(كراهية تحت الجلد) إسرائيل عقدة العلاقات العربية - الأمريكية

(كراهية تحت الجلد) إسرائيل عقدة العلاقات العربية - الأمريكية
        

يتجول هذا الكتاب بين مشاهد وعصور العلاقات العربية - الأمريكية محاولا الإمساك بقانونها الأساسي, ويتلامس هذا القانون منذ البداية مع إسرائيل كفكرة وكمركب سياسي تاريخي في الوقت نفسه.

          من حيث التركيب الدرامي الكتاب يعرض لعلاقة ثلاثية عجيبة حافظت على ثباتها على نحو طلسمي عبر تحولات التكوين السياسي والثقافي الكوني لفترة تربو على القرنين. فكيف فهم الكاتب هذه العلاقة? لم يلجأ إلى حساب المثلثات الذي لا يسعفنا بقوانينه الهندسية كثيرا في إدراك كنهها. ولا هو لجأ لفهمها بطريقة التركيب الجدلي بين مقولة ومقولة مناقضة وتركيب بين الاثنين يحمل عناصرهما ويتجاوزهما معا. وأقرب تصوير للمنهجية التي تبناها الأستاذ صلاح حافظ هي البنية الملحمية التي تفشي بالسر الدفين منذ التقديم الابتدائي للحكاية وحتى إسدال الستار على آخر فصولها. ورغم أن السر تم إفشاؤه منذ البداية فالراوي لا يتوقف لحظة عن تطريز نسيجها بالطريقة التي وصل بها رواة الملاحم أو المؤلفون الموسيقيون الكبار من عصر الباروك. حيث يتم تتبع (التيمات الأساسية) كل على انفراد ولكن في علاقة متينة مع السر الأصلي أو (التيمة الكبرى) فلا يتمزق النسيج في أي جزء من أجزائه ولا تشعر في الوقت نفسه بالملل من المتابعة التطريزية للتفاصيل ربما بسبب الإثارة الكامنة في طبيعة هذه التفاصيل نفسها وغرابتها, وربما بسبب أنها تتدفق بالحكايات الفرعية الدالة على طبيعة التكوين العام للملحمة الحزينة برمتها, وربما بسبب ما تلقيه كل من هذه الحكايات من أضواء من التحولات المفزعة داخل كل من الأطراف الثلاثة للعلاقة.

          (التيمة) الأساسية أو اللحن الرئيسي في تلك الملحمة الثلاثية, جاءت في الفصل الافتتاحي من الكتاب عندما يؤكد صلاح الدين حافظ أن (إسرائيل والحركة الصهيونية) هي (عقدة العقد في العلاقات الأمريكية بالعرب وبالعالم الإسلامي). وتمثل هذه التيمة أيضا إجابة صلاح حافظ عن السؤال الذي يطرحه الأمريكيون بعد 11 سبتمبر وهو لماذا نكرههم. وهو أيضا الإجابة عن السؤال الذي يطرحه هو نفسه على الأمريكيين, وهو لماذا يكرهوننا? وبطبيعة الحال يرصد صلاح حافظ دور إسرائيل في غرس الكراهية للعرب والمسلمين في النفس الأمريكية سواء من خلال دور اللوبي الصهيوني في تأليب الأمريكيين ضد العرب وإشاعة صور نمطية سلبية عنهم في وسائل الإعلام وعبر مختلف الوسائط الثقافية, أو من خلال التلاعب بالكونجرس والإدارة والسياسة الأمريكية بشكل عام.

          ولكن إسرائيل ليست مجرد دولة بعينها, وإنما هي قبل ذلك زمنيا ومعرفيا (فكرة). والسر الأهم من دور إسرائيل أو الحركة الصهيونية الحديثة في تأليب الأمريكيين ضد العرب والمسلمين, كامن في طبيعة الأيديولوجيا المؤسسة للدولة الأمريكية ذاتها. وهنا يتتبع صلاح حافظ جذور التعصب ضد العرب والمسلمين إلى صهاينة الرؤية البروتستانتية للعالم منذ نشأتها في بداية القرن السادس عشر.

          ووفقا لما جاء في الفصل الأول, فإن جذور الكراهية والصدام بين أمريكا والعرب حملت بعض البذور الأولى للصراع وخاصة الحروب الصليبية. ولكن تلك الجذور امتدت في أمريكا بطريقة خاصة بسبب تكوينها ذاته. فالدستور الأمريكي ذاته كرس الدور التبشيري للدولة الأمريكية, فالبشارة بالحلم الأمريكي كانت مفعمة منذ البداية بالروح الدينية والتي بلورها جون أوسوليفان كنوع من المصير الذي سيشهد عبر العظمة الأمريكية (سمو المبادئ الإلهية) التي سيقدر لها قيادة العالم بفضل أن كل أمريكي يعمل على تحقيقها.

          وهنا يتساءل المؤلف (أليست هذه المبادئ المأخوذة من فكرة المصير المبين والمهمة الرسولية لأمريكا هي المحرك الفلسفي للسياسات الأمريكية المختلفة منذ أول رئيس في ظل الاستقلال - جورج واشنطن - حتى آخر رئيس?).

