أرقام

  أرقام
        

الخليج 2015 

          كانت سنوات الربع الأخير من القرن العشرين في الخليج العربي هي سنوات الأزمة والأمل, فخلالها شهدت المنطقة ثلاث حروب كبرى, كما شهدت وفي الوقت نفسه انفجاراً تنموياً رافق الزيادة في أسعار وعوائد النفط, وصاحب الأمرين: محاولات لبناء الدولة الحديثة, بل ودولة الرفاه أيضا.

          ترى... وإذا اقتصر الحديث على دول مجلس التعاون الخليجي: كيف يكون المستقبل? وكيف يعيش الناس في هذا الجناح الشرقي من الوطن العربي, والذي مرّ بما يمكن تسميتها (سنوات الانقلاب الكبير)?

          تفاجئنا أرقام مجلس التعاون الخليجي وتقرير التنمية البشرية الصادر عن البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة (عام 2000) بأن الخليج وفي تاريخ قريب هو عام (2015) سوف يصبح عالما من الحضر, تكاد تختفي منه حياة البادية وحياة المناطق الريفية.

          في ذلك العام - ووفقا للتوقعات - سوف يقطن سكان تبلغ نسبتهم بين (91) و (97) في المائة في مناطق حضرية, وذلك في خمس دول هي بالترتيب (الكويت - 97% من السكان) ثم قطر والبحرين (95%) ثم السعودية والإمارات (91%), ولن تتخلف سلطنة عمان كثيرا وإن احتفظت بالمفاجأة الكبرى وهي التحوّل غير المسبوق من الريف والبادية للحضر بمعدلات تزيد على أربعة أضعافها في أربعين عاما... فقد كان سكان الحضر في السلطنة عام (75) حوالي (20%) فأصبحوا ثلاثة أرباع السكان عام (2000) وسوف يصبحون (83%) من الكتلة السكانية عام (2015)!

          إنه عالم من المدن بما يعنيه ذلك من تراجع الأهمية النسبية للزراعة والرعي, وبما يعنيه أيضا من أنماط حضارة واستهلاك وإنتاج تفرضها حياة المدينة. أما المفاجأة الثانية فهي ذلك التراجع في نسبة النمو المطّردة للسكان والتي صاحبت الانفجار النفطي والتنموي, فخلال ربع قرن بعد ثورة النفط كان متوسط نمو السكان في دولة الإمارات على سبيل المثال: (6,6) في المائة سنويا, لكن هذه النسبة - وطبقاً للتوقعات سوف تكون (1,4)) بالمائة في الفترة المقبلة وحتى عام 2015, والنسب تتراوح بين دولة وأخرى, لكن تراجع النمو هو القاسم المشترك فيما عدا دولة الكويت التي سوف تحتفظ بنسبة نمو ثابتة تقريبا وفي حدود (2.5) في المائة سنويا.

          ويفسر النمو الكبير في الفترة الأولى (75-2000) العديد من العوامل, فقد تضاعفت إيرادات النفط - الثروة الأساسية - ورغم تذبذب هذه الإيرادات بسبب اضطرابات السعر, فقد ظلت الفورة أو الثورة التنموية مستمرة, وظلت محاولات بناء دولة الرفاه بإيقاع متسارع حتى في سنوات العجز المالي الذي صادفته بعض الدول, بل إن ما تم بناؤه في السنوات الأولى من هذه الفترة (وهو الأكثر) كان تشغيله كفيلا باستدعاء عمالة أجنبية كثيفة, وبما أدى إلى تزايد مطرد في السكان (بلغ السكان غير الوافدين في الإمارات (77) في المائة من السكان. وإن هبط الرقم إلى ربع السكان في كل من السعودية وعُمان, وذلك عام (2000)).

          أما العامل الثاني المفسر لنسبة التزايد التي كانت هي الأكبر في العالم, فهي العادات الموروثة, وما ألفه الناس من امتلاك أسرة كبيرة حيث بدأت هذه السنوات بمعدل خصوبة يدور حول سبعة أطفال لكل امرأة وإن هبط في حال البحرين وحدها إلى ستة أطفال.

          العامل الثالث الدافع للنمو الكبير في السكان, هو ذلك التحسّن الكبير في مستويات الصحة ومعدلات الوفاة ومتوسط العمر المتوقع عند المولد والذي يمثل قفزة كبيرة في نوعية الحياة.

          لقد شهدت السنوات الماضية قفزة هائلة في متوسط العمر, فزاد هذا المتوسط من (54) عاما في السعودية و(49) عاما في سلطنة عمان خلال فترة (70-75)إلى (71) عاما لكل من البلدين في السنوات الخمس الأخيرة للمقارنة..و...خلال تلك السنوات (95-2000) أصبح متوسط العمر يفوق السبعين ولا يهبط قليلا عنه غير مواطني قطر (69 سنة), أما الأكثر تحقيقا لعمر أطول, فهو المواطن الكويتي الذي زاد متوسط العمر عنده إلى (76) عاما.

          هكذا كانت العوامل الثلاثة: حجم الاقتصاد والخدمات - حجم الأسرة - متوسط العمر عوامل دافعة لتزايد غير مسبوق في السكان, ولكن وعلى العكس من ذلك تجيء التوقعات لعام (2015) لتجعل النمو محدودا حيث تراجع معدل الخصوبة عند المرأة ]مثال ذلك انتقال معدل الخصوبة من سبعة أطفال للمرأة الكويتية منذ ثلاثين عاما إلى أقل من ثلاثة أطفال في السنوات الأخيرة[.

          تراجع معدل الخصوبة بما يؤثر في نمو السكان, وتراجعت أيضا الحاجة لعمالة أجنبية بعد أن تراوحت نسبة البطالة عند المواطنين (6) و (17,5) في المائة عام (2002).

          هكذا سوف تكون الصورة في الخليج, والتي سوف تسجل في الوقت نفسه رقما متوقعا لإجمالي السكان يصل إلى (43,3) مليون نسمة عام (2015) وبما يعادل دولة متوسطة الحجم أو يعادل أربعة أضعاف ما كان عليه الحال في دول الخليج الست عام (75) حيث لم يزد السكان حينذاك على (10,2) مليون نسمة.

          .......

          الرحلة مثيرة: من الريف والصحراء إلى الحضر, ومن العمر القصير نسبياً إلى العمر الطويل والصحة الموفورة, ومن مجتمع متوسط الدخل إلى دولة الرفاه والدخل المرتفع...و... مع ذلك فإن سؤال المستقبل سيظل حاسماً وتحكمه العوامل الثلاثة: حالة السكان, وحالة الاقتصاد, وحالة الأمن.

          لقد تعرضت دول الخليج لهزات اقتصادية وأمنية قللت من فرص الاستقرار والانطلاق, فأسواق النفط لم تكن مستقرة, وبينما بلغت قيمة إنتاج النفط في السعودية - على سبيل المثال - وطبقا للتقرير الاستراتيجي الخليجي (93) مليار دولار عام 1980, فإن هذه الإيرادات قد انخفضت إلى (49) مليارا عام (92) و (52) مليارا عام (2002), والظاهرة ممتدة لكل الدول الخليجية عدا قطر التي زادت مواردها بسبب الغاز.

          النفط كان نقطة الانطلاق, لكنه أيضا كان السبب في هزات عديدة, ولم يكن بعيدا عن الخطر الأمني الذي أحاط بالمنطقة.

          كان النفط وراء الغزو العراقي للكويت, وكان هو ذاته محل الاهتمام الدولي بالمنطقة.. كان بما يمثله من ثروة وما يحتاج إليه من حماية منبع الخير ونقطة الخطر في آن واحد, بل إنه المعدن الذي كشف عن أهمية المعادلة التي تتحدث عن (الثروة والقوة والسكان), فمن أجل حماية الثروة لا بد من امتلاك القوة, ومن أجل امتلاك القوة لا بد من امتلاك الوعاء التجنيدي الكبير الذي يتيحه حجم سكان أمثل يوفر قوات محاربة.. و.. من هنا كانت معضلة الأمن والتي تمت مواجهتها بثلاث طرق:

          - اعتمادات مالية كبيرة تمثل نسبة عالية من الناتج المحلي لبناء قدرة دفاعية.

          - محاولات لتطوير القوات الخليجية المشتركة (درع الجزيرة).

          - غطاء أمني دولي وفق معاهدات واتفاقات.

          وهكذا تشابكت قضايا: السكان - الاقتصاد - النفط - الأمن.. فما صورة المستقبل التي نتساءل عنها?

          قد يبدأ المستقبل أيضا بقضية النفط ومستقبل السوق العالمية في ضوء المتغيرات العالمية والإقليمية فإذا كان الوضع العالمي للبطالة يجعل الاعتماد على النفط مستمرا لفترة طويلة, فإن التحكم في متغيرات السوق هو ما يوفر سعرا عادلا أو سعرا مجحفا.

          لقد تراجع السعر الحقيقي للبرميل في بعض السنوات عما كان عليه عام (73).. وتراجعت العوائد على النحو الذي أشرنا إليه, ولكن ومع سياسة جديدة لمنظمة الأوبك ارتفعت الأسعار في الآونة الأخيرة في الحدود التي كانت محل تفاهم بين المنتجين والمستهلكين وبما يمثل متوسطا عادلا للسعر.

          ولكن, وعندما حدث الدخول الأمريكي - البريطاني للعراق بات السؤال: هل تدخل الولايات المتحدة شريكة في تقرير سياسة النفط للأوبك? وإذا دخلت عبر العراق الذي يحتفظ بـ (11%) من الاحتياطي العالمي ففي أي اتجاه?

          عدم اليقين يسود المستقبل وبما ينعكس بالضرورة على حالة الاقتصاد وحالة السكان وسوق العمل.

          لقد كان التحدي الذي واجه دول الخليج هو التحول من دول نفطية إلى اقتصادات متنوعة (صناعية - خدمية - نفطية), وكان التنوع هو الضمان لمستقبل أفضل حين تهبط أسعار النفط أو حين تنضب احتياطياته, لكن ذلك التنوع لم يحدث بالقدر الكافي وبما جعل الاقتصاد أسيرا للنفط, يرزح تحت أعباء الأمن, وعاجزا عن توليد فرص عمل كافية في الوقت نفسه.. وكان رد الفعل الطبيعي هو إعادة النظر في العمالة الوافدة وإمكان إحلال المواطنين مكانهم.

          زاد من الطلب في سوق العمل: ارتفاع نسبة التعليم, وإقبال نسبة أكبر من الإناث على العمل.. وظل عائقا في هذا السوق: إحجام الوطنيين عن بعض التخصصات وتفضيل أصحاب الأعمال لعمالة وافدة رخيصة التكاليف.

          السؤال والخليج سوف يضم (43) مليون مواطن حسب التوقعات لعام 2015: هل تتغير هذه الخريطة? وهل يلعب التزايد السكاني دوره في إشباع حاجات الاقتصاد والأمن.. وهل يجد المواطن فرصته في سوق العمل?

          إذا كان الحديث عن مزايا الكيانات الكبيرة فلابد من الوحدة الاقتصادية والتي بدأت خطواتها الأولى.. بل ولابد من الحديث عن الوحدة العسكرية أيضا.. وفي ظل سياسة خليجية مشتركة يصبح تنويع الاقتصاد وفتح الفرص أمامه ممكنا. سوف يكون الوطن بديلا للمهجر لأنه سوف يوفر كل شيء, إن نقطة التقدم: خليج واحد ومتحد 

... ورقم
الهروب من الوطن

          تحول العالم إلى مناطق طرد ومناطق جذب.. وما بين الطرد والجذب كانت حركة الهجرة.

          تاريخيا, كانت الهجرة من أجل التجارة, ومن أجل الغزو والاستيطان, ومن أجل العلم.. وقبل ذلك كله: من أجل نشر الرسالات السماوية.

          وفي القرن الماضي ارتبطت بغياب الأمان الشخصي أو السياسي أو الاقتصادي.. فهاجر الآسيويون إلى أوربا وأمريكا والشرق الأوسط.. وهاجر الأتراك غربا, كما هاجر العرب إلى بلاد الشمال أو إلى داخل وطنهم عند الأطراف في الخليج العربي.

          وكانت الهجرة بحثا عن عمل أفضل, أو فرارا من أوضاع سياسية أوحروب إقليمية أو أهلية أو هربا من الاحتلال.

          وهكذا كان من أشهر المهاجرين: المهاجر العراقي والسوداني والصومالي والأفغاني والفارون من حروب ومذابح إفريقية أو بلقانية.

          ولكن ومع انكماش سوق العمل في مناطق كثيرة, ومع بروز عنصر الأمن بعد (11) سبتمبر في الولايات المتحدة, مع هذين العنصرين أصبحت الهجرة مشكلة وأصبحت عرضا بلا طلب.

          وسط هذا المناخ جاء تقرير التنمية الإنسانية العربي عام (2002) ليقول إن (51) في المائة من الشباب العربي و(54) في المائة من المراهقين يرغبون في الهجرة هربا من الأوضاع السائدة بالنسبة لفرص العمل والتعلم. إنهم قلقون على المستقبل.

          السؤال: هل هي الأوضاع الاقتصادية التي تجعل الفرص عزيزة والدخول النقدية منخفضة? أم هي ظروف السياسة والديمقراطية.. أم هو الإغراء في دول الشمال?

          نصف الشباب يريد الهجرة قضية تستلفت النظر وتستحق وقفة من الأمة. إنه الهروب من الوطن.

 

محمود المراغي   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات