"قصعة الطين" علي شلش

من جبل الزبد إلى جبل اللوحات

أمة صغيرة تقفز في الزمان والمكان فتصير الأغنى بين جيرانها الأقوياء، وفي الوقت ذاته يحول فنانوها تفاصيل الحياة اليومية العادية إلى لوحات مفعمة بالشعر!.. لعلنا نكتشف السر - الهولندي- في سحر الفن.

أقامت الأكاديمية الملكية للفنون بلندن- في الفترة الأخيرة- معرضا للتصوير بالزيت، جديدا في موضوعه ومعناه.

المعرض بعنوان "عصر فيرمير ودي هوخ " Vremeer and de Hooch .

أما العصر فهو القرن السابع عشر. وأما فيرمير ودي هوخ فهما مصوران هولنديان اشتهرا مع عشرات غيرهما بإنتاج لوحات تصور مشاهد الحياة اليومية. وقد حولا بلدهما الصغير، هولندا، خلال ذلك القرن، إلى مدرسة لهذا النوع من التصوير بالزيت الذي يعنى بالناس والحياة والبيوت والشوارع، بعد أن كان المصورون بالزيت يركزون خلال العصور السابقة على الموضوعات الدينية والأسطورية ووجوه النبلاء وأفراد الأرستقراطية الأوربية.

ضم المعرض نحو 111 لوحة استعارها منظموه من عدد كبير من المتاحف العالمية والأفراد. ومن هؤلاء الأفراد ملكة بريطانيا التي أعارت المعرض ست لوحات نادرة من أعمال أشهر مصوري ذلك العصر. وقد قام المعرض نفسه برحلة طويلة قبل وصوله إلى لندن. فقد بدأ بمدينة فيلادلفيا الأمريكية، ثم عبر المحيط الأطلسي، وتوقف بمدينة برلين الغربية. ومولت تنقلاته شركتا موبيل للنفط وأميركان إكسبريس، وتعهدت بنقله بالمجان من بلد إلى بلد شركتا طيران لوفتهانزا وبان أميركان. وساهم الجميع في إعداد وطبع كتاب ضخم (400 صفحة) مصور عن موضوع المعرض وأعلامه ولوحاته. وهذا دليل على رعاية الشركات الكبيرة للفن التي نرجو أن تنتقل عدواها إلى شركاتنا.

تصوير النوع

كان النقاد الفرنسيون أول من تصدى لدراسة هذا النوع من التصوير الزيتي. وقد شرعوا في هذه الدراسة في القرن الثامن عشر، وأطلقوا على لوحات الهولنديين خلال القرن السابع عشر اسم " تصوير النوع " Pein ture de genre، أو " تصوير الحياة اليومية " بمعنى أدق، لأن المعنى الحرفي للعبارة قاصر. ثم ميزوا بينها وبين اللوحات التي تصور الموضوعات التاريخية والدينية. وكان الفيلسوف الأديب ديني ديديرو من أوائل الدارسين لها. فقد كتب سنة 1766 شارحا المصطلح السابق بقوله:

"إنني أطلق تعبير " تصوير النوع " بلا تمييز على أولئك الذين يشغلون أنفسهم بالزهور والفواكه والحيوانات والغابات والجبال، وكذلك الذين يستعيرون مشاهدهم سن الحياة العامة والمنزلية ". وبعد ثلاث سنوات من ذلك التاريخ اكتسب مصطلح " تصوير النوع " شيئا من الذيوع حين قبلت الأكاديمية الفرنسية الفنان جان باتيست جريز عضوا بها بصفته " مصور نوع ". ومع ذلك نشب خلاف كبير بين نقاد الفن وعلماء اللغة حول معنى المصطلح وتعريفه، دون أن يستقر الرأي على وضع معين. ثم جاء الناقد كاترمير دي كوليس فاقترح سنة 1791 أن يوضح المعى بعبارة "المشاهد البورجوازية". ولما كان هو نفسه لا يقصد من عبارته معنى طبقيا فقد أضاف إليها عبارة " مشاهد الحياة اليومية " وبذلك حل الإشكال، وكان أول من استخدم المصطلح بهذا المعنى الذي لم يستقر الرأي عليه إلا في منتصف القرن التالي، التاسع عشر.

قصعة الطين

إذا كان لكل أمة شهرة خاصة في مجال الإبداع الفني فشهرة الهولنديين هي التصوير بالزيت. فقد أنتج الفنانون الهولنديود على مدار القرون الأربعة الأخيرة عددا من اللوحات الزيتية أكبر مما أنتجه فنانو أي أمة أخرى. ومازال لفن التصوير الزيتي الهولندي اليد العليا ونصيب الأسد في أسواق هذا الفن ومزاداته العالمية. فمن كل ثلاث لوحات لأعلام فن التصوير بالزيت تجد لوحة- على الأقل- لفنان هولندي. ومع ذلك فمعظم اللوحات الهولندية التي تظهر في هذه الأسواق والمزادات ترجع إلى عصر واحد محدد، هو العصر الذهبي لفن التصوير الزيتي هناك، وهو القرن السابع عشر.

وصف الناقد الأدبي الفرنسي هيبوليت تين الهولنديين في القرن الماضي بأنهم " أمة صغيرة من التجار ضائعة في قصعة من الطين " والمقصود بقصعة الطين هنا أن هولندا ذات أرض واطئة، أكثر انخفاضا من أي أرضا أوربية أخرى، ولهذا تسمى أحيانا باسم " الأراضي الواطئة "، فكأنها على خريطة أوربا أشبه بالقصعة التي تتجمع فيها المياه فتحدث الوحل والطين. ولكن هذه الأمة الصغيرة في القرن الماضي كانت أصغر في القرن السابع عشر. وكان سكانها أقل من مليوني نسمة، أي ما يساوي في ذلك الزمان ثلث سكان إنجلترا أو عشر سكان فرنسا وقتها. ومع ذلك نزل عليهم من النشاط والحيوية ما جعلهم يتفوقون على كثير من دول أوربا في الخط والبحر، ويصبحون أغنى شعوب القارة، وأكثرها إنتاجا واقتناء لفن التصوير بالزيت.

ماذا حدث بالضبط؟ هل نزلت على الهولنديين "وليمة " مات السماء؟

التدرج في الحركة

إن قصة تلك الوثبة الهولندية خلال القرن السابع عشر ليست غريبة في تاريخ الأم على أي حال، ولكنها تستحق أن تروى قبل الحديث عن محتويات هذا المعرض، لأنها تشكل خلفية لوحة ازدهار فن التصوير بالزيت. وأول ما يلاحظه المتتبع لهذه القصة أنها سارت على قانون التدرج في الحركة، وتطورت درجة بعد درجة حتى وصلت إلى ذروتها في أواخر القرن المذكور، وأصبحت أغنى دولة في العالم المسيحي.

ولأن هولندا محدودة الأرض، منبسطة، واطئة، بحكم الجغرافيا فقد أحس أهلها بأن الأرض لم تعد تتسع لطموحهم. وشجعهم على هذا الطموح المبكر أنهم وحدوا صفوفهم وأقاليمهم. ثم اتجهوا إلى البحر الممتد أمامهم فوجدوا فيه التعويض عن ضيق البر. وبنوا. أسطولا تجاريا كبر مع السنين، حتى أصبح لا ستينيات ذلك القرن أقوى من أساطيل إنجلترا وفرنسا وألمانيا والبرتغال مجتمعة. وأسسوا شركتي الهند الشرقية والهند الغربية الهولنديتين، ووسعوا نشاطهما في البر والبحر حتى أصبحتا أكبر شركتين في العالم وقتها. وتحولت مدينة أمستردام على أيديهم إلى نموذج آخر لمدينة البندقية الإيطالية. فقد شقوا القنوات بداخلها، وعمروها بالبنوك، وجعلوها مركزا لصناعات الألبان والصوف والسفن، ومخزنا للغلال والحبوب، وبوتيكا للسلع النادرة في أوربا وقتها مثل الخزف الصيني والزجاج البندقي والدخان الفرجيني والسكر البرازيلي والبهارات الآسيوية، فضلا عن الكماليات الأخرى والتحف. وقوى عند الهولنديين حس التجارة إلى درجة أنهم أصبحوا موضوعا للتندر والسخرية. فقد وصفهم الفيلسوف الفرنسي فولتير بأنهم على استعداد لبيع الماء والهواء للسياح. وأشار زميله ومعاصره مونتسيكو إلى انحلال ذمتهم وضميرهم في التجارة!.

أصبحت أمستردام أيضا عاصمة العالم المصرفية ومدينة دولية يهاجر إليها اليهود والإسبان والبرتغاليون، وحتى الأتراك. بل أصبحت- مع جارتها ليدن- مركزين للنشر وحرية التعبير في أوربا. فقد هاجر إليها الفيلسوف الفرنسي ديكارت، وعاش فيها فترة، كتب خلالها: إن المرء لا ينقصه شيء في هولندا من السلع أو الفضول أو الحرية. وطبع الفيلسوف الإنجليزي جون لوك أحد كتبه هناك بعد أن تعذر عليه نشره في بلده. وتردد على المعاهد والجامعات الهولندية نحو ثلاثة آلاف طالب أوربي.

البيت قلعة ثقافية

في ظل هذا كله كان المجتمع الهولندي يتمتع بقدر كبير من الرفاهية والتقارب الطبقي. فلم يعرف طبقة الأرستقراطية تقريبا. وحتى كبار القادة والتجار والمسئولين كانوا يعيشون في بساطة، ويتعاملون مع غيرهم بتواضع. ومع ذلك كانوا مبهورين بالثقافة والذوق واللغة في فرنسا. وكان البيت الهولندي قلعة ثقافة الطبقة المتوسطة ومصدر الانسجام والرشاقة. وكان على داخله أن يخلع نعليه قبل الدخول، حتى إن رحالة إنجليزيا قال إن الهولنديين " يحتفظون ببيوتهم أنظف من أشخاصهم، وأشخاصهم أنظف من نفوسهم ". وكانت منزلة المرأة مرموقة، ولاسيما في بيتها. فقد كان القانون يحرم ضرب الزوجة، ويورث الأرملة مال زوجها وعضويته في النقابة التي ينتمي إليها، ويبيح للزوجة أن تستدعي زوجها أمام قضاة الكنيسة بتهمة الصعلكة مع الغواني أو الخيانة. وكانت حفلات الزفاف والميلاد فخمة تستغرق أياما، وتلقى فيها القصائد، وتعزف الموسيقى التي كانت إحدى تسليات الحياة اليومية. ولكن كان من أهم ما يميز الناس في هذا المجتمع هو القدرة على الاستمتاع بالحياة ومواجهة تقلباتها بالمرح والطرف وتشجيع الفن وتذوقه.

ربما كان هذا المرح والطرب تعويضا لجانب مقبض من جوانب الحياة في ذلك المجتمع، وهو جانب الحرب. فقد شغلت هولندا بالحروب، كما شغلت بالحياة، معظم سنوات ذلك القرن باستثناء نحو 12 سنة من الهدنة (1609- 1621). وكانت هذه الحروب المتصلة مع الجيران وغير الجيران تكاد تطبع الحياة بطابع العسكرية. فقد كان الجنود يتحركون طوال الوقت من مدينة إلى أخرى، ويترددون على بيوت الفلاحين وأهل المدن، وينهبون ما يصادفهم في كثير من الأحيان. وكان النهب والسلب يعدان في ذلك وقت جزءا من الرواتب الهزيلة التي يتقاضاها الجنود، أو مكملين لها بمعنى أدق.

ومن جهة أخرى كانت الكنيسة مؤسسة متحررة تقريبا، تنادي بالإصلاح الديني وتحاول تطبيقه.

بل إن رجالها حرموا تعليق لوحات الفن، التي تصور موضوعات الإنجيل ومواعظه، وتركوا للفنانين الحرية في اختيار موضوعاتهم.

من تفاعل هذه الظروف مجتمعة ازداد إقبال الناس على إبداع فن التصوير بالزيت وتذوقه واقتنائه. وظهر نوع جديد من رعاة الفن، لم يكن من النبلاء، ولا من الأرستقراطية كما في بلدان أوربا الأخرى، وإنما كان من التجار والحرفيين الذين سعوا وراء المشاهد التي يحبونها أو التي تتصل بالحياة الواقعية الجارية حولهم في الشوارع والبيوت. وقد كتب زائر إنجليزي لهولندا في ذاك الوقت فوصف أهلها بقوله: " إنهم جميعا- بوجه عام- يسعون إلى تزيين بيوتهم، ولاسيما الغرفة الأمامية أو المطلة على الشارع، بقطع فنية غالية. وتجد الجزارين والخبازين... والحدادين والنحاسيين وغيرهم يعيقون لوحة أو أكثر في محلاتهم أو ورشهم ".

وكانت الحياة الاجتماعية والمهنية لهؤلاء الحرفيين تنظمها- في ذلك الوقت- النقابات. وكان للمصورين بالزيت نقاباتهم أيضا التي ترعى حقوقهم وتهتم بتطوير مهنتهم في المدن التي أصبحت مراكز فنية مشهورة مثل أمستردام وهارلم دلفت . وازداد عدد المصورين بالزيت حتى تجاوز المئات . ومع ذلك يبدو أن المهنة لم تكن تدر دخلا كبير. فقد روي أن فيرمير كان رئيس نقابة المصورين بالزيت في مدينته الصغيرة " دلفت ". وكان يتاجر أيضا في اللوحات. ومع ذلك شكت أرملته بعد وفاته من ضيق ذات اليد.

بلغ من تنظيم هؤلاء الفنانين لمهنتهم أنهم أسسوا مدارس وأكاديميات لتعليم التصوير بالزيت واحتضان المواهب الناشئة. وكانت الدراسة تتم عن طريق دفع المصروفات مباشرة للأستاذ أو عن طريق الحياة في بيته والقيام بدور " الصبي " له. بل كان الفنانون يتصاهرون ويتناقلون الأساليب الناجحة. فإذا أقبل الناس على لوحة تصور موعظة أو حكمة ازداد إقبال الفنانين على تصوير المواعظ والحكم، وهكذا. وهذا هو السبب- مع المعاصرة- في شيوع المواعظ والحكم التي تبنى عليها اللوحات، وتكرار ظهور " موتيفات " أو أفكار معينة في لوحات العصر كله، مثل تصوير لوحة صغيرة داخل اللوحة على سبيل التعليق أو تأكيد المعنى أو شرحه، وتصوير الآلات الموسيقية والخطابات وقواقع البحر ولعب النرد في خلفية اللوحة لإضفاء المعاني، أو تصوير الخرائط داخل اللوحات كرمز للرغبات الدنيوية، والعود كرمز للرقة وعلو الكعب، والقرد كرمز للحسية، والمرآة كرمز للغرور!

الناس هم البطل

كان يوهان فيرمير (1632- 1675) من أبناء مدينه دلفت الصغيرة التي تشتهر اليوم بفن الخزف لا التصوير بالزيت. وقد تأثر بزميله بيتر دي هوخ (1629-1684) في مطلع حياته ثم استقل عنه بعد ذلك. ومن أشهر لوحاته " السيدة عند الآلة الموسيقية مع الشاب " وهي من مقتنيات ملكة بريطانيا التي أعارتها للمعرض. وفيها لا يظهر وجه السيدة لنا إلا في المرآة التي تواجه وقفتها في عمق اللوحة أمام ما يشبه البيانو، وإلى يسارها يقف الشاب الذي يبدو عليه التهذيب، وهو يستند بيمناه على حافة البيانو ويسراه على عصا. وفيما عدا ذلك تبدو العلاقة بينهما غامضة. فهل هو معجب بعزفها؟ هل هو يعلمها العزف؟ من هي؟ ومن هو؟ لا ندري بالضبط، ولكن الذي ندبى له من اللوحة أن بها نوعا من التوازن الخفي بين العناصر المكونة لها، بما في ذلك المائدة المغطاة التي تطالعنا في مواجهة اللوحة وتحجب ساقي الشاب، وهي مغطاة ببساط تركي ثمين تعلوه صينية، ويعلو الصينية قارورة. وفي مواجهة المائدة وخلف الشاب يظهر في العمق قطاع طولي من لوحة زيتية. معلقة على الجدار. وأرضية الغرفة مغطاة بمربعات كبيرة من القيشاني، وخلف السيدة مباشرة يظهر مقعد ثمين خال يحجب جزءا من نافذة أخرى، وقد تسلل من زجاجهما المزخرف ضوء النهار الذي ينعكس على الحائط المواجه، حيث السيدة والشاب، كما ينعكس على السقف، موحيا للمتفرج بتركيز النظر على البشر، تاركا له العنان لفهم ما يشاء!

وكان دي هوخ مات أبناء مدينة روتردام التي دمرها هتلر في الحرب الثانية، ولكنه هاجر إلى دلفت، وانضم لزميليه فيرمير وجيرار بورخ. واشتهر بموضوعاته التي تصور مداخل البيوت المتواضعة والأفنية المشمسة، حيث تتجمع الزوجات والخدم، ويبدأ شغل البيت. وقد اهتم أكثر من زميليه بالنساء في البيوت وكأنه يشكل إلى مركزية البيت في المجتمع البروتستانتي الهولندي في عصره. ومن أشهر أعماله لوحة بعنوان "امرأتان في فناء بيت "وفيها تظهر عجوز مولية ظهرها للمشاهد وهي تغزل بمغزل يدوي وعاى يسارها خادم تحمل جرة ماء ودلوا. وقي عمق اللوحة يظهر برج كنيسة، كما يظهر برج مبنى بلدية دلفت الذي مازال قائما إلى اليوم. وحول هذا كله ينتشر ضوء الشمس لا السماء، وعلى سطح الكنيسة، وعلى مربعين يصنعهما داخل ظل البيت على الأرض، بل على وجه الخادم المطأطئ من شدة الوهج، أو ربما تلقيا لأمر من السيدة المشغولة عنها وعنا تماما.

هناك عدا فيرمير ودي هوخ وزميلهما بورخ عشرات آخرون ليس من السهل الحديث عنهم، ولكن من المفيد أن نتوقف عند لوحات بعضهم.

في لوحة بعنوان " الصبي المغني مع الناي " لفرانز هالس لا يطالعنا سوى وجه الصبي وصدره ويديه ونايه. ومع ذلك نحس بالاستغراق الشديد الذي ركن إليه الصبي. وأشاع الفنان على وجهه ويده التي رفعها مع الغناء والريشة التي غرسها في شعره جوا من مرح الصبا وفرحه وحيويته.

وفي لوحة بعنوان " داخل ورشة حداده " لجبريل متسو نجد نقيضا للجو السابق تقريبا. فقد صور الفنان الورشة بكل ما فيها من اختلاط وفوضى وحماس أيضا. وجعل " الأسطى " يقطع انهماكه في صنع حدوه " الزبون" الواقف بالباب مع حارسه، وقد رفع إحدى رجليه الأماميتين، وكأنه يستعجل إنهاء الحدوه، في حين بدا "صبي" الورشة منهمكا، وبدا ضوء النهار في الخارج متسللا من زجاج النوافذ العلوية والباب المفتوح، ولكن هذا الضوء لا يقوى على وهج الورشة الذي استخدم فيه الفنان ألوان الأحمر والبني والأصفر ببراعة ملحوظة.

في لوحة أخرى بعنوان " امرأة تنتف ريش بطة " لنيكولاس مايس ننتقل مرة أخرى إلى داخل البيوت، حيث تطالعنا المرأة أسفل نافذة مفتوحة بمدخل البيت، وقد غمرها ضوء النهار، وهمس منهمكة في تنظيف بطة مذبوحة. وأمامها على الأرضية قبعت قطة تتنمر لبطة أخرى أمامها، وسط عناصر ومواد خاصة بالمطبخ، في حين بدت في طرف اللوحة الأيمن بندقية تستند إلى الحائط. وفي عمق اللوحة يبدو باب مفتوح يفضي إلى غرفة طعام بعيدة. والمشهد كله يوحي بالبيت وربته في حالة استعداد لاستقبال الرجل بوجبة شهية، كانت هي نفسها- المكونة من البط- رمزا للحب لا ذلك العصر.

وفي لوحة أخيرة بعنوان " لاعبا الشطرنج " لأدريان فان دوفيرف يطالعنا بيت عز من خلال الأثاث وملابس الرجل والمرأة. حتى القطة تبدو سعيدة. ومع ذلك فهناك مواجهة بين الرجل والمرأة أمام رقعة الشطرنج. وإذا كان الرجل مستغرقا في التفكير في النقلة التي انتهى إليها فالمرأة مستعدة. وها هي تمسك بيمناها قطعة الشطرنج لتحركها، وتفاجى بها صاحبها أو تجهز عليه، في حين تشير سبابة يدها اليسرى لنا- للمشاهد- ووجهها قد استدار ناحيتنا، وكأنها تقول: " كانت نقلته جيدة، ولكن ما رأيكم الآن في هذه النقلة؟ " وقد كان الشطرنج في ذلك العصر رمزا للعبة الحب بين الرجل والمرأة. فإذا أخذنا الرمز في الاعتبار ونحن نشاهد اللوحة أصبح من اليسير أن ندرك إيحاء الفنان بأن للمرأة اليد العليا في لعبة الحب!

بطل هذه اللوحات وعشرات غيرها هو الناس، أفرادا أو جماعات، من مختلف المهن والفئات الاجتماعية باستثناء فئة البحارة وعمال الموانى الذين لايجد المشاهد أثرا ألم في هذا المعرض الحافل. ولم يفسر أحد من الدارسين سر غيابهم، مع أنهم كانوا يشكلون وقتها نحو عشر السكان. ولكن ما فسره الدارسون هو أن أصحاب هذه اللوحات وغيرها كانوا يتمتعون بحس ذكي واضح في التقاط التفصيلات الصغيرة الموحية، وقوة ملاحظة عجيبة، وولاء كامل للطباع البشرية. ولم يكونوا مجرد كاميرا تنقل المشهد بأمانة، وإنما تميزوا برؤية فنية تتراوح بين الشاعرية والواقعية. ولا شك أنهم لم يبدعوا فن تصوير مشاهد الحياة العادية، ولم يزعموا ذلك كما يوحي تفسير الفرنسيين للمصطلح الذي أطلقوه على أعمالهم، لأن فن تصوير الحياة العادية معروف ومسجل- قبلهم بقرون عدة- على جدران مقابر الفراعنة ومعابدهم، وأواني الخزف عند الإغريق وأبناء الصين. ومع ذلك استطاع هؤلاء الهولنديون الموهوبون أن يجعلوا فن التصوير بالزيت فنا شعبيا، لا في موضوعاته وحسب وإنما في متذوقيه أيضا. كما استطاعوا أن يجعلوه سجلا لإحدى الفترات المهمة في تاريخ بلدهم، ووثيقة من وثائق الحياة.

جبل اللوحات.. إلى أين؟

ماذا حدث للهولنديين بعد ذلك العصر الذهبي؟ لماذا لم يعودوا ينجبون مثل هذه المواهب؟ هل كان فان جوخ أخر العنقود؟

لقد ظهر فان جوخ بعد هؤلاء بقرنين، واختلف عنهم كثير في الرؤية ؤلأسلوب، ولم يرتبط بالحياة العادية وحدها دون تصرف كما فعلوا. ومن ناحية أخرى لم يستمر الازدهار الذي حققوه إلى آخر القرن السابع عشر. فقد أصاب الضعف بلادهم بسبب حربين خاضتهما ضد إنجلترا في ستينيات ذلك القرن، ثم تعرضت لغزو من فرنسا في السبعينيات. وتوقف سكانها عن النمو، ورقد اقتصادها، ومات كثيرون من أعلام فنانيها، وسقط نظام النقابات الفنية الذي كان من عوامل ازدهار ذلك الفن، وازداد نفوذ المؤثرات الأجنبية ولاسيما الفرنسية، في الفن. وظهر رعاة جدد للفن من صفوف النبلاء. وكل هذه عوامل ساهمت في تدهور ذلك التيار الفني الشعبي المزدهر، ووضعت كلمة " النهاية " على قصة صعوده وهبوطه.

وإذا عددنا ذلك التيار ظاهرة فنية، وهذا تفسير " قصعة الطين" منطقي له، فلا شك أن قصة صعوده وهبوطه ليست غريبة. فلكل ظاهرة دورة حياة. وما حدث في هولندا في ذلك العصر سبق أن حدث في فلورنسا الإيطالية في القرن الخامس عشر. فقد صاحب ازدهار الفن وصعوده هناك ظهور أسرة ميديتش التي امتلكت المصارف، وخلقت رأسمالية دولية مبكرة، وكانت تقرض الدول بما فيها بريطانيا. ثم انهارت الأسرة وطواها التاريخ وطوى معها صعود الفن في عهدها ثم حدث ذلك مرة أخرى في بريطانيا في عصر الملكة فيكتوريا. فقد صاحب التوسع الاستعماري، وزيادة الثراء، ازدهار في الفن ما لبث أن هبط مع هبوط الإمبراطورية وتحللها. وها هي القصة تتكرر أيضا في أمريكا اليوم. فمنذ أصبحت نيويورك وأموالها على رأس العالم الغربي ازدهرت سوق الفن هناك، وصارت نيويورك أكبر سوق معاصرة للفن في العالم. وسوف يستمر الوضع على هذا النحو حتى تنتهي دورة الظاهرة، وهكذا.

لقد زرت هولندا أخيرا، ورحت أتجول في متاحف مدنها المتقاربة، فوجدت أن ما تبقى من لوحات العصر الذهبي والمشاهير الآخرين أكثر مما تسرب إلى متاحف العالم الأخرى. ودهشت حين علمت أن عدد الفنانين المسجلين هناك اليوم بلغ أكثر من 3 آلاف مصور بالزيت، وهذا رقم كبير بالطبع على بلد صغير مثل هولندا. كما علمت أن الدولة هناك أصبحت راعية الفن، وأن الفنان يسلمها مقابل هذه الرعاية- المادية- عددا معينا من اللوحات كل سنة، وأن متاحفها ومخازنها أصبحت تعاني مما يمكن أن نسميه "جبل اللوحات " قياسا على " جبل الزبد " الذي تعاني منه اليوم السوق الأوربية المشتركة. وهذا شيء طبيعي، فماذا نتوقع من ثلاثة آلاف مصور بالزيت ينتجون- في المتوسط- 30 ألف لوحة على الأقل في السنة؟

هذه حالة تضخم فني بلا شك. ويا ويلنا من الفن إذا كان تضخمه كميا لا كيفيا!

ومع ذلك، قد يخرج من معطف هذا التضخم فيرمير آخر أو فان جوخ آخر، لا ندري. ولكن الذي ندريه جيدا هو أن هذا المعرض اللندني مثير للشجون، والشجون كثيرة.