى بعصر دلمون المبكر الموازي لعصري السلالات الأولى السومرية والإمبراطورية الأكادية في منطقة بلاد الرافدين, وفترة عصر دلمون المبكر هذه مؤرخة بالأرقام بحدود 2500 إلى2100 قبل الميلاد.

          والشيء اللافت للنظر في هذه اللقى هو الأختام الدائرية ذات المواضيع والرسوم والأشكال الأسطورية القيّمة جدا, فمن خلال دراسة وبحث هذه المواضيع والرسوم والأشكال بالاستطاعة أخذ فكرة وصورة - ولو تقريبية نوعا ما - عن ناس وقوم حضارة دلمون في تلك الحقبة الزمنية وذلك من النواحي: المادية والفنية والفكرية والثقافية إلى جانب الناحية الدينية.

          فقد عثر على 367 ختما, بينهما فقط 61 ختما من أنواع الأختام الأسطوانية المشهورة والعائدة حصراً لحضارات بلاد الرافدين وعدد قليل جدا من نوعية أختام حضارة وادي الهندوس.

          وكل الأختام المحلية, أي الدلمونية, تملك شكلا وهيكلا واحدا, جلّها - دون استثناء - ذات شكل دائري على هيئة قرص مدور ومزينة برسوم وأشكال جميلة وواضحة, رسوم هذه الأختام تمثل أشخاصا بشريين بمناظر مختلفة (جالسة, راجلة, في وضعية عراك, إلى جانب حيوانات متنوعة) ومخلوقات أسطورية خرافية نصفها إنسان ونصفها الآخر ثور - هذا المخلوق معروف كحارس لمداخل أبواب المعابد في حضارات ما بين النهرين - وحيوانات متنوعة (طيور, غزلان, مها, ثيران, عجول, ثعابين, عقارب, قرود بأعداد كبيرة, وقليل من الأسود) وزهور ونباتات وأقراص شمس وأخيرا رايات مزينة برأسها هلال.

          كل هذه الرموز هي رموز دينية عقائدية تعبّدية ذات معنى أسطوري ملحميّ وعلى الأغلب هي أجزاء من ملاحم أسطورية دينية كانت معروفة بشكل مفصل لأصحابها بذلك الزمان. خلفياتها قصص وحكايا ذات مواضيع متنوعة ولكن بغطاء وإطار ديني تعبدي ويغلب عليها مشاهد التعبد والتقرب. من هذه المواضيع: مشاهد تعبّد الشمس, مشاهد تعبد القمر بأطواره, مشاهد تعبد شعارات ورموز للآلهة, مشاهد التقرب للآلهة, مشاهد حماية الحيوانات الأليفة من الكاسرة وإطعامها, مشاهد العراك مع الحيوانات الكاسرة والمتوحشة, مناظر حيوانات معينة كرموز للخصوبة والاستمرار مثل العجول, الثعابين, العقارب ومناظر حيوانات كرموز للقوة (الثيران, الأسود) وإلى ما شابه ذلك.

          الأختام الشخصية كما هو معروف ومتعارف عليه كان لها دوران مهمان في حياة الناس القدامى, دور يرمز إلى الغنى والجاه والمركز الاجتماعي بالإضافة إلى الصفة الإدارية لمهر المعاملات والوثائق والكتابات الرسمية, هذا الرمز بمدلوله هذا مازال ساريا حتى يومنا هذا دون تغيير.

          ولكن الدور الأهم والأقدم للختم بشكل عام هو الرمز الديني, وذلك كحجاب يحتوي موضوعا دينيا عقائديا وظيفته حماية صاحبه من كل سوء وشر. وإبعاد حامله عما يؤذيه ويضرّه ويسيء له. أي أن الختم كانت له صفة التميمة والتعويذة, والتي هي بالمحصلة صفات دينية بحتة, مهمة الحجاب والتميمة والتعويذة لحاملها هي أولا حمايته من كل الأشياء الشريرة التي قد تؤذيه وتضره وثانيا كنتيجة بديهية للصفة الأولى جلب الخير والبركة والتوفيق وكل التمنيات الخيرية والإيجابية لصاحبها.

أحجبة منذورة

          بما أن كل هذه الأختام المنقوشة بمناظر ذات مغزى ديني وجدت فيما يعتقد بأنه معبد ديني فهذا يفسر على أن هذه الأختام ما هي إلا أحجبة نذرية أهداها أصحابها لإلههم الشفيع.

          إلى جانب العدد الكبير والمهم للأختام هناك أيضا كسر أحجار السيتاتيت الكثيرة التي عثر عليها في حرم شواهد المعبد. على إحدى هذه الكُسر, والمرجح أنها كانت جزءا من طبق أو وعاء حجري نذري, آثار نقش لشخصين بشريين يرى منهما فقط اللباس والأرجل. ولكن الشيء الأهم في هذه الكسرة هو بقايا الكتابة المسمارية المحفورة بين الشخصين. الكتابة تقول: معبد الإله إينزاك. كما هو ظاهر النص ناقص, ولكن على الأرجح ومع المقارنة بنصوص مشابهة من بلاد الرافدين ينتقص فقط اسم المنذر أو الهادي وصفته. هذا الإله إينزاك غير معروف في الأدبيات الرافدية, لربما يكون إلها دلمونيا?

          وعادة فإن  النذر في الأديان القديمة يكون لإله الشفاعة عند الناس الذي يقيهم ويحميهم من الشرور ويجلب لهم الخير والبركة, وربما يكون الإله إينزاك هذا هو إله الشفاعة الأولى عند قوم وأهل حضارة دلمون!

          كما سبق أن تعرفنا على ثروات فيلكا الأثرية الجميلة والرائعة العائدة لفترة حضارة دلمون المبكرة ينقصنا بعد لقى وشواهد العصور المتأخرة من هذه الحضارة القيّمة والمهمة والتي على الأرجح لا تزال تنتظر معاول المنقبين لكي تظهر لنا وتكمل معرفتنا عن ذلك الزمن الماضي.

          فيلكا, هذه الجزيرة الصغيرة الواقعة قبالة شاطئ مدينة الكويت, ساهمت - كما رأينا - بدورها الملحوظ والناشط والمهم في نشوء وتطور الحضارات (حضارات بلاد الرافدين وحضارات بلاد وادي الهندوس).

          وبكل جدارة واعتزاز تستطيع فيلكا, هذه الجزيرة التي لا تتعدى بضعة كيلومترات من المساحة, أن تسمي نفسها (جزيرة القوافل والتاريخ).

 

آزاد حموتو   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




 





 





أوان فخارية تم العثور عليها في حفريات جزيرة فيلكا





بعض القطع الأثرية التي ضمتها فيلكا





أحجار باقية اكتشفت في فيلكا





أختام اسطوانية عائدة لحضارة بلاد الرافدين





أوان فخارية ضخمة في الجزيرة