          ولكن هذه الرؤية التبشيرية كانت منذ البداية أيضا موحدة بالكامل مع فكرة إسرائيل. فقد نشأت الفكرة في أحضان البروتستانتية الأوربية, إذ تم تهويد الكنائس البروتستانتية, وخاصة الكلفانيين والتطهريين الذين آمنوا بتفسير وضعي للنبوءات النورانية أو المأخوذة من التلمود, وخاصة نبوءة عودة المسيح إلى الظهور بين اليهود وفوق (أرض صهيون) لكي يخلص المؤمنين من الخطيئة والعذاب, ثم يتربع على عرش العالم لمدة ألف عام حتى تقوم القيامة.

          فحتى تتحقق النبوءة لابد إذن من إعادة تجميع اليهود في فلسطين وإقامة وطن قومي لهم, هذه اللحظة الفارقة في تاريخ الفكر واللاهوت الديني غرست الجذور الأولى للمسيحية الصهيونية في التربة الثقافية وفي المركب الثقافي الأيديولوجي الذي ظل مهيمنا على الفئة المسيطرة في أمريكا منذ البداية حتى الآن وهي المعروفة باسم (الواسب) أي البيض من أصول أنجلو سكسونية ويدينون بالبروتستانتية. وتسربت تلك العقيدة منذ البداية إلى صلب الإيمان الديني والتكوين الثقافي الأيديولوجي للبروتستانت بمكوناتها الثلاثة أي: أن اليهود هم شعب الله المختار, وأن ميثاقا إلهيا يربط اليهود بأرض فلسطين, وأن قيام دولة صهيون يرتبط بعودة المسيح ويعد أهم مؤشر له, ولقيت تلك العقيدة البروتستانتية حول مملكة الرب ودور اليهود ودولتهم في تحقيق نبوءتها دعما سياسيا هائلا بداية في إنجلترا بعد تحولها إلى البروتستانتية. ولكن الانطلاقة الحقيقية لهذا التحالف الديني والسياسي بين البروتستانتية والصهيونية تحققت في أمريكا, فإضافة إلى الأصول الدينية للتحالف وقعت مشابهات كثيرة بين تكوين أمريكا والفكرة الصهيونية وخاصة التشابه البنائي في (الدور الريادي) للمهاجرين الأوائل في استعمار كل من فلسطين وأمريكا وعلاقتهم بالسكان الأصليين. وسريعا ما تطورت النبوءة الدينية إلى سلوك, ثم تحالف سياسي وهو ما نراه فاعلا الآن في العلاقة بين الحركة الصهيونية المسيحية من ناحية والحركة الصهيونية من ناحية أخرى. فمن هذه الجذور (أينعت تيارات فكرية ودينية ومنظمات سياسية ومذهبية قوية التأثير وواسعة الانتشار وتدفقت عبرها المساعدات والمعونات لإسرائيل وتدفقت في الاتجاه الآخر - بتلازم حتمي للغرابة - موجات الكراهية والعداء للعرب والمسلمين).

          هذه الجذور الأولى تساعد على فهم العلاقة الثلاثية المعقدة بين العرب وأمريكا من خلال إسرائيل, لأن الصراع الراهن ـ في تقدير الأستاذ صلاح حافظ ـ هو في الجوهر صراع بين أصوليين. وهنا يعود المؤلف في الفصل الثاني إلى ما حدث في 11 سبتمبر, ويقول إنه حقق هدفا استراتيجياً تصوّره البعض ضد أمريكا ظاهريا ولكنه (حقق الهدف الاستراتيجي ضد العرب والمسلمين عامة) لأنه أحيا وأعاد إنتاج منظومة العداء لكل ما هو عربي ومسلم فيما أصبح يعرف بظاهرة الإسلاموفوبيا في الغرب. ويدلل على هذا التحليل بالإجابة عن السؤال التالي, من صاحب المصلحة والمستفيد الحقيقي مما جرى? ويحدد هؤلاء في أولا: بعض الجماعات العربية والإسلامية المتطرفة التي أحبطتها واستفزتها السياسات الأمريكية المساندة على طول الخط لإسرائيل. وبعض هؤلاء وخاصة تنظيم القاعدة حظي بدعم أمريكي لفترة طويلة. وثانيا: بعض التنظيمات والميليشيات العسكرية الأمريكية المتطرفة الرافضة للدولة الفيدرالية. وثالثا: إسرائيل وهي المستفيد الأكبر وهي الأكثر قدرة على تخطيط وتنفيذ ما جرى بكل هذه الدقة.

إسلاموفوبيا

          ويتأمل صلاح حافظ نزعة العداء للإسلام (الإسلاموفوبيا) في الفصل الثالث من الكتاب. فتجوّل بين الرواسب التاريخية التي تملي جذور هذا العداء, ولكنه لا يرد هذه النزعة للماضي وحده. فيقدم شهادات من أوراق بعض مراكز البحث التي تقترح على الغرب وأمريكا خاصة المصادرة على احتمالات صعود بعض القوى البديلة وخاصة روسيا واليابان والصين, إضافه إلى العالم الإسلامي أيضا. ورغم تشككه في صحة هذه النظرية بالنسبة للأخير, فإنه يسجل تلك الطائفة من الأسئلة النمطية التي يبادر بطرحها الصحفيون والكتّاب الغربيون وجميعها تلتقي حول استمرار ظاهرة التطرف الديني في العالمين العربي والإسلامي ليؤكد قوة هذه المخاوف. وهو ينسب هذه الحمى إلى تفاعل ثلاث ظواهر هي البحث عن عدو بديل بعد انهيار الاتحاد السوفييتي والكتلة الاشتراكية والتطرف والتعصب الذي لازم بعض تيارات (الصحوة الإسلامية) واستغلال الحركة الصهيونية لهاتين النزعتين الأخيرتين لتلقي الزيت على النار وتشعل حروبا دينية ليست في مصلحة المسيحية الغربية أو الإسلام الشرقي.

          ولا يعفي المؤلف العرب والمسلمين من بعض المسئولية عن هذه الظواهر كلها. فبعضنا يساعد الغرب على تحقيق أهدافه. (فالفشل في إدارة أمورنا والسفه في إنفاق مواردنا والإغراق في الجهل, وممارسة القمع والديكتاتورية والانحراف نحو التطرف والإرهاب هي جريمتنا نحن التي يجد فيها الغرب مبررا لإعادة احتلالنا والهيمنة على قرارنا سواء بالوكالة عن طريق إسرائيل أو مباشرة بقواته...).

          ويعود صلاح الدين حافظ في الفصلين الثالث والرابع إلى الصدام بين الغرب والحركات الإسلامية, باحثا عن علامات النبوءة المشئومة التي تقول مع هنتنجتون بصراع الحضارات والأديان. ويرصد التحول من التحالف إلى الارتطام بين الطرفين. ففي مرحلة التحالف استفاد الغرب من قدرة التيارات الإسلامية على مقاومة النفوذ السوفييتي واستفادت الأخيرة من الدعم الغربي في تحدّيها للنظم القومية والفلسفات اليسارية, ولكن تلك الانتهازية السياسية انفجرت في النهاية موقظة معها هواجس الشك الملغوم والمترسب عبر موروثات الماضي, ويحدد هذه الموروثات في خمس موجات للصراع بين الشرق والغرب وهي الصعود الأول للدولة الإسلامية وخاصة في الأندلس وبيزنطة, والثانية هي موجة الحروب الصليبية, والثالثة جاءت مع حركة الكشوف الجغرافية وبدأ معها الاستعمار الأوربي الحديث, والرابعة ارتبطت بصعود واضمحلال الإمبراطورية العثمانية, والخامسة ارتبطت بسيادة الاستعمار الأوربي وسقوط القدس بيد الحركة الصهيونية.

          ويتابع تحوّلات العلاقة بين الحركات الإسلامية السياسية والغرب عبر مرحل متعددة أيضا, ويسأل هل أصابت التيارات المتطرفة? أم أخطأت بنقل عملياتها داخل أمريكا? ويجيب بأنها (أخطأت لأنها وقعت في شرك القوة التي لا ترحم, وأصابت لأنها نبهت أمريكا إلى أن رهاناتها كانت خاسرة خاصة رهانها الشهير على الشيخ عمر عبدالرحمن مفتي الجماعة الإسلامية, ثم رهانها بعد ذلك على أسامة بن لادن... حين اختلفت المصالح وتغيرت الأهداف...). ويبدي المؤلف اهتماما خاصا بخمس محطات للعلاقة وهي الثورة الخومينية في 78-79 والحالة الأفغانية وتكشف التجربة الجزائرية, ثم أزمة الخليج الثانية, وأخيرا بروز الصراع حول النفوذ في الدول الإسلامية التي تحررت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي, والمؤلف ينسب جانبا من المسئولية عن صعود التيارات المتطرفة إلى الغرب نفسه وأمريكا بوجه خاص, ولكنه يرده بصورة أقوى إلى سيادة الشعور بالضياع وفقدان الهوية عند المجموع العربي والإسلامي العام.

          في الفصل الخامس من الكتاب يعود المؤلف إلى (التيمة الرئيسية) في تحليله كله وهي أيضا أقوى ما فيه من ناحية المحتوى المعلوماتي والركيزة التفسيرية, وهي صعود الأصولية في الغرب نفسه وفي أمريكا تحديدا, وهو يركز هنا أولا على صعود ما يسمى بـ(التحالف المسيحي) بقيادة بات روبرتسون. ويرصد المؤلف تحولات القس من ازدراء اليهود وعزو ما يراه من هجوم على المسيحية الأمريكية إليهم, إلى التحالف مع إسرائيل والحركة الصهيونية الأمريكية والعالمية. ففي كتاب روبرتسون عن (النظام العالمي الجديد) يتحدث عن المؤامرة العالمية التي يقودها اليهود للسيطرة على العالم عبر التحكم في الحركة المالية والاقتصادية العالمية. وهو يتحدث عن عالم أو جماعة سرية تطبق مؤامرة شيطانية ضد المواطن والأخلاق المسيحية, ويربط بين قوى سياسية وجماعات لا رابط بينها سوى الانتماء لليهودية على النحو نفسه الذي سجله كتاب (بروتوكولات حكماء صهيون). فيدين الاستنارة وعالم المال والبنوك الذي تجسده أسرة روتشلد والحركة الشيوعية والمحافل الماسونية. ومثله مثل كثيرين قبله من مختلف الأيديولوجيات يعزو ظاهرة الحروب الأوربية الحديثة إلى الفوائد المركبة وقوة المال المصرفي (اليهودي), والخداع الذي مارسته وزارة الخارجية الأمريكية والمخابرات المركزية بصدد قوة الاتحاد السوفييتي... إلخ. بل ويتهم ضمنا إدارة بوش الأب بإرسال علامات خادعة لصدام حسين من أجل إشعال حرب الخليج الثانية من أجل تعزيز الإنفاق العسكري.

          ويتناول المؤلف الأوجه الأخرى للأصولية الأمريكية والتي يجسدها نحو مائة منظمة وميليشيا عسكرية وشبه عسكرية مثل منظمة الأمم الآرية وحراس القدر والحزب القومي الاشتراكي الأمريكي (النازي) والوطنيين الأحرار وحماة الدستور... إلخ, (حيث ينمو فيها التطرف الديني والعرقي بسرعة بفضل متطرفين دعاة من أمثال روبرتسون, وغيره كثيرون, يمرحون في المجتمع الأمريكي صاحب التقاليد والأفكار الليبرالية والقيم الديمقراطية والاستنارة والتطهر والتسامح!!).

اللوبي اليهودي

          أما في الفصل السادس فيركز المؤلف على (خميرة الكراهية) أي اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة, ويتميز اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة بأنه يقوم على جالية لا تزيد نسبتها على 2% من مجموع السكان, ولكنها تتميز بالمثابرة والإيمان الديني السياسي الذي يجعلها أكثر حماسا واستعدادا للتضحية من أجل استمرار المشروع الصهيوني وبناء إسرائيل الكبرى من خلال مئات من المنظمات اليهودية المعمقة والمتعملقة في المجتمع, وتمكن اللوبي اليهودي خلال العقود الثلاثة الأخيرة من التحول إلى قوة يهودية قوية تستطيع التأثير على المجتمع من قاعدته إلى قمته والنفاذ إلى أعلى المناصب وأشدها تأثيرا وحساسية في المؤسسات الأمريكية. فارتفع عدد أعضاء الكونجرس من اليهود من اثنين فقط في مجلس الشيوخ و12 في مجلس النواب في بداية السبعينيات إلى 10 شيوخ و33 نائبا في مجلس النواب في عقد التسعينيات, وبوسعنا أن نضيف - بالطبع - النفوذ شبه الاحتكاري في هوليوود, والوزن الهائل في مجال المصارف والإعلام التلفازي والصحافة. وفي إدارة كلينتون شغل اليهود مناصب أربعة وزراء ومستشار الأمن القومي ورئيس وكالة الاستخبارات المركزية و13 مستشارا في البيت الأبيض و24 سفيرا, إضافة إلى عشرات من المناصب العليا الأخرى. ويورد المؤلف شهادات أربعة من أهم المتخصصين في هذه القضية وهم شيريل نورمبرج الأستاذ بجامعة فلوريدا, ونعوم شومسكي المفكر اليهودي الأمريكي التقدمي المعروف, وبول فندلي النائب السابق في الكونجرس الذي تمكن اللوبي الصهيوني من استهدافه وإسقاطه من منصبه, وهنري فورد وهو واحد من أهم الأسماء في عالم المال والأعمال الأمريكية. وتتفق هذه الشهادات جميعا لا على الوزن الخطير للوبي اليهودي وقدراته الفذة فحسب, بل وعلى دوره في التحيز الأمريكي ضد العرب أيضا.

          وفي الفصل الختامي من الكتاب, يسوق المؤلف أمثلة عجيبة عن الابتزاز السياسي والثقافي الذي يمارسه اللوبي اليهودي من أجل إفساد العلاقات العربية ـ الأمريكية وإضفاء مناخ من القداسة على الأساطير السياسية التي يقوم عليها المشروع الصهيوني. إن جانبا من هذا الابتزاز يهتم بإعادة كتابة تاريخ مزور للمنطقة وجعل الاتهام بمعاداة السامية قتلا نهائيا لأي شخص أو جهة قد تقف أمام تلك الأساطير. وهناك جانب ثان هو نشر الاسلاموفوبيا وتغذيتها على كل المستويات الأمريكية. وباستخدام إمبراطوريات الإعلام والثقافة والصحافة والإنترنت (نجح اللوبي الصهيوني في اللعب بمشاعر الخوف والفزع لدى الأمريكيين من هاجس (الإرهاب الإسلامي) مستغلا لا فقط أحداث 11 سبتمبر, وإنما أيضا واقع المجتمعات العربية الذي لا يمكن الدفاع عنه من انتهاك لحقوق الإنسان).

          وينتهي المؤلف بوضع أفكار ومقترحات للتعاطي الفعال عربيا مع هذا الواقع من خلال الحوار الجاد والمتكافئ مع الداخل الأمريكي بدءا بالعرب والمسلمين وصولا إلى مؤسسات المجتمع المدني التي تعمل على المستوى التحتي ومعالجة القصور الإعلامي بخطة صبورة وطويلة المدى.

          هذه هي باختصار أفكار هذا الكتاب المهم. فكيف نناقشها?

          لعلنا نتناول الأفكار الأساسية في هذا الكتاب من مداخل أربعة. (المعمار - التوازن التحليلي - التفسير - الرؤية).

المعمار الكتابي

          المدخل الأول يتصل بالمعمار العام للكتاب وهو لا ينفصل عن مضمونه, فالكتاب كما قدمنا يقوم على (تيمة أساسية) وهي التماثل والتشابك البنائي بين الثقافة الأمريكية وقاعدتها الدينية من ناحية, والتكوين الصهيوني من حيث الفكر والممارسة من ناحية أخرى, ومن هنا يأتي التحالف بين الأصولية المسيحية والصهيونية اليهودية.

          والواقع أن هذه الفكرة لا تكفي لفهم السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط لأسباب كثيرة, إذ يقوم هذا التحليل هنا على البعد الثقافي الديني, بينما تشتق السياسة الخارجية من عوامل عديدة منها طبيعة النظام السياسي وخبراته السياسية وتكوينه الأيديولوجي ومصالحه الاستراتيجية والاقتصادية وطبيعة النخبة السياسية وغيرها من العوامل, ومن الناحية العلمية يجب أن نؤسس بوضوح للقنطرة أو لحزام النقل والتأثير بين العوامل الثقافية وعملية صنع السياسة الخارجية في نظام سياسي محدد مثل النظام الأمريكي, وقد اقترب المؤلف من الإمساك بهذا الحزام عندما تحدث بإسهاب عن اللوبي اليهودي كأحد أحزمة النقل للتأثير من المجال الثقافي الديني إلى المجال الخاص بصنع السياسة الخارجية.

          ولكن هذا الحديث يقودنا إلى عامل متغير ومن ثم إلى الأدلة المضادة للتيمة الأساسية للكتاب وهي فيها فكرة بنائية. أي التماثل والتشابك بين الأساطير الصهيونية من ناحية, والنبوءات الإنجيلية من ناحية أخرى. فرغم العمق التاريخي للوجود اليهودي في الولايات المتحدة لم يكن اللوبي اليهودي يملك في الماضي البعيد إمكانات التأثير التي يملكها الآن, وعلى النقيض فإن الجالية اليهودية ـ رغم قدم وجودها ـ  كانت تعاني من التمييز السياسي ربما حتى وقت قريب أو نهاية الخمسينيات, وهو الأمر الذي يفسر مشاركة اليهود في حركة الحقوق المدنية. وجاء جانب من هذا التمييز في المجال نفسه الذي ينسب له المؤلف الفضل في العلاقة الخاصة بين أمريكا وإسرائيل: أي تأثير البروتستانتية على التكوين الثقافي والأيديولوجي التاريخي للأمريكيين, وخاصة في الجنوب حيث تزدهر حاليا الحركة الأصولية المسيحية. فمثل العداء للسامية أحد الجوانب البارزة لهذا التكوين, إلى الحد الذي جعل قضية الهجرة اليهودية إحدى القضايا التي كانت تناقش دوريا في الكونجرس في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وتواجه بالعداء حتى من جانب رؤساء أمريكيين بارزين.

          وحتى من دون هذا - استدعاء التمييز سياسيا ضد اليهود - لم ينجح اللوبي اليهودي في قطع الطريق على, القرارات الكبرى للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط, أو بعض جوانبها, مثل قرار الرئيس الأمريكي إيزنهاور بمعارضة العدوان الثلاثي على مصر, ونجاحه في الضغط على بن جوريون لسحب قواته التي احتلت سيناء عام 1956.

          وبصفة عامة فإن المؤلف يخطئ في التدليل على صحة (التيمة الرئيسية) في تفسيره للعداء الأمريكي للعرب وتأييد أمريكا للمشروع الصهيوني انطلاقا من عمق النبوءة الإنجيلية في الثقافة السياسية للأمريكيين بمجرد الإشارة إلى هذه النبوءات أو للتماثل البنائي بين تجربة استعمار أمريكا وتجربة استعمار فلسطين وما تشتمل عليه التجربتان من أساطير مثل أسطورة الحدود أو Frontier الأمريكية, وأسطورة الرواد أو أسطورة العمل اليهودي الصهيونية والتي جسدت في حركة الكيبوتزات وفي الاستيطان الزراعي عموما.

          فالمجتمع الأمريكي رغم سيادة هذه الأساطير على تكوينه الأيديولوجي التاريخي كان دائما أكثر تعقيدا بكثير من أن يفسر تحيزه لإسرائيل بالإشارة إلى المسيحية الصهيونية أو النبوءات التوراتية والإنجيلية. فقد كانت هناك أيضا ثقافة علمانية مسيطرة وخاصة في الشمال الغني مقارنة بالجنوب الفقير الذي تأثر بدرجة أكبر بالرؤى المسيحية. والواقع أن الفكرة الصهيونية لم تكن تهم في شيء أغلب الأمريكيين في الماضي, ولم يكن المجتمع الأمريكي القديم يهمه كثيرا أن يكوِّن اليهود دولة في فلسطين لأن شئون العالم القديم لم تكن تشغل حيزا كبيرا في فكره السياسي الداخلي أو الخارجي. والواقع أن أغلب الساسة والخبراء الأمريكيين الذين كلفوا بدراسة الشأن الفلسطيني والإسرائيلي خلال النصف الأول من القرن العشرين أبدوا تعاطفا كبيرا مع محنة الشعب الفلسطيني. وتعين على الصهاينة الأمريكيين القيام بمؤامرات حقيقية بما في ذلك حجب توصيات لجان أو شخصيات مكلفة من جانب رؤساء أمريكيين بدراسة ملف الصراع العربي ـ الإسرائيلي وإبداء توصيات للسياسة الخارجية.

          ويتناقض هذا الواقع التاريخي مع القوة المذهلة التي يتمتع بها اللوبي اليهودي الآن. كما يتناقض مع الاستعداد الغريزي لتأييد إسرائيل لدى مؤسسات معينة وخاصة الكونجرس. ويحتاج تطور النفوذ اليهودي إلى تفسير لا يقوم بالضرورة على القوة المتأصلة لدى هذا اللوبي. فالواقع أنه لو قرر رئيس أمريكي ـ يتمتع بالشعبية ـ مقاومة هذا النفوذ لتمكن من سحقه ومن إثارة معارضة الأمريكيين العلنية له. وهو ما لم يحدث لأسباب لا بد من دراستها خارج أطر اللوبي نفسه أو ما يتمتع به اليهود عموما من نفوذ في الإعلام أو أكاديميا أو حتى في دوائر المال والأعمال, بل وبوسعنا القول إن المجتمع الأمريكي ليس راضيا تماما عن تتبيع سياسة بلاده لإسرائيل, وأن هناك أرضية واسعة للسخط على هذه الحقيقة.

          ومع ذلك فهذه العيوب لا تضر هذا الكتاب باعتباره فكرا سياسيا. فالكتب قد تأخذ بأحد أسلوبين في بناء منطقها أو معمارها.الأول يقوم على فكرة تعدد العوامل, وهنا يقوم المؤلف بتغطية عدد من العوامل قد تنتمي لعدد من المجالات بغض النظر عن إعطائها وزنا متساويا أو اكتشاف ثقل خاص لعامل معين بعد تغطية الموضوع من جوانبه المختلفة. ولا شك في أن هذا النوع من الكتب له قدرة أكبر على إقناع العلماء والمثقفين. ولكن يعيب هذا المعمار أنه يفقد التركيز وبالتالي البساطة والوضوح التحليلي. وعادة ما لا يكون له تأثير كبير من حيث القيمة الاقتراحية مقارنة بالتركيز على فكرة جوهرية واحدة. هذا النوع الثاني من المعمار التأليفي قد يخاطر بالدقة والشمول, ولكنه يمنح العمل وضوحا فريدا ويركز ذهن القارئ ويؤسس لقدرة اقتراحية كبيرة. ولهذا السبب يفضل الفلاسفة والمفكرون مقارنة بالباحثين العلميين الأخذ بهذا المعمار.

التوازن التحليلي

          البعد الثاني يرتبط بالأول لأنه يخص مسألة التوازن التحليلي. ونعني بذلك قدرة المؤلف على منحنا تصويرا واقعيا (أو موازيا للواقع) للموضوع الذي يتصدى لشرحه سواء من حيث دور الفاعلين المختلفين, أو من حيث الأفق التاريخي للعلاقة أو من حيث أبعادها, وهذا التوازن يتوقف على قدرة المؤلف على الاستقلال النسبي عن عاطفته من أجل الوصول إلى تقويم عادل للأدوار والأسباب من حيث إفراز ظاهرة ما, مثل التحيز الأمريكي الأعمى لإسرائيل أو بالأحسن إنتاج نمط العلاقة بين العرب وأمريكا كما تطورت من منظورات متعددة.

          ولا مناص من الاعتراف بأن الكتاب قد فقد هذا التوازن في بنيته الكلية. وقد نشأ ذلك عن عيب آخر في المعمار الهائل لهذا الكتاب المهم, فهو وعدنا بدراسة نسق تفاعل بين الثلاثي: أمريكا - إسرائيل (والحركة الصهيونية عموما) والعالم العربي والإسلامي, ولكن ما قدمه الكتاب يركز بصورة شبه أحادية على الجانب الأمريكي وحده, ويتسق هذا التركيز مع (التيمة الرئيسية) في الكتاب كله كما أشرنا إليها من قبل. وبينما قد نقبل أو لا نقبل التسليم بصحة هذه (التيمة) فإن دراسة نمط تفاعلي هو شيء آخر تماما, ذلك أن تلك التيمة قد تفسر التحيز الأمريكي لإسرائيل ولكنها لا تكفي لفهم (العلاقات العربية ـ الأمريكية) وهي من حيث المصطلح تقوم على تفاعل لا شك في أن إسرائيل طرف مهم فيه. ومن أجل فهم هذا النسق التفاعلي كان لا بد من مناقشة الأداء العربي ودوره في التكون التاريخي للعلاقات. وأبسط ما يقال في ذلك أمران: الأول هو أن الكتاب لا يفسر جميع جوانب العلاقة الأمريكية - العربية. وكأنه يفترض أن التحيز الأمريكي لإسرائيل يكفي لفهم هذه العلاقة وهو افتراض خاطئ. فموقف عرب الخليج من أمريكا لا يختلف فقط عن موقف غيرهم, بل وقد يقوم في تناقض مباشر مع غيرهم, ذلك أن (تموضع) العلاقة جاء منذ البداية مختلفا, إذ لا تحتل أمريكا المكان أو المكانة نفسها سواء في مجال الاقتصاد أو الأمن الخليجي الذي تحتله في الأمن أو الاقتصاد المغاربي, أو بالنسبة لمصر والسودان وسوريا واليمن مثلا, هذا الاختلاف قد يفسر لماذا تستمر العلاقة في النمو مع دول الخليج ومصر مثلا رغم التحيز الأمريكي الكامل لإسرائيل. كما أن هذا التفسير القائم على التحيز الأمريكي لإسرائيل لا يكفي مطلقا لفهم أسباب الحرب التي شنتها أمريكا على العراق مرتين: عام 1991 وعام 2003.

          ويتصل ذلك بجانب آخر وهو ما يشبه إعفاء العرب من المسئولية عن التدهور المستمر منذ عقود للعلاقات العربية - الأمريكية. وقد بدا أن الاستاذ صلاح حافظ قد اقترب أحيانا من مناقشة الدور أو السياسات العربية أو الطريقة الفريدة التي يظهر بها العرب للأمريكيين أو غيرهم من الدول والمجتمعات. ولكنه اكتفى ببعض الجمل العابرة لكي يعود للتركيز بصورة أحادية على الجانب الأمريكي. والواقع أن ما يتوافر من معلومات حديثة يشير إلى أنه كان من الممكن دائما أن يقوم العرب بدور إيجابي حتى في إطار القيود الفظيعة التي تحبس سياستهم الخارجية عموما, ومواقفهم من الولايات المتحدة بصورة خاصة, وعلى سبيل المثال قدمت الواشنطن بوست في فبراير من العام الماضي رواية تفصيلية عن قيام الأمير عبدالله ولي العهد السعودي بتهديد الرئيس الأمريكي بإجراءات انتقامية لو لم يعدل من سياسته المتحيزة لإسرائيل وهو ما كان الأخير يوشك على القيام به لولا أن وقعت أحداث 11 سبتمبر. وقد تكون هذه الرواية غير صحيحة أو مبالغا فيها (حيث كان مصدرها سفير المملكة في الولايات المتحدة وهو مصدر متحيز بالمعنى العلمي), ولكن كان من الضروري مناقشة مثل هذه الرواية وغيرها حتى يمكن استنباط منطق أو قانون من نسق تفاعلي ثلاثي الأضلاع. واقترب المؤلف أيضا من بعض الركائز المنهجية لفهم هذا النسق. فهو ليس مثل غيره من الكتّاب العرب الذين لا يبدون أدنى استعداد لتحميل الجانب العربي مسئوليات أساسية في تدهور الموقف الأمريكي لصالح إسرائيل. بل ينسب بعض هذه المسئولية سواء للحكام العرب أو للأصولية الإسلامية, ولكنه لا يعطي هذا الجانب الاهتمام الذي يستحقه بالبحث الأصيل والمتعمق.

          بل إن المؤلف لم يعط الجانب الثالث من العلاقة - أي إسرائيل والحركة الصهيونية - الاهتمام الذي يبشر به العنوان الفرعي للكتاب: أي إسرائيل كعقدة العلاقات. صحيح أن التيمة الأساسية للكتاب تشير إلى دور اليهود وإسرائيل, وصحيح أن الفصل الثالث كله خصص لهذا الجانب, غير أن ما جاء في البنية العامة أو في الفصل السادس لا يشفي الغليل ولا يجيب عن أسئلة كبرى بل  أهم الأسئلة على الإطلاق وهو لماذا ركزت الحركة الصهيونية على الإساءة للعلاقات العربية - الأمريكية وخاصة في العقود الثلاثة الأخيرة? يبدو مجرد طرح السؤال أمرا مدهشا بمعنى أنه يسأل عما هو بديهي, ولكن ما هو بديهي غالبا ما يخفي أسرارا مهمة أو بنيات مادية وعقلية جديرة بالدهشة. فلا شك في أن إسرائيل لا تستطيع الحياة في منطقة تكرهها بهذا العمق والاتساع إلى الأبد. ولا بد أن بعض عقلائها قد أدركوا - حتى من منطق صهيوني بحت - أن أمريكا بعيدة جغرافيا وأنه من الخطأ التعامل مع إسرائيل كامتداد للولايات المتحدة - أو العكس - على حساب المنطقة. ومن ناحية أخرى فإن صلب الأيديولوجية الصهيونية لا يعفي حتى الولايات المتحدة من جانب من المسئولية عن اضطهاد اليهود, أو من الاعتقاد بحتمية الصدام بين اليهود والأغيار وهو ما يعني حتمية الاستعداد لهذا اليوم الذي قد تنقلب فيه أمريكا على (اليهود). وتحسين العلاقة مع العرب هو جزء من هذا الاستعداد. والواقع أن هذا المنطق ليس غائبا تماما عن ذهن العديد من المفكرين اليهود بل والصهاينة, فلماذا تتملك المؤسسة الصهيونية هذا العداء الممسوس للعرب بالرغم من ذلك. هذا واحد من أسئلة عديدة كان لا بد من طرحها? سؤال آخر لا يقل أهمية وهو لماذا يتعاظم نفوذ اليمين على حساب اليسار الصهيوني في الولايات المتحدة مع الزمن? وهناك طائفة لا تنتهي من الأسئلة الخاصة بالفكر والسياسة الصهيونية في الولايات المتحدة غير موضوع اللوبي.

الكفاية التفسيرية

          المدخل الثالث للموضوع هو القدرة التفسيرية, وقد أشرنا لهذا الجانب من قبل. غير أنه من المهم أن نلقي مزيدا من الضوء عليه, فيما يتصل بقضايا نوعية عديدة ذات صلة مسيسة بالموضوع. أولى هذه القضايا هي الحاجة لمناقشة تفسيرات أخرى حتى في سياق تقديم تفسير محدد يقوم على الجانب الثقافي الديني, والقضية الثانية تتعلق بتفسير حركة التناقضات في التفسير الثقافي الديني نفسه. أما القضية الثالثة فتتعلق بالتناقض بين التفسير من ناحية والاقتراحات الخاصة بحل عقد العلاقة من ناحية ثانية.

