الزهري.. يفضح التاريخ إبراهيم البجلاتي

الزهري.. يفضح التاريخ

مرض الزهري أو (السفلس) الذي عاد يطل على البشرية, بتكتم شديد, يستدعي بإطلالته السرية المخيفة تاريخًا مريرًا من الفضائح ذات البهار الإمبراطوري!

لم يتوفر لمرض آخر ما توفر للسفلس من مادة واقعية وتاريخية تمتلئ بالمفارقات والتفاصيل المثيرة التي تفتح شهية المؤرخين للجدل والباحثين للمراجعة والخصومة. فمن جدل مازال دائرا حول مصدر المرض الذي تدعي البشرية أنها لم تعرفه سوى منذ خمسة قرون فقط, إلى اشتباك شبه علمي حول طبيعة المرض الذي أصاب العديد من المشاهير الذين أثروا في مسيرة التاريخ وأثروا في الفكر والخيال, تنتفخ الكتب وتزهو المقالات التي تعيش على الألم وتفرح بالفضيحة باسم العلم وكتابة الحقيقة!! وربما يكون هذا هو ما دفع بعض الباحثين إلى القول (من يعرف تاريخ السفلس, يعرف تاريخ الطب), لكن هذا التاريخ يتجاوز الطب, بالفعل, إلى السياسة والأدب والفن, أي إلى الحياة.

ورغم أن السفلس (الزهري) هو أحد الأمراض التي تنطبق عليها شروط الترشيح للاختفاء من قائمة الأمراض المعروفة, مثلما حدث مع الجدري في نهاية السبعينيات من القرن الماضي, وبعد أن ساد اعتقاد ما في الأوساط الطبية, تؤيده الإحصاءات الدورية, أن هذا المرض يشهد انحسارا تدريجيا, عاد السفلس للظهور مرة أخرى مع بداية الألفية الجديدة في الولايات المتحدة وإنجلترا واسكتلندا, بين المثليين بصورة خاصة, احتفاء من جانبه بالنصر الذي حققته جمعيات الشواذ في السنوات الأخيرة من الألفية السابقة. كان آخر ظهور كبير للسفلس (وإن بشكل غير وبائي) في القرن الماضي, في روسيا, في العام الذي تلا سقوط الاتحاد السوفييتي, وفي فنلندا قادما من روسيا, ربما كشاهد صامت على انهيار ما, مثلما شارك في إحداث الثورة أو الفوضى الجنسية التي اجتاحت الغرب مطلع الستينيات, مؤكدا على حضوره الخاص في الأحداث الكونية الكبرى حيث لم تفته المشاركة في الحرب العظمى الأولى, بينما شهد هزيمته غير المسبوقة بوحدات البنسلين بعد الحرب العالمية الثانية عام 1947. لكن, سواء انحسر السفلس أو انتشر, يظل الاسم الغامض لهذا المرض محتفظا بشهادة خاصة على ليالي الغرام المأجور أو المسروق التي تعقبها صفحات طويلة من الألم, تتبعها فصول لا تنتهي من العار الذي يطارد صاحبه حتى في ظلمة القبر.

لم يكتب السفلس شهادته على القرن العشرين الطويل فقط, بل كتب شهادته الخاصة على القرون الخمسة الماضية, أي مند بداية ظهوره إلى الآن. أما تاريخه الخاص كمرض فيحمل من علامات الاستفهام وأختام الإدانة ما لا يحمله أي مرض آخر, ربما يتجاوزه الإيدز إذا قدر لهذا الأخير من العمر ما قدر للأول, وكلاهما من الأمراض التي دُمغت بأنها تنتقل عن طريق ممارسة الجنس, لكن يظل للسفلس أسبقية الوجود, وثراء التفاصيل التي تغري المؤرخين برواية الماضي وإعادة خلق التاريخ.

عائلة التريبونيما المحيرة

في عالم الميكروبات الفسيح توجد عائلة صغيرة محيرة, تحمل اسم التريبونيما, منها التريبونيما باليدم التي تسبب مرض السفلس. أفراد هذه العائلة غاية في التشابه من حيث الشكل, وغاية في التماثل من حيث طريقة التفاعل مع الصبغات المختلفة التي يستخدمها الأطباء في المختبر للتمييز بينها, وغالبا ما يختلط الأمر عليهم فيلجأون إلى الأعراض التي يشكو منها المريض مصدر عينة الفحص للتأكد من نوع الميكروب. أما التريبونيما باليدم التي تسبب السفلس فميكروب ضعيف, يحب الحياة في الأماكن الرطبة المظلمة من الجسم, وليس له عائل وسيط, فهو لا يعرف ولا يصيب إلا الإنسان, حيث يصاب بالمرض حوالي 30% فقط من البشر الذين يتعرضون له, غالبا أثناء ممارسة الجنس. بعد التعرض للميكروب, وبعد فترة حضانة تتراوح بين أسبوعين وأربعة أسابيع يبدأ المرض الذي يمر بأربع مراحل: المرحلة الأولى, حيث تظهر قرحة صغيرة غير مؤلمة في المكان الذي تعرض للمرض أولا, غالبا رأس العضو الذكري أو حول الجهاز التناسلي الأنثوي. تختفي هذه القرحة خلال 3 - 8 أسابيع من دون علاج. وباختفاء هذه القرحة يكون المريض الذي لم يتلق علاجا قد دخل إلى المرحلة الثانية من المرض وفقد فرصة العلاج. بعد فترة أخرى تتراوح بين 6 - 8 أسابيع من اختفاء القرحة, تبدأ المرحلة الثانية من المرض حيث يشكو المريض من الخمول والصداع وربما الحمى واحتقان الحلق وتضخم بعض الغدد الليمفاوية, وهي أعراض تتشابه مع أعراض أمراض أخرى كثيرة, ويشكو بعض المرضى من ظهور طفح جلدي يشبه الطفح الجلدي الذي يسببه الجدري, لذا أطلق عليه في القرون الأولى التي تلت ظهوره (الجدري الكبير) أو (great pox) تمييزا له عن الجدري الصغير أو (small pox). كما يشكو بعض المرضى من سقوط الشعر وانخفاض الوزن, ويمكن لهذه المرحلة أن تستمر لأكثر قليلا من ثلاثة أشهر وإذا لم يتلق المريض علاجا مناسبا خلال هذه المرحلة يكون قد فقد فرصة العلاج نهائيا. يلاحظ في المرحلة الثانية أن الأعراض التي يشكو منها المريض تتشابه مع الكثير من أعراض أمراض أخرى مما يصعب المهمة في التشخيص وهو ما حمل المرض وصف (المخادع الكبير). ينتقل المخادع بعد ذلك إلى المرحلة الثالثة وهي مرحلة الخفاء أو السفلس الخفي أو الكامن. لا يشكو المريض خلال هذه المرحلة من أي أعراض باستثناء بعض الآلام الغامضة ومشاكل بسيطة تتعلق بالعين. يتوغل الميكروب في الغدد الليمفاوية ونخاع العظام والجهاز العصبي.

وتستغرق هذه المرحلة سنوات, وتشير متابعة المرضى إلى توقف المرض عند هذه المرحلة في نسبة تتراوح بين 50 - 70% من المرضى حيث لا يتقدم المرض إلى المرحلة الأخيرة. هذه المرحلة الرابعة هي أخطر المراحل جميعا وهي المرحلة التي تعني نهاية المريض الحتمية بين الموت محتفظا بعقله أو فقدان العقل متبوعا بموته. تتجمع الميكروبات في الغدد الليمفاوية وفي الجلد والعظم والأعضاء الحيوية مكونة عقدا مؤلمة تعرف باسم (gamma). وهناك نوعان أساسيان من السفلس في هذه المرحلة: سفلس القلب والأوعية الدموية حيث تتآكل صمامات القلب ويصاب الأورطي بالضيق, والسفلس العصبي الذي يصيب المخ وباقي الجهاز العصبي المركزي مسببا اضطرابات في الشخصية والسلوك ينتهي بما يعرف بـ (الشلل العام للجنون) أو (general paralysis of the insane).

داء تاريخي

في العام 1491 رحلت ثلاث من السفن الصغيرة باتجاه الغرب في رحلة استغرقت شهرين وتسعة أيام, وصلت بعدها السفن إلى ما اعتقد كولومبس أنه الهند, ثم تبين بعد ذلك أنها أمريكا. ويقال إن البعض من بحارة كولومبس قد أصيب بطفح جلدي غريب في رحلة العودة اعتقد زملاؤهم أنها نوع من الحصبة أطلقوا عليه اسم (الحصبة الهندية)!! لكن المأساة الوبائية بدأت في العام 1494 حين غزا الملك الفرنسي شارل الثامن بجيشه المرتزق مدينة نابولي الإيطالية أثناء الحرب الفرنسية - الإسبانية من أجل السيطرة على الإمبراطورية الرومانية. احتل جيش المرتزقة مدينة نابولي التي كانت بؤرة الفساد الأوربي الذي شاع عقب عودة الجنود من الحروب المقدسة في الشرق, يخدمهم جيش من بنات الهوى يؤدين (الواجب المقدس) بالترفيه عن الجنود المخدوعين باسم الصليب وباسم السيد المسيح. في جو كهذا والمدينة تعج بالفساد والتسيب الأخلاقي, عاث جنود الجيش الفرنسي في المدينة فانتشر المرض الجديد بين الجنود وسكان المدينة فعرف المرض باسم (مرض نابولي) - مازالت كتب الطب الحديثة تحفظ هذا الاسم - لكن فيما يبدو أن أهل نابولي قد رفضوا الاسم وردوه على الغزاة الفرنسيين الذين حملوا معهم المرض فأطلقوا عليه (المرض الفرنسي), لكن الفرنسيين, بدورهم, لم يسلموا بالأمر فألقوا اللوم على الإسبان, فتصدى لهذا الادعاء الفرنسي طبيب إسباني, مؤكدا أن جزيرة هايتي التي كانت أول أرض جديدة يصلها كولومبس هي مصدر هذا المرض فاستقرت نظرية التبادل الكولومبي (نسبة إلى كولومبس). أيا كان الأمر, انكسر الجيش الفرنسي في (فورنوفو) وتفرق الجنود المرتزقة في كل أنحاء أوربا وانتشر المرض معهم في فرنسا وألمانيا وسويسرا وهولندا (حيث عرف بالمرض الإسباني) وجزر اليونان, وعندما وصل المرض إلى روسيا أطلق عليه (المرض البولندي), ومن روسيا إلى سيبيريا حيث عرف بـ (المرض الروسي), ووصل إلى الهند واليابان باسم (المرض البرتغالي), وفي البرتغال كان اسمه (المرض القشتالي) وفي تركيا أطلق عليه (المرض المسيحي) وعندما وصل الكابتن كوك إلى تاهيتي في سنة 1728 وجد السكان يطلقون على هذا المرض اسم (المرض الإنجليزي) أما العرب فأطلقوا عليه اسم (مرض الفرنجة). كأن المهزوم كان يلصق تهمة المرض بالغزاة نكاية فيهم. لكن يبدو أن الأكثر مكرا من كل هؤلاء هو ذلك الطبيب الإسباني الذي ألقى بالتهمة على طرف غائب, طرف لا علاقة له بالإمبراطورية المقدسة, ولا بالصراع الدائر بين الملوك من أجل إحكام القبضة على بقاياها. طرف لا يستطيع أن يلقي باللوم على غيره, وإن فعل فلن يجد من يسمع له. وحتى إذا صحت هذه النظرية, فلا يخفى على أحد أن هذا التبادل لم يكن عادلا على الإطلاق, فقد نقل كولومبس إلى العالم الجديد أوبئة الإنفلونزا والجدري والتيفوس التي قضت على ثلثي سكان العالم الجديد من الهنود الحمر, بينما تكفلت أسلحة الغزاة بالناجين من الوباء. وهذ حقيقة مؤكدة, بينما عاد كولومبس إلى القارة العجوز محملا بأكوام من الفضة والذهب ملأت خزائن الملوك, ونباتات طبية أثرت خزانة الأدوية الأوربية, وطيور زينة مجهولة تغرد في القصور, وربما, ربما, يكون قد جلب معه هذا الطفح الجلدي الغريب. فمازالت هذه الفكرة مجرد نظرية تحوطها الكثير من الشكوك. فهناك من الباحثين من يعتقد بوجود السفلس في العالم القديم قبل اكتشاف الأمريكتين, لكن نظرا لقدرته على المراوغة والتشابه مع أمراض أخرى, خاصة الجذام, لم يتمكن الأطباء في ذلك الوقت من تشخيصه.

القرن الـ 16 والضحايا الكبار

مع بداية القرن السادس عشر وصل إلى عرش الإمبراطورية الرومانية شارل الخامس وهو لايزال في العشرين من عمره (1520) وكان قد سبقه إلى العرش كل من هنري الثامن (1509) في إنجلترا وكان له من العمر ثمانية عشر عاما - وفرنسيس الأول(1515) ملكا على فرنسا وكان في الحادية والعشرين من عمره. كان عصرا للملوك الشبان, إذن, تحالف فيه الإمبراطور شارل الخامس مع هنري الثامن ضد فرنسيس الأول ودارت حروب طاحنة بين الطرفين على الأرض الإيطالية وأسر فرنسيس الأول في بافيا. في تلك اللحظة انقلب البابا وهنري الثامن على شارل الخامس الذي تحول إلى إمبراطور شديد التعصب والقسوة. هذه الحروب التي بدأت في نهاية القرن الخامس عشر والتي بدأها الملك الفرنسي شارل الثامن وأفضت إلى مأساة نابولي التي ذكرناها, كان من ضحاياها وريثه على العرش الفرنسي فرنسيس الأول. يقال إن فرنسيس الأول كان فارسا شجاعا يحلم لفرنسا بملك إمبراطوري واسع الأطراف, لكنه كان ماجنا وخليعا ومحبا للنساء, وكان من بين خليلاته امرأة اسمها (لابيلا فورتير) - يحتفظ متحف اللوفر بصورة لها في إحدى ردهاته. اغتاظ زوج لابيلا من علاقة الملك بزوجته وقرر الانتقام منهما, فراح يتردد على بيوت الدعارة عله يصاب بالمرض, وكان له ما أراد ونجح في نقل المرض إلى زوجته التي نقلته بدورها إلى الملك. وتحول الملك الطموح, بعد إصابته بالسفلس, إلى شخص فاسد العقل تتسم تصرفاته بالعصبية والشذوذ, مما أثر في الدولة وفي علاقاتها بالدول المجاورة.

ومع تدهور حالة الملك الفرنسي الشاب الصحية وتدهور كفاءته العقلية, فشل في حروبه المتتالية, وبحث عن حليف له, فوجد ضالته في هنري الثامن, العدو السابق, حليف الإمبراطور شارل الخامس قبل سنوات قليلة. فدعاه إلى باريس وأقام له قصرا فاخرا, أرهق الميزانية المرهقة بالفعل, وأقام هنري في فرنسا لبعض الوقت, ثم تنكر للحليف الجديد طامعا في ثروة فرنسا.

وأخيرا وفي العام 1547 مات فرنسيس الأول ووضعت على قبره شهادة تقول (هنا يرقد فرنسيس الأول الذي مات مريضا بالزهري). ومن المصادفات الغريبة أن هنري الثامن قد مات في العام نفسه (1547) وحوله الكثير من الشكوك التي ترجح إصابته بالسفلس هو الآخر.

ولم يكن سلوك هنري الثامن يقل شذوذا عن فرنسيس. تزوج هذا الملك الشاب من أرملة أخيه الأميرة الإسبانية (كاترين أراجون) التي ولدت له طفلا ميتا, أعقبه خمسة أطفال ولدوا موتى أو ماتوا بعد الولادة بقليل, ولم يبق له سوى طفلة واحدة هي ماري, التي تولت الحكم من بعده وعرفت في التاريخ بـ(ماري الدموية) أو (bloody Mary). قرر هنري الثامن التخلص من كاترين التي فشلت في أداء مهمتها الملكية, أي عدم قدرتها على إنجاب ولي للعهد. واستأذن البابا كلمنت السابع في طلاقها والزواج مرة أخرى, فرفض البابا, فقطع الملك علاقته بالكنيسة الكاثوليكية, وأعلن كنيسة خاصة للإنجليز هي الكنيسة الإنجليكانية, ثم تزوج من آن بولين الشهيرة التي فشلت هي الأخرى في إنجاب ولي العهد, فقطع الملك رأسها بعد أن اتهمها بالخيانة. وتكررت مأساة آن بولين مع غيرها مرات, وليس مرة واحدة. فهل كان شذوذ هنري الثامن نتيجة لإصابته بمرض السفلس? هناك مَن يقول نعم, وهناك مَن يقول إن ما كان يشكو منه هنري الثامن وبناء على قراءة دقيقة لسجله المرضي, هو مرض البول السكري الذي لم يكن الأطباء يشخصونه في ذلك الوقت, ولم يكن علاجه معروفا, إضافة إلى إصابته بارتفاع ضغط الدم, واجتماع المرضين معا كان يصيبه بجلطات متكررة في الدماغ, وهو ما أثر على سلوكه. هذا التفسير الحديث لأمراض هنري الثامن لم يخرجه نهائيا من دائرة الاشتباه, كما أنه لن يغير التاريخ, فالنتائج واحدة سواء كان الملك مريضا بالسفلس أو بغيره من الأمراض.

فضيحة سبعينية

مع بداية القرن الماضي (1905), نجح عالما الميكروبيولوجي شودان وهوفمان في عزل التيربونيما باليدم للمرة الأولى بعد أكثر من أربعة قرون من المراوغة. ولم تمض خمس سنوات أخرى حتى كان بول إيرليتش (1910) قد توصل إلى استخراج دواء من الزرنيخ لعلاج السفلس. أجرى إيرليتش 605 محاولات على الزرنيخ حتى حالفه النجاح في المحاولة رقم 606, فأطلق على العقار الجديد اسم (606). وبعد ذلك بقليل, حمل الدواء نفسه اسم (سلفارسان) أو المنقذ. وصف إيرليتش دواءه بالرصاصة الفضية أو السحرية مداعبا حلم البشرية القديم بوصفة سحرية تعالج كل الأمراض. لكن مع الأسف, لم يخب حلم إيرليتش في عجائبية دوائه فقط, بل هوجم الدواء من بعض الجماعات المتشددة التي ترى في السفلس عقابا إلهيا على سوء السلوك البشري, وأن العلاج الوحيد لهذا المرض هو الانضباط الجنسي. لم يتوقف العمل ونجح فيلمينج في سنة 1929 في الكشف عن رصاصة فضية حقيقية حملت اسم البنسلين الذي غيّر وجه التاريخ, لكن التوسع في استخدامه لم يتم إلا إبان الحرب العالمية الثانية. بينما كان فيلمينج يعمل في مختبره, كان الأطباء العاملون في توسكاجي بالولايات المتحدة الأمريكية يدبرون واحدة من الدراسات الأطول والأبشع في تاريخ الطب. اختار الأطباء 399 من المزارعين الفقراء, من ماكون كونتي بولاية ألباما, كلهم من الزنوج, وكلهم من الثابت إصابتهم بالسفلس طبقا للتحاليل الطبية المعتمدة. لم يقل الأطباء للمرضى إنهم مصابون بالسفلس, بل قيل لهم إنهم مرضى بـ(الدم الفاسد), ووقع المرضى على أوراق تفيد خضوعهم للعلاج في هذا المصح فقط, وتشدد العاملون في المركز الصحي في متابعة هؤلاء المرضى, ليس من أجل علاجهم, ولكن من أجل التأكد من أنهم لا يتلقون أي علاج آخر من أي مكان آخر. كانت الدراسة تهدف إلى دراسة التاريخ الطبيعي للسفلس, أي كيف يتطور المرض في غياب العلاج. وبناء عليه ظل هؤلاء المرضى قيد المتابعة دون أي علاج إطلاقا. بدأت هذه الدراسة في عام 1932 وانتهت سنة 1972, وعندما أفاق الضحايا وذووهم كان الباقي منهم على قيد الحياة ثمانية فقط. نشرت وقائع وتفاصيل هذه الجريمة المرتكبة باسم العلم في جريدة نيويورك تايمز في صباح 26 يوليو 1972. ومازالت هذه الفضيحة تلقي بظلال كئيبة على علاقة الأفروأمريكان بالنظام الصحي الأمريكي, ومازال الزنوج يشككون في نزاهة هذا النظام.

التي توقظ الموتى

في متحف الجراح الكبير جون هنتر, بالكلية الملكية للجراحين في إنجلترا, يوجد أنف فضي مدهون باللون الأحمر, ومثبت على سلكين من المعدن. هذا الأنف المستعار يخص واحدة من النساء فقدت أنفها لحساب السفلس, وكان هناك مَن يحبها دون هذا الأنف المستعار, وحين تزوجها خلع أنفها, الذي استقر فيما بعد في المتحف الخاص بالدكتور (هنتر), هذا الجرّاح الكبير الذي راح ضحية لتجربة مجنونة حين حقن نفسه بصديد ملوث بالسيلان حصل عليه من واحدة من بنات الهوى لكي يتأكد أنها ليست مريضة بالسفلس, خاصة أنه كان يعتقد أن السيلان ليس سوى المرحلة الأولى من مراحل هذا المرض. مع الأسف كان هنتر على خطأ, ومات متأثرا بما فعله, ومخدوعا بأنف من الأنوف المستعارة الكثيرة التي لبسها هذا المراوغ الكبير.

ومع بداية الألفية الثالثة, حاولت الباحثة الأمريكية ديبورا هايدن أن تنزع ما تعتقد أنها أنوف مستعارة للعديد من الشخصيات الكبيرة, من نجوم الأدب والسياسة والحرب, وتوغلت هايدن في مذكرات المشاهير ورسائلهم, وما تركوه من أدب, ومن لوحات وسيمفونيات لكي تثبت أن هؤلاء الكبار المصابين بجنون العظمة ليسوا سوى ضحايا للتريبونيما باليدم. شملت القائمة: البابا ألكسندر الرابع, إيفان الرهيب, كريستوفر كولومبس, جوستاف فلوبير (مدام بوفاري), شارل بودلير (أزهار الشر), بيتهوفن, فرانز شوبرت, روبرت شومان, جي دو موباسان, فان جوخ, أوسكار وايلد (صورة دوريان جراي), جيمس جويس (عوليس), برام ستوكر (مبتكر داركولا), فردريك نيتشه, شوبنهور, أودلف هتلر, أبراهام لينكولن وزوجته, راندلوف تشرشل (والد ونستون تشرشل) وآل كابوني.

هذه ليست المرة الأولى التي تثار فيها هذه القضية أو التي يعلن فيها مثل هذا الاشتباه, لكن مع الأسف لم تقدم الباحثة الأمريكية جديدا يؤكد أو ينفي إصابة أيّ من هؤلاء بهذا المرض. حاولت أن تلعب دور مفتش المباحث في المسلسلات, لكنها نسيت أن الدليل الأساسي مفقود ألا وهو جسد الضحية. الغريب في الأمر أن الباحثة نفسها ليست طبيبة, ولم تدرس الطب, لذا ابتعدت عن الدليل الحقيقي ولجأت إلى المذكرات والكتابات التي تركها من حاولت نزع أنوفهم. صحيح أن هناك من بين هؤلاء الأشخاص من عرف عنه إصابته بهذا المرض, لكن تظل دعواها ضعيفة بالنسبة لباقي المشتبهين. فتعليق كراهية هتلر لليهود على شماعة انتقال السفلس له من ساقطة يهودية التقاها في النمسا, لا تدين اليهود ولا تبرئ هتلر, لكنها تسطح كراهية هتلر لليهود, أما جنون العظمة الذي أصابه, وإن كان يحدث في المراحل المتأخرة من السفلس, فليس دليلا على أي شيء لأن جنون العظمة يحدث دون سفلس.

علامات في تاريخ السفلس

  • 1494-1496 الوباء الأول للسفلس - مرض نابولي.
  • 1530 فراكستورو يعطي للمرض اسمه.
  • 1547 فراكستورو ونظرية العدوى.
  • 1547 موت فرنسيس الأول نتيجة للمرض.
  • استخدام مراهم الزئبق في علاج المرض.
  • فشل أخشاب عود الأنبياء في علاج السفلس.
  • 1890 ربط المرض بالدعارة وممارسة الجنس خارج مؤسسة الزواج.
  • 1905 شودان وهوفمان يعزلان البكتيريا المسببة للمرض.
  • 1906 طريقة وزرمان لتشخيص المرض.
  • 1910 العقار 606 من الزرنيخ (سالفارسان - المنقذ).
  • 1932 بدء دراسة توسكجي لدراسة التاريخ الطبيعي للمرض.
  • 1939 حرب شيكاغو ضد المرض.
  • 1943 استخدام البنسلين في علاج السفلس لأول مرة.
  • 1947 الوباء الثاني للسفلس.
  • 1948 البنسلين وحده ليس كافيا للسيطرة على المرض.
  • 1956 انخفاض معدل الإصابة بالمرض.
  • 1960 عودة المرض للظهور بكثافة مع الثورة الجنسية.
  • 1970 تسجيل زيادة معدلات المرض بين المثليين.
  • 1972 نهاية دراسة توسكجي.
  • 1980 ارتفاع معدلات الإصابة بالمرض في الضواحي الفقيرة بأمريكا.
  • 1991 ارتفاع معدلات الإصابة بالمرض في روسيا وفنلندا.
  • 1996 نهاية التحقيقات في فضيحة توسكجي.
  • 1997 كلينتون يعتذر لأسر ضحايا فضيحة توسكجي وأهالي ماكون كونتي.
  • 2002 ارتفاع معدلات الإصابة بالمرض بين المثليين في أمريكا وأوربا.

 

إبراهيم البجلاتي 




ملصقات تحذيرية ضد الاصابة بالزهري





جراثيم الزهري كما تبدو تحت الميكروسكوب





الزهري هو آفة الاجيال في الحاضر كما كان في الماضي





كريستوفر كولومبس هل جاء بالزهري من أمريكا?





أعراض الزهري كما صورتها كتب القرون الوسطى