شعاع من التاريخ

 شعاع من التاريخ
        

امرأة.. ذات مخالب وأنياب..!

          عندما كانت لا تزال لاعبة في السيرك عرفها الشباب بأنها سليلة مروضي الوحوش.. وحين اعتلت خشبة المسرح وأصبحت ممثلة تجتذب تصفيق المشاهدين أطلقوا عليها لقب شعلة النار التي لا تخمد.. وإذ تمكنت من الوصول إلى قلب ولي العهد سموها محظية جستنيان.. ولما جلست على العرش شريكة للإمبراطور هتفوا مهللين لمعشوقة الجماهير, ومع استهانتها بالشعب الذي لم تعد تستحق في نظره اسم تيودورا (هبة الرحمن) انقلبوا عليها وهتفوا بسقوط (مندورا.. لعنة الشيطان)!

          وفي الحق.. لقد تقلبت الأيام بالفتاة الصغيرة منذ جاءت إلى القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية الرومانية الشرقية بصحبة أبيها وأمها وشقيقتيها بحثا عن لقمة العيش وكانوا في أسوأ حال من الفقر والمسكنة والحرمان. وهي لم تنس قط أنها جاءت إلى تلك المدينة وفي رأسها أحلام كبار ضاعت كلها مع بقاء أبيها عاطلا لفترة من الزمن حتى قيض له الله أن يشغل وظيفة مروض للدببة في حظيرة الوحوش الضارية أتاحت له أن يجد ما يقوت به أسرته الصغيرة. ولكن الأمر لم يدم طويلا إذ رماه طالعه السيئ ذات يوم في أشداق دب مفترس كتم أنفاسه ودق عظامه وتركه جثة هامدة. وظلت الأم وبناتها الثلاث يعانين شظف العيش وعدن إلى المعاناة من جديد تحت سماء مدينة ترفل كل ليلة بكل مباهج الحياة دون أن تمتد إليهن يد رحيمة. ولم يغب عن ذهن الصغيرة أن أمها قد تألبت عليها الأدواء والعلل حتى ماتت دون أن تجد حتى الدواء تاركة الفتاة رغم صغر سنها للاندفاع إلى الحانات المتناثرة لتعمل خادمة أو إلى السيرك لتعمل مهرجة, ولا تأبى على نفسها أن تحترف بعد ذلك مهنا أخرى كالرقص والتمثيل على المسارح الفقيرة الممتدة على جوانب البسفور لتتمايل أمام روادها من الرعاع والصعاليك. وعاشت الراقصة الحسناء وفي قرارة نفسها رواسب أليمة أذكت فيها روح النقمة على الناس والثورة على التقاليد وأنظمة الحياة البيزنطية العفنة التي لا ترحم الفقيرات مثلها بالرغم من الثراء الذي يتمتع به الآخرون.

          وازداد بها الحقد أكثر حين وقعت ذات ليلة بين أيدي رجال الدرك أتباع محافظ المدينة القاسي (حنا الكبادوكي) الذي أصدر أوامره بأن يدمغوها بسيخ محمي من الحديد باعتبارها فتاة ليل. وظلت آثار السيخ المحمي بالنار تدمغ كتفها إلى آخر الأيام لتزيد من حقدها على الجميع.

الطريق إلى المجد

          لعل القدر قد ابتسم لتيودورا آخر الأمر حين لجأت إلى صديقة لها قديمة كانت زميلة لها في المسرح ذات يوم وكانت على علاقة طيبة بالأمير جستنيان ولي العهد حين كان في صدر شبابه من رواد المسارح والحانات. وحاولت الصديقة أن تخفف عن صديقتها شقاءها فأعطتها خطاب توصية إلى الأمير لعله يوصي لها بالعمل في أحد المسارح والملاهي الكبيرة هذا إذا استطاعت الوصول إليه. ولم يكن أمام تيودورا إلا أن تحاول.. وتنجح..!

          لم يكن صعبا على ممثلة حسناء في عنفوان شبابها الذي لم يتجاوز العشرين ربيعا أن تخترق الحواجز للوصول إلى الأمير جستنيان صاحب الجولات والصولات في دور اللهو وبيوت الهوى قبل أن يختاره عمه الإمبراطور العجوز ليكون وليا لعهده. وحين رآها أمام مكتبه وقعت في عينيه كأبدع ما تكون الأنثى وراح يسألها عما تريد. وأجابته: (تشفع لي يامولاي لأعود إلى المسرح لأعيش ولو أني أكره ذلك الجو البغيض). والتقت عيناهما في صمت قطعه ولي العهد وهو يقول: (لن تعودي إلى هناك.. بل ستظلين هنا معي..!).

          لو شاءت تيودورا منذ بلغت أشدها أن تملي إرادتها على القدر فيحقق لها ما تتمنى وأن تكون زوجة أمير مع ما كان في نفسها من طموح وثاب لهزأت ساخرة. فلا عجب إذا كانت في شبه غيبوبة يوم اقترب منها النبلاء والنبيلات مهنئين بعد أن أصبحت زوجة لولي العهد الذي استطاع أن يحصل من الإمبراطور على موافقته لإلغاء القانون الذي يحرم على الخاصة أن يتزوجوا بالعامة, وبخاصة الراقصات والمغنيات.

          وكان الإمبراطور قد أخذ به الداء والهرم. فنهض جستنيان بجميع الأعباء واقتصرت مهمة الإمبراطور على أن يمهر الوثائق بتوقيعه ويختمها بخاتمه الإمبراطوري. وعملت تيودورا بذكائها الخارق على أن تحتاط للمتربصين بالعرش وأن توحي لزوجها الأمير بأن يغير من أطقم رجال القصر ويعين في الشرطة والحرس نفرا من الناس اختارتهم لذلك عن طريق صديقتها التي كانت تعرف الكثير من الرجال الذين يؤدون جيدا مهمة العيون والجواسيس فيكونون عيونها الأوفياء. وتمكنت بعد ذلك من أن تكون عقل زوجها المفكر ورأيه المدبر.

          ودفعت ولي العهد إلى أن يعنى بشئون الدولة الداخلية والخارجية حتى يقطع الطريق على كل من تسول له نفسه الوقوف في وجهه من النبلاء والأشراف والأثرياء الذين كانت تحمل لهم المقت والكراهية منذ كانوا يسومونها الهزء والسخرية عندما كانت تمارس مهنة الرقص والتمثيل.

          ولعل أبرز اهتماماتها كان الحرص والاطمئنان على ضمان العرش لزوجها رغم كثرة المنافسين والطامعين مع عدم إغفالها عن كل الكارهين لوجودها بالقرب من ولي العهد. وكان أشد هؤلاء هو المحافظ الذي لم يكن يمكن أن يزيحه من مكانه سوى قائد الجيش, وعرفت تيودورا كيف تقنع الأمير بتقريب قائد الجيوش بليزاريوس المنتصر على الفرس حتى استدعاه ومنحه باسم الإمبراطور أرفع وسام في الدولة مع أراض واسعة اعترافا بجميله على الوطن.

          واطمأنت بذلك الى أن هناك من يواجه حنا الكبادوكي إذا حاول الانقضاض على العرش بعد موت الإمبراطور.

شريكة على العرش

          جاءت اللحظة المناسبة حين دقت الكنائس دقات الحزن والحداد وخرجت العاصمة عن بكرة أبيها تشيع جثمان الإمبراطور الراحل إلى مقره الأخير. وفي القصر الإمبراطوري تولى رئيس مجلس الشيوخ كتابة الوثائق القانونية للمناداة بالأمير جستنيان إمبراطورا على بيزنطة. فأنهى إليه جستنيان بأن ينص في وثيقة تولي العرش على أن زوجته تيودورا ترقى معه درجات العرش لا على أنها زوجته فقط بل على أنها شريكته في الحكم والسلطان. وتردد رئيس مجلس الشيوخ قليلا بينما هم حنا الكبادوكي بالكلام. فدوى صوت بليزاريوس قائلا: (ماذا تنتظر يا سيدي لتنفيذ رغبة الإمبراطور?) وأذعن الرجل وتمت كتابة المراسيم القانونية وخرج بليزاريوس إلى شرفة القصر الإمبراطوري وصاح في الجماهير المحتشدة بصوته الجهوري:

          - مات الإمبراطور. وعاش الإمبراطور جستنيان وشريكته الإمبراطورة تيودورا.