          ولنبدأ بالقضية الأخيرة, فالمؤلف يوصي أساسا بإعمال آليات الحوار المتوازن لتصحيح العلاقات العربية - الأمريكية, ولكن هذا الحل لا يعالج العقدة التي يفسر بها اعتلالها, فإذا كان التحيز الأمريكي لإسرائيل كامناً في الثقافة والدين فكيف يمكن للحوار إنهاء هذا التحيز?

          والواقع أن التفسير القائم على الدين لا يجيب كما أشرنا من قبل عن أسئلة كثيرة, ولكن المؤلف أيضا لا يقدم تفسيرا لتناقضات هذا التفسير الثقافي الديني, فإذا كان الدين يقدم تفسيرا قويا لتوقعنا أن يكون المتدينون هم الأكثر تحيزا والأقل توازنا في موقفهم من الصراع العربي - الإسرائيلي. ولا يبدو أن ذلك صحيح, كما لا يبدو أن تأثيره كان متجانسا أو قويا طوال الوقت, وعلى سبيل المثال فإن أغلب الكنائس الأمريكية بما في ذلك مجلس الكنائس الأمريكي يؤيد حلا متوازنا للصراع العربي - الإسرائيلي يقوم على فكرة الدولة الفلسطينية وأفكار مختلفة للتعامل مع القدس الشرقية لا ترضي على الأقل التيار اليميني في إسرائيل, وأعلن المجلس بما في ذلك الكنائس المعمدانية والمشيخية هذا الموقف عدة مرات خلال السنوات الأخيرة. بل إن بعض الكنائس تأخذ بموقف أقوى لصالح الشعب الفلسطيني. بل إن المؤلف لا يقدم تفسيرا للتحول في موقف القس بات روبرتسون زعيم حركة (التحالف المسيحي) الذي استشهد بكتبة من اليهود.

          والواقع أنه كان من المهم أن يناقش المؤلف وهو مطلع اطلاعا عميقا على الأدبيات الوفيرة بخصوص تفسير السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط طائفة النظريات الأخرى حتى لو كان يحسم موقفه لصالح التفسير الثقافي الديني, ذلك أن أفضل تقديم لأي تفسير حول الذي يعين حدود صحته بالنظر إلى أبعاد أخرى للتفسير حتى لو لم يكن يقبلها. وعلى سبيل المثال كان لا بد أن يناقش بسرعة نظريات الاقتصاد السياسي وخاصة فيما يتعلق بالنفط الذي يلعب دورا مهما بكل تأكيد في السياسة الأمريكية نحو الشرق الأوسط.

الرؤية

          وأخيرا يمكن مناقشة الكتاب من زاوية الرؤية. ونعني بالرؤية تلك الاستبصارات التي تنفذ إلى أعمق جوانب القضية فتجعلنا نمسك بخيوطه وتمكننا من حل عقده.

          ولا شك في أن أهم هذه العقد هي حالتنا نحن العرب و(المسلمين). إن هيمنة التخلف والاستبداد والتهميش الكامل بل والتدمير المنظم للمجتمع المدني والثقافي العربي خلال الخمسين سنة الأخيرة هي أحد أهم العوامل التي تفسر التدهور المتعاظم للسياسة الأمريكية في المنطقة وللعلاقات العربية - الأمريكية. والمؤلف يشير لهذا العامل, ولكنه لا يجعله مفتاحا مهما في التفسير أو في الحل المقترح لعقد العلاقة, فالمهم ليس فقط الإشارة للقضية وإنما امتلاك رؤية حول المستقبل العربي عموما ودور السياسة الخارجية فيه بما في ذلك إدارة العلاقة مع أمريكا. فهناك من يرى النضال ضدها على طول الخط ولكنه لا يشرح كيف يمكن حسم المعركة مع الولايات المتحدة بل ولا من سيخوض هذه المعركة في عالم عربي ممزق, وهناك من يرى القفز إلى العربة الأمريكية ولكنه لا يقدم أي ضمان مرضٍ  لأن يكون القفز منتجا لحل وليس كسرا للعنق. وهناك أخيرا من يرى العمل على تأجيل الصراع المفتوح حتى نتمكن من استعادة النهضة والتمكين ولكن هذا الحل يجمد المشكلة وكأن الزمن عامل محايد. ويتصل ذلك كله بأطروحات مختلفة لحل الصراع العربي - الإسرائيلي. وكان من واجب المؤلف أن يقدم لنا رؤيته لهذه الجوانب وخاصة أنها تتعلق بصميم أطروحته.

          ولكن هذه القضايا لا يمكن حسمها فرديا من جانب أعظم العقول. فالقضية الفلسطينية هي قضية كل عربي ولا يجوز أن تكون قراراتها حكرا على أحد أو أن تلقى مسئوليتها على أي طرف, أو قوة سياسية واحدة, إنها مسئوليتنا جميعا, ويجب أن نتخذ نحوها قرارات تاريخية جماعية مهما تكبد الأمر, لأننا جميعا سنقف أمام التاريخ والمستقبل لنحاسب على هذه الأمانة.

          والواقع أن أحدا لا يمكنه القول باطمئنان إنه قام بواجبه نحو هذه الأمانة الغالية.

 

صلاح الدين حافظ   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات