بنية الـ (الدنا) العامل الأساس في لغز الحياة أنطوان بطرس

بنية الـ (الدنا) العامل الأساس في لغز الحياة

توفي أخيرًا فرنسيس كريك العالم البريطاني الذي أحدث وزميله الأمريكي, جيمس واطسون ثورة علمية في القرن العشرين, باكتشافهما بنية حمض الوراثة المعروف باسم ( (الحمض النووي الرايبي منقوص الأكسجين) (واختصارا (الدنا) DNA), الذي كان من نتيجته وقوف العلم على أعتاب معرفة سر الحياة.

خلافا لما ورد في بعض وسائل الإعلام فإن كريك (وزميله) لم يكتشفا خلية الدنا, وإنما اكتشفا تركيبها وطريقة عملها, وهو أمر يعتبر في منتهى الأهمية لأنه محطة تاريخية في تطور علم الحياة, نتجت عنه مضاعفات عظيمة خطرة أبرزها التحكم بأسرار الحياة, وفتح مجالات وأفقا جديدة برمتها أمام الإنسان على صعيد الطب.

وبكلمات بسيطة, إنما بالغة الأهمية, فقد حل هذا الثنائي لغزا كبيرا وخطيرا من ألغاز الحياة واستمراريتها, وهو كيف تنتقل المعلومات من خلية إلى أخرى كي ينمو الكائن ويتكاثر ويتطور?

ومن أجل التمهيد التاريخي الضروري لا بد من الإفادة بأنه, في العام 1869, استطاع العالم البيوكيميائي السويسري, فردريش ميشر, أن يعزل في نواة الخلية مادة كيميائية كانت جديدة على العلم. ولما لم تكن لديه أية فكرة عن أهميتها, لم يتابع اكتشافه حتى النهاية, فظلت هذه المادة منسية جنبا إلى جنب مع كثير من الاكتشافات المهمة بانتظار من يميط اللثام عنها.

مضى أكثر من نصف قرن قبل أن يدرك العلماء أن هذه المادة - التي تعرف اليوم باسم الحمض الرايبي النووي منقوص الاكسجين ـ هي ما يميز المادة الحية عن الجماد وأنها, بالتالي, حافظة سر الحياة وأداة الوراثة. علما أن أول تحديد لموقع الجينة المضبوط على الكروموسوم لم يحصل قبل العام 1968.

فحينما اكتشف العلماء نتائج تجارب مندل في الوراثة, وكان ذلك في أوائل القرن العشرين, التي كانت بدورها مطوية يعلوها الغبار, لم يكن علم الجينات معروفا بعد. كل ما كان معروفا حتى العام 1909 عن الجينة هو أنها مسئولة عن انتقال الميزات المتوارثة جيلا بعد جيل.

تقدم المعرفة بطبيعة الخلية

في العام 1917 تحققت خطوة مهمة على صعيد فهم تركيب الجينة على يد العالم الرياضي الأمريكي سيول رايت الذي توقع أن الجينة هي التي تتحكم بتفاعلات الإنزيمات. وكان ذلك قبل أن يتمكن العلماء من عزل أي إنزيم, الأمر الذي لم يتم قبل 1926. والإنزيمات هي بروتينات بالغة الأهمية مهمتها تسريع التفاعلات البيوكيميائية الحيوية في الجسم.

وحتى ذلك التاريخ أيضا, ساد الاعتقاد بأن الجينة تتكون من بروتينات وأحماض أمينية, وأن هذه الأخيرة ذات أهمية ثانوية. على أن سلسلة تجارب مهمة ومثيرة أجريت في أوائل الأربعينيات في معهد روكفلر بإشراف العالم إزوالد آيفري, دفعت بالعلماء إلى الاقتناع بأن العامل المؤثر بين العناصر المكونة للجينة لم يكن البروتينات, وإنما الأحماض الامينية وخاصة (الدنا).

حصل تطور مهم آخر في أوائل الخمسينيات بظهور علم البيولوجيا الجزيئية الذي اكتسح عالم البيولوجيا كالعاصفة, وبدا أنه مؤهل, أكثر من سواه, لتقديم الأجوبة عن ألغاز الحياة, ويوفر للبيولوجيا, بصورة خاصة, أسلوبا جديدا للبحث والتنقيب والتفسير. فالعلماء لم يكتفوا آنذاك بتحديد الجينة كموقع للوراثة داخل الكروموسومة, بل عكفوا على تلك المهمة الشاقة والمضنية, وهي معرفة البنية الجزيئية التي تفسر آلية الوراثة. وبظهور البيولوجيا الجزيئية باتت الإمكانات اللازمة لذلك بمتناول العلماء.

عندها بدأ فريق من العلماء برئاسة البيوفيزيائي البريطاني موريس ولكنز مشروعا يهدف إلى معرفة تركيب (الدنا), توصلا إلى تحديد طريقة عملها. وكان هذا الفريق يؤمن بأن سر الحياة لا بد أن يشكّل نوعا من القدرة على الاستنساخ أو نقل الذات, وأن هذه الصفة يجب أن تتسم بها الجينة و(الدنا) تحديدا. وقد استخدم الفريق التصوير البلوري بالأشعة السينية (X-ray Crystallography), وهي تقنية اكتشفت عام 1938, وتعتمد تصوير البلورات من زوايا عدة, بواسطة الأشعة السينية, لجعل هذه البلورات ترمي طيفا من الأشعة على صفيحة فوتوغرافية كاشفة بذلك بنيتها الهندسية وترتيباتها الداخلية.

وعلى الرغم من أن ولكنز توصل إلى الاستنتاج بأن (الدنا) تشبه حبلا مجدولا, فقد فشل تصوره في أن يقدم أجوبة عن كثير من الأسئلة وأبرزها الطريقة التي تنسخ فيها (الدنا) نفسها ناقلة بذلك تعليمات الوراثة من خلية إلى أخرى. على أن هذه الخطوة التاريخية تمت على يد عالمين مغمورين غير مؤهلين بما فيه الكفاية لمثل هذا الكشف العظيم.

وقد استرعت هذه التجارب اهتمام عالم أمريكي في جامعة أنديانا تخرج للتو ويدعى جيمس واطسن, فقرر اقتحام هذا العالم المثير. وفي الوقت نفسه, وفي مكان آخر من العالم, خطا عالم بريطاني هو فرنسيس كريك خطوة مشابهة, وكان يعد آنذاك أطروحة في جامعة كامبردج. ولم يكن أي منهما معدا تمام العدة لمثل هذه المهمة التي استعصت على علماء كبار, أمثال لينوس بولينغ, الذي كان من أشهر كيميائيي عصره. وكان واطسن ضعيفا في الكيمياء والتصوير البلوري والرياضيات أما كريك فكان جاهلا مسائل الجينات.. ومع ذلك, وفي غضون عامين فقط من العمل المشترك في رحاب جامعة كامبردج, حقق العالمان حلمهما مقدمين للبيئة العلمية نظرية للدنا لاقت قبول الجميع, ونجحت في تفسير جميع الأسئلة المطروحة, كما اتفقت مع قوانين العلم والكيمياء حول بنى الجزيئات.

بنية (الدنا)

وبحسب ما توصلا إليه فان جزيء (الدنا) لا يشبه حبلا مجدولا واحدا, بل يشبه حبلين اثنين مجدولين, وإن هذين الحبلين لولبيان, مما يجعلهما أشبه بسلم لولبي مزودج. والأهم من ذلك أن هذا السلم اللولبي قابل للانفصال على غرار السحّاب, وأن كل نصف سلم, أي كل حبل منفرد (جديلة), يشكل أساسا لإعادة تكوين جزيئين جديدين للدنا, وكل جزيء جديد ينقسم بدوره وبالصورة ذاتها, مرة تلو الأخرى, ومع كل انقسام خلوي, ناقلا تعليمات الوراثة وما تتضمنه الجينة من معلومات من خلية إلى أخرى.

وإضافة إلى ذلك, رأى الثنائي أن المعلومات التي تنتقل إلى البروتينات, حاملة الأوامر لبناء الحياة, لا تستطيع أن تخرج منها, وبالتالي فإن من غير الممكن تعديل المعلومات. وقد أطلق كريك على هذا التصور أو نظرية انتقال المعلومات اسم (الدوغما المركزية), أي العقيدة المركزية التي هي بمصاف العقائد اللاهوتية, والتي لا تحتمل التأويل لآلاف السنين. وقد بلغ الغرور بكريك حدا دفعه إلى الإسراع إلى الحانة المجاورة للجامعة ناقلا إلى جمهور العلماء الذين كانوا يحتسون الشراب في أوقات الفراغ نبأ (اكتشافهما سر الحياة), علما بأن في هذه العبارة شيئا من الصحة.

جندية مجهولة

ولا بد من الإشارة هنا إلى التجارب التي قامت بها العالمة الأمريكية بربارا ماكلينتوك طوال عقود ونالت بسببها جائزة نوبل عام 1983, وأظهرت ما يناقض النظرية القائلة بأن طريق المعلومات أحادي لا رجعة منه, بل تبين لها أن المعلومات تنتقل كذلك من البروتين إلى (الدنا).

ولكن كيف تم لواطسن وكريك هذا الاكتشاف?

من أعمال بولينغ أدركا أن الحبل المغرق في الطول والبالغ التعقيد لجزيء الدنا يوحي بأن الجزيء يتخذ شكلا حلزونيا. ومن الصور البلورية التي التقطها ولكنز استطاع الحصول على معلومات غير منشورة عما توحيه هذه الصور حول تركيب (الدنا). وهكذا فمن دون جهود شخصية في البحث والتنقيب, وحتى من دون استئذان, عكفا على تحليل أبحاث وأعمال الآخرين إلى أن توصلا بقدرتهما الهائلة على التحليل وخيالهما الخصب, إلى رؤية ما فشل الآخرون في رؤيته. ولو تأخر هذا الثنائي قليلا لكانت عالمة في كامبردج أيضا, تدعى روزاليند فرانكلين قد توصلت إلى النتائج نفسها, ونتيجة لجهودها الشخصية, وأبحاثها المستقلة. والواقع أن فرانكلين هي التي وفرت الدليل الذي مكن كريك وواطسن من أن يتوصلا إلى استنتاجهما. إن القدرة التقنية التي وفرتها فرانكلين للعلماء للحصول على صور أشعة لبلورات الجزيء الرطب الدقيق والسريع العطب هي التي مكنت العالم من الوصول إلى النظرية الجديدة, وهي التي فتحت أمام العالم إمكانات الهندسة الوراثية, وبالتالي فهم الطريقة التي تتصرف بها المادة الحية.

وفور إعلان واطسن وكريك نتائج أعمالهما, تخلت روزاليند عن بحوثها, وتحولت إلى مشروع دراسي آخر هو تحليل فيروس التبغ. وفي العام 1962 منحت جائزة نوبل لسبعة أشخاص لبحوثهم في البيولوجيا الجزيئية من بينهم واطسن وكريك وولكنز. أما روزاليند فكانت قد توفيت ولم يتح لها أن تلقى التكريم الذي تستحقه جهودها.

والمثير أن واطسن قد دوّن في كتابه (The Double Helix) (اللولب المزدوج) عام 1968, وبصراحة غير معتادة, الجانب السري لاكتشاف بنية جزيء (الدنا), والجو الداخلي السائد في الأوساط العملية والقائم على المشاجرات والتنافس الأكاديمي والغش والخديعة طمعا بالجائزة الكبرى التي يحلم بها جميع العلماء.

التثبت من الاكتشاف

وإذا كان نصف قرن قد مضى حتى يكتشف العلم سر الخلية, فإن قرنا مضى قبل أن يمتحن الاكتشاف. وقد تم ذلك عام 1967, أي بعد مائة وسنتين من تجربة ميشر, وذلك في جامعة ستانفورد وعلى يد العالم آرثر كورنبرج , الذي استطاع تكوين جزيء (دنا) اصطناعي مؤلف من جديلة واحدة في أنبوب اختبار, حيث قام هذا الجزيء بنسخ نفسه.

وقد يتساءل أحدنا ما هو الدليل على أن (الدنا) هي المادة الوراثية التي تنتقل من خلية إلى أخرى حاملة معها التعليمات الوراثية?

هناك عدة أدلة أبرزها اثنان:

الأول: وقوامه ثبات كمية (الدنا) في خلايا النوع الواحد. فإذا أخذنا حيوانا برمائيا كالسمندل, وهو من نوع الضعضعيات وشكله شكل عظاية, فإنه يحتوي على 68x110-9 مللجرام من مادة (الدنا) لكل خلية. في حين أن السمك الهلامي المعروف بقنديل البحر, فإنه يحتوي على 1,43x10-9 مللغرام. أما الإنسان فهو وسط بين الاثنين إذ يحوي على 6x10-9 مللجرام لكل خلية. ولا توجد أية مادة أخرى في الخلية تحافظ على النسبة ذاتها من تكوينها بين خلايا النوع الواحد مثل (الدنا). وأن هذا الثبات هو الذي يدل على أنها المادة التي تقرر النوع.

ويبدو استطرادا أن كمية (الدنا) في الكائن الحي ودرجة تعقد هذا الكائن أمران متصلان, كل منهما بالآخر, فسلك (الدنا) اللولبي في كروموسومات الفيروس البسيط لا يتعدى 1 على 2000 من البوصة طولا,, ويحتوي على 170 ألف خطوة أو درجة. أما طول (الدنا) في البكتيريا فيصل إلى 1 على 400 من البوصة, ولكنها تحتوي على سبعة ملايين خطوة أو درجة. أما لدى الإنسان, فإن سلم (الدنا) الموجود في خلية واحدة (ويجب ألا ننسى أن الخلية مجهرية) قد يصل طوله إذا ما وصلت أطرافه, بعضها بالبعض الآخر, ثلاثة أقدام أو 91,5 سم, ويحتوي على ستة آلاف مليون درجة. مما يجعل (الدنا) البشرية أطول وصفة وراثية معروفة. وفي هذه السلالم من الشيفرات ما يملأ عدة دوائر معارف معا. وقد يؤدي خطأ بسيط واحد في ترابط القواعد المشكلة لستة آلاف مليون درجة إلى كوارث داخل الخلية وبالتالي إلى خلل مهم كإنجاب مسخ أو صاحب آفة.

الدليل الثاني: ويعرف بـ (مبدأ التحويل), وهو التجربة التاريخية التي قام بها آيفري وأدت إلى اقتناع العلماء بأن (الدنا) هي مادة الوراثة. فقد تبين في هذه التجربة أن (دنا) بكتيريا ميتة تؤثر على البكتيريا الحية عندما تحقن بها. فاذا تمكنت (الدنا) المحقونة من اقتحام غشاء الخلية الحية وانتقلت إلى داخلها يحصل امتزاج بين (الدنا) الوافدة والكروموسومات داخل الخلية واستنساخ أو انتقال للمعلومات إلى البكتيريا الحية.

ويمكن التدليل على هذا القول بالتجربة التالية: إذا أخذنا عود ثقاب مشتعلا ووضعناه أمام دودة وهي تسير غير عالمة بما يجري فإنها تحترق عندما تصل إلى اللهب. فاذا قدمنا هذه الدودة طعاما لدودة من النوع الذي يأكل بعضه فتلتهمها بالطبع. وعندما نضع أمام الدودة الثانية عود ثقاب مشتعلا, فإنها تحول اتجاهها تلقائيا لتتجنب النار. مما يبين أنها اكتسبت, بواسطة (الدنا) المنتقلة إليها, خبرة سابقة لها مع النار لا عهد لها بها.

إن محورية الخلفية الجينية الوثيقة بعلوم الحياة يرجح أن يبقى اسما فرنسيس كريك وجيمس واطسون مذكورين مادام ذكر اسم داروين ومندل. ويقول مؤرخ العلوم, هوريس فريلاند جودسون, في كتابه (في اليوم الثامن للخليقة), إن كريك نسق بذكائه وإدراكه وقوة شخصيته ورقيه الفكري وازدرائه وبكثرة أسفاره وتحرير الرسائل بلا انقطاع بحوث العديد من علماء البيولوجيا الآخرين وشرح نتائجها.

كما أن واطسون رسم صورة عن كريك لا يمكن أن تنسى. وكان كريك في ذلك الحين شخصا مجهولا يتابع دراسته للحصول على درجة الدكتوراه في سن 35 عاما. إلا أن افتقاره لهذه الدرجة العلمية الأولى لم تحط من ثقته في قدراته الخاصة. وأضاف واطسون يقول إنه لم ير فرنسيس كريك في مزاج متواضع مطلقا.

 

أنطوان بطرس 




صورة للثنائي فرنسيس كريك (إلى اليمين) وجيمس واطسون عند اكتشافهما تركيب الخلية ويبدو بينهما المجسم الذي كوناه لبنية الخلية





صورة رسومية لمقطع صغير من اللولب المزدوج (خلية الدنا)