أنياب ومخالب

          مرت الأيام على تيودورا وهي تتمرس بإدارة الحكم وتبدي فيها عبقرية نادرة, وترك لها جستنيان الحبل على الغارب منصرفا هو ورئيس مجلس شيوخه إلى دراسة القوانين واللوائح وتصفيتها واستخلاص الصالح منها وضمها في سفر يطلق عليه (موسوعة قوانين جستنيان).

          أما هي فقد قبضت خلال سنوات على ناصية الأمور بيد من حديد. فكانت المنتقمة الجبارة تبطش بأعظم عظيم وأكبر كبير, وأصبحت ذات أنياب ومخالب في الانتقام من كل الذين طالما ساموها المهانة والاحتقار. وبدأت بحنا الكبادوكي فأقالته من منصبه كمحافظ لتقطع كل صلة له بحامية العاصمة من درك وشرطة وحرس. وتحولت بعد ذلك إلى الأشراف والنبلاء والأثرياء الذين كانوا يتناولونها بألسنة حداد. فراحت تصادر كل ما يروق لها من أملاكهم. واستغلت فرصة انشغال جستنيان بأمور القوانين واللوائح وتركه الأمور لها فراحت ترهق كواهل الشعب بمختلف طبقاته بأشد أنواع الضرائب والمكوس.

          لقد كان المجتمع كله ضحية مسرحيات الإمبراطورة, فهي تذكر جيدا تلك اللعنات الصاخبة التي طالما سمعتها من أفواه ذلك الشعب قبل أن يبني بها الإمبراطور.

          إنه المجتمع كله.. كلهم رموها بالعار.. وهي الأخرى ستلقي بهم من حالق..!

          هكذا كان حكم الإمبراطورة سلاسل متتابعة للانتقام من هؤلاء الذين  أذاقوها العذاب والحرمان, والازدراء والاحتقار.

          واستمرت عجلة الزمن تدور. ومع كل دورة كانت تكسب جولة ولا يهمها أن تخسر جولات, ودخلت تواصل انتقامها الرهيب, وكان الدور في هذه المرة قد حان على الشعب. وراحت تلعب دورها الجديد بإتقان, ووجد الشعب نفسه تحت أعباء هائلة من الضرائب لا تكاد تعد. وبدأ الهمس يولد ليصير هديرا على أتم استعداد ليحطم كل ما أمامه من عقبات وقيود إذا هو وجد أول فرصة للانفجار.

          على أن هذه الفرصة ما أسرع ما جاءت عندما وجدت من يستغلها بكل حذق. وكان صاحب هذه الفرصة هو المحافظ السابق حنا الكبادوكي!

          وطلع صباح ذات يوم وإذا شائعة تدور بأن تيودورا قد عملت على إصدار أمر بتخفيض ما يصرف من القمح على الشعب إلى الثلث. ولم يكن الشعب على استعداد لأن يجوع ليتخم الآخرون. وشهد الحراس في الصباح التالي تمثالي الإمبراطورين المقامين أمام القصر, وقد لطخا بالطين, وارتفعت صيحات صاخبة في كل مكان: (اللعنة على الإمبراطور والحرق للعاهرة). وكانت هذه أول مرة تثور فيها القسطنطينية, وأصدرت الإمبراطورة أوامرها إلى بليزاريوس قائد الحرس الإمبراطوري الذي انطلق ليضرب ثورة الشعب.

مسرحية جديدة أخيرة

          جن جنون الشعب وتحوّلت شوارع القسطنطينية إلى ميدان بشع للقتال, وراحت الجماهير تفعل كل ما يمكن أن يعبر عن ثورتها, تنهب وتحرق وتملأ العاصمة تدميرًا. وتحولت قصور الحكام ومباني الحكومة إلى شعلة من النيران, وبدأ اليأس يدب في نفس جستنيان. وانطلقت الجموع الهادرة إلى القصر الإمبراطوري تحت زعامة حنا الكبادوكي في محاولة أخيرة للقضاء على العرش. واقتحمت الجماهير أسوار القصر تبحث عن الإمبراطور وعن المرأة التي لعبت بالشعب وحرمته من الطعام والخبز. واقترب الضجيج من الجناح الخاص, وانتبهت تيودورا آخر الأمر على الهدير الصاخب, بينما هي تستلقي في سباتها الذي ألقى بها إليه داء السرطان. وهمست في صوت مبحوح لوصيفتها العجوز تسأل عن الضجيج فأجابتها: (إنه الشعب الخائن يا مولاتي جاء يطلب الطعام). وابتسمت تيودورا في ذهول, واتكأت على فراشها لتنهض ولتخرج إلى الشعب وتنصت إلى شكواه, وأطل الثوار فوجدوا الإمبراطورة المريضة تطل عليهم من الشرفة وقد استندت إلى ذراع وصيفتها وأحد رجال القصر. وتراجع زعماء الثورة خطوات إلى الوراء وقد فتحوا عيونهم دهشة لتلك الجرأة التي لم يتوقعوها من قبل. وسمعت الجماهير صوت الامبراطورة تسألهم عمّا يريدون, وارتفع من بينهم صوت:

          - الخبز... نريد الخبز ونريد المساواة بين الجميع.

          وهزت تيودورا رأسها في هدوء:

          - أهذا كل شيء? سيكون لكم الخبز وشيء آخر أكثر من المساواة, هو حفل خاص نقيمه للشعب في الملعب الكبير...!

          وفي لحظة... كانت الألسن التي هتفت بسقوط الإمبراطورة العاهرة, هي بعينها التي تهتف بحياة الإمبراطورة الكريمة التقية معشوقة الجماهير. وفي اليوم التالي كان الشعب كله يغني ويرقص وهو في طريقه إلى الميدان الكبير حيث الحفل الضخم الذي تقيمه الإمبراطورة من أجل رفاهية شعبها...!.

          وانتصف الليل واقترب الحفل من نهايته وانسحب الإمبراطوران إلى القصر في موكب ضخم رائع تصحبه هتافات الجماهير التي أبت إلا أن تستمر في صخبها حتى ينتهي الحفل الذي لم يشهدوا مثله من قبل وكان بعد ذلك العرض الأخير لأروع مااحتواه البرنامج العجيب. واشرأبت أعناق الجميع, وتقدم إلى وسط الميدان قائد الحرس في ردائه المزركش ومن ورائه فصائل رماة السهام في أزهى الحلل. ومرة أخرى ارتفع الهتاف للإمبراطورين. وعاد الجميع يشرئبون بالأعناق, واستمر الجنود يتشكّلون في أقواس تواجه جوانب الميدان كله, وبدأ العرض, وانهالت السهام القاتلة على الشعب الأعزل المبهوت...!

          أما في القصر, فقد جلست تيودورا على سرير مرضها تبتسم, فقد عرفت كيف تنتقم من الشعب بنبلائه وعامته الذين سخروا منها يوما. وكان انتقامها بشعًا رهيبًا عاش في ذاكرة التاريخ. وظلت المرأة ذات المخالب والأنياب تعيش وفوق صدرها كابوس هائل ضخم. كان كابوس السرطان الذي لم تعمل له حسابًا يوم أن كانت الدنيا مغامرة رحبة, أما اليوم فلا شيء غير العذاب الدائم... والموت.

 

سليمان مظهر   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات