جمال العربية

جمال العربية
        

إلى أمي.. وهي في قبرها تنام

          ولد الشاعر العماني سيف الرحبي عام 1956 في قرية (سرور) من أعمال (سمائل) في سلطنة عمان. درس في القاهرة وعاش في أكثر من بلد عربي وأوربي, عمل في المجالات الصحفية والثقافية العربية, ويعمل الآن رئيسا لتحرير مجلة (نَزْوَى) الثقافية الفصلية التي تصدر في مسقط. خلال رحلته الإبداعية أصدر عددا من المجموعات الشعرية والكتابات النثرية في مقدمتها دواوينه (نوْرسة الجنون), (الجبل الأخضر), (أجراس القطيعة), (رأس المسافر), (مُدْية واحدة لا تكفي لذبح عصفور), (رجل من الربع الخالي), (جبال), معجم الجحيم), (يد في آخر العالم), (الجندي الذي رأى الطائر في نومه), وأخيرا (مقبرة السلالة). وكتبه النثرية: ذاكرة الشتات, منازل الخطوة الأولى: سيرة المكان والطفولة, حوار الأمكنة والوجوه, وقوس قزح في الصحراء:, تأملات في الجفاف واللاجدوى.

          بهذا الإنجاز الإبداعي الشديد الحيوية والخصوبة, المتجاوز لذاته باستمرار, والمستشرف لآفاق بعيدة, أصبح (سيف الرحبي) صوتا لجيله الشعري في سلطنة عمان وأتيح لشعره الممتلئ بمفردات المكان وعبق التاريخ وظلال الوقائع أن يترجم إلى العديد من اللغات الأجنبية كالإنجليزية والفرنسية والألمانية والهولندية والبولندية وغيرها, باعتباره رؤية إبداعية لها شميمها الحضاري وهويتها التي لا تختلط بغيرها, بادئة من الواقع الشديد الخصوصية والتفرد منطلقة إلى الأرحب والأشمل: الإنساني نزعة وحضورا وانتماء.

          في أحدث دواوينه الشعرية (مقبرة السلالة) يقدم سيف الرحبي ما يسميه بالمحاولة الأولى, من خلال مدخل يستعير فيه كلمات (نيتشه): تلك البسمة التي فيها من العطف والحنان, ما يستهوي الملائكة بالبكاء. ثم يقول في لغة أدبية شعرية حارة, شديدة التوهج والتكثيف, ومحاولة لاستحضار أجواء الطفولة وآفاق الحنان التي كانت تظللها وتملؤها وتفيض عنها, جاعلا عنوان هذا المفتتح: (إلى أمي: وهي في قبرها تنام):

          كان الطفل يمضي مع أمه في ظلام القرية الذي غاب عنه القمر فصار يشبه ظلام الرحم في غزارته ورقته, حين انعطف بهما الطريق نحو مقبرة (الجيلي) التي علقت بمخيلته وكأنها تلخيص بالغ الكثافة للكون بأكمله.

          لم تكن تلك المقبرة رغم عزلتها الغامضة, تشي بوحشة قاتلة. فقد كانت الأرض الرطبة وأشجار (الغاف) والسدر المستطيل على أديمها يخفف من وقع هذه الوحشة, وربما يمنح الموت بعدا حالما, رغم حكايات الأشباح والسحرة التي تعج بها القرية حول تلك المقبرة التي لا تشبه المقابر الأخرى من حيث الموقع, فتلك كانت على تخوم القرية ومجدبة تماما, أما هي ففي وسطها وعلى قدر من الاخضرار. تململ الطفل حين رأى الأم ينتابها الفزع لكنه تظاهر بالتماسك قائلا: (في صدري ثلاثون جزءا من القرآن, وهي كفيلة بحمايتنا).

          كانت حدأة تحلق في الفضاء, مضيئة بطيرانها السريع دوائر الليل المتلاطمة, كالإعصار, ثم تنقض على جسم يخدع في زاوية من منحنيات شجرة السدر الفارعة.

***

          كيف يمكن حلّ هذه المفارقة الكبرى في الوجود?

          أن تُهيل التراب والحجارة على جسد من تحب... بيدك?

          بيدك أنت لا غيرك. التي كانت قبل قليل تلامس الجسد المفعم بالطهارة والحركة, حتى يختفي بكامل هيئته وبهائه تحت طبقات الأرض التي تستقبله ببرود مكرٍ هادئٍ حزين, من فرط ما استقبلت من أجساد وأضرحة في عمرها المديد, لتضيفه إلى ذاكرتها البرزخية الهرمة?

          أي مفارقة?

          أي سر يحفر عميقا في الروح, محتدما بعنفه ودمويته وعبثه?

          كل الأساطير الكونية والخيالات والاستيهامات, كل النتاج الفلسفي والأدبي المتراكم عبر العصور في هذا المضمار, لا يمنح قطرة ماء لكائن تشققت شفتاه من الظمأ, ليس إلا محاولة مرتبكة للاقتراب من عرين هذا السّر الذي يتدفق حيوية ونضارة أمام شيخوخة الأرض والتاريخ, والنبات والبشر.

***

          يقينا لم تعودي تشعرين ببرد (المكيف), ولم يعد الضوء المتسلل من النافذة يجرح عينيك الذابلتين, ولا صخب الأطفال, والممرضات في المستشفى.

          آخر مرة زرتك فيها, جلست على حافة السرير, كان يمام يتقافز على الشرفة, وكان وجهك المليء بالنور, النور المرهف الصافي, يقول سمت وداعه الأخير.

          قلتِ لي: (عليك أن تذهب, لديك طريق طويل).

          ومرة وكنتِ لتوّك قد أفقتِ من الغيبوبة: (أين أمك وفي أي مكان تقيم? هل هي بعيدة من هنا?).

          أطياف الخارج من ظلمة الغياب حيث نجمة هائمة في آخر الأفق.

          لا أستطيع أن أسأل عن حياتك الجديدة, وماذا تفعلين حين تستيقظين في الصباح, ومن هم زوّارك الجدد وبماذا تحلمين, وكيف طعم الفصول هناك?

          لا أستطيع. لأنني لم أفق من صدمة الفراق بعد. والدمع يقطع عليّ كلّ طرق التذكر. الدمع المحتقن في المآقي والأعماق أشرق به, أكاد أختنق فلا أستطيع التذكر والكتابة والسؤال.

          في تلك الليلة, كيف سرى معراج روحك إلى ملكوت خالقه, إلى جنّة الرب?

          ها أنا أسأل متعثرا بديمة الدمع كالغريق.

          ونمضي مع الشاعر الناثر, المبدع في الحالين, سيف الرحبي. في بكائيته الطويلة الدامعة. الممتدة كأنها بطول الكون وعرضه, تنشر ظلالها على كل ما يصل إليه البصر وتنفذ إليه ومضات البصيرة. عالم الطفولة يمور ويجهش ويفور. والأماكن - لكثرة ما حُملت من أثقال الموت والنفي والنأي والغربة والرحيل - تكاد تسقط وتتهاوى, محتقنة بالأسى, متقصفة كالسّدر اليابس.

          وهو في بكائيته, ينساب رخيّا كالنهر, ويجيش - أحيانا - كالموج الهادر, يصعد قمة حزنه وذرى شجنه ولوعته, ويهبط إلى وادي تذكراته وقاع الشوك من تفاصيل خطاه وملامحه الأولى. واللغة, اللغة طيّعة ومسايرة, يحركها في يده كيف يشاء, وهو يضرب بفرشاة ألوانه في كل اتجاه, يمزج من الألوان المألوفة لونا جديدا لم ينهبه المصورون من قبل, إنه لون البكائية الشعرية النثرية في آن. لا مسافة الآن ولا تخوم بين ما هو شعري وما هو نثري. الكل منقوع في وهج الكل. والنثر يتنفس صهد الشعر, والشعر يشاكل طواعية النثر ويُماهي تدفقه وانصبابه, فلا مجال إذن للتوقف والتساؤل, ومحاولة إضفاء المصطلح وتحديد الصيغ والأجناس, هذا فعْل من يخنقون الوردة بدلا من أن يشموها وهم يظنون أنهم يكشفون سرّ عبيرها الفواح, لنقترب إذن من غير قبضة تلامس وتخنق, يقول سيف الرحبي:

البحر أكثر وحشة هذا المساء
البحر القاحل كصحراء
الممتطي صهوة الغياب
على الذروة ينتحب ابن آوى
في المنظر البحري للغروب
أجراس ثقيلة
أجراس ثكلى تُبيد السمع
من أين تأتي هذه الجلبة
في قلب هذا الفراغ الكاسر?
الجمال في مغيبه الواقعي
الجمال المضطرب بين ليلٍ وبحر
ينير جبالا ووهادا
وينير الأبدية!
أسمع نداءها السرمديّ
على الظباء المسفوحة
في منحنى النهر
تستجير الآلهة التي اختارت
عزلتها عن البشر
الجيوش تزحف على المدن
المحاصرة
القنابل تهمي كالليل الجارف
بمجرّاته وكواكبه لتحيل المشهد
إلى هباء وأضغاث رماد
حشرجة كلابٍ ضالّة
الكلاب التي انفجر قلبها من النباح
مذبحة الليل القاني
أعيشها ليل نهار
في النوم واليقظة
وهنا نعاج افترست رُعاتها
واندفعت في الضوء الصاخب
نحو الربع الخالي
أجلس في مواجهة البحر
وحيدًا
تحفّني مواكب المياه والسّديم
يوم كان العالم
في طفولته الأولى
لا يعرف سكّين الجزار
ولا انشطار الذرّة
ولا يعرف الطبقات
يوم كان حلما في ذاكرة الغيب
وقِدما من غير سقف
ولا أزمنة!
أجلس على الرمل المصبوغ
بدم السلالات
تلك التي مرت من هنا
على السفن الشراعية المثلثة
أرقب البواخر العملاقة
ترمي فضلاتها على المياه العربية
أرقب النجم المرتجف
تحت ظل القمر الطالع بحشوده الضوئية
الأبدية ترعى ظباءها
في السديم
الأبدية النازفة
تحت شرفة القرصان!
ثغاء ماعز في الطريق
ديكة تطير بأجنحتها في الأحلام
الليل بثقله ينزل على المكان
يحمل النعش والنجوم
وبيديّ هاتين
حملْته إلى بيته الأخير
وقبل ذلك
حملته في البلدان والقارات
في هبوب العاصفة
وأعماق البحار
في حلقات الذكر والسياسة
واجتماع الطلاّب
حملت وجهكِ الناصع بالحياء والصدق
تميمة لأيامي
بوصلة لغموض الطريق
امتلأت بموتك قبل أوانه
تشرّبته وأنت تتنزهين
في بهو المنزل
وروابي (الأفلاج)(1)
كان ذلك من شدة خوفي
من فرط ماحدّقت في سماء
المغيب
حدْسَ ضياع
وشحوبَ مصير!
البحر أكثر وحشة هذا المساء
النوارس انطفأت في الهواء المحتقن
كنذير قيامة
الجمال على موعد مع مغيبه
الجمال الأكثر عزلة من متاهته
من نعش نحمله على رءوسنا
على قلوب تكابرُ مصارَعها
في ليل القرية القاسي
بين الأطواد الهاذية بالنيازك
لكن المشيئة
المشيئة وحدها
تجعل الطريق أقلّ هولا
وتجعلنا نفكّر في نعشٍ لا مرئي
يحمله الدهر
وجنوده الأيام!

***

          حين كنا صغارا, كنا نلعب بين القبور, وكانت الفراشات وجراد المقابر يطير بمرح كأنه في حديقته الغنّاء, كنا نمتطي الضريح ونمسك بالشاهدة كلجام خيل أو حمار, نركله وكأننا نمضي في الطريق المألوف للمارّة والسابلة. حين كبر الأطفال قليلا تركوا هذه العادة المشينة (الشائنة).

          صار الطفل يتأمل القبور برهبة, القبور حديثة العهد والعتيقة التي يتخيلها تملأ فضاء الأرض كالنجوم في السماء, يتأملها ويتخيل كلّ من يحب يتمدد داخلها وكأنه في قيلولة.

***

يوم كنّا حلما في الظلام البعيد
كان النسيم الأكثر مرحا
ينفض الشجر على سطح
المقابر والأجداث
يغسلها بسحر حنانه العميق
كانت السلالة تقترب
من زهرة المصير
السلالة المترحلة في الظلام
التي ولدت من ظلّ غمامة
أو معراج شجرة
نخلة أو أراكة في الهضاب
من سطوع النجم
فوق السهول الحاضنة للقطا والنّمور
يوم كنا حلما في خيال الأمهات
كان الموت أكثر رحمةً
وكانت الحياة!

***

          إن (سيف الرحبي), في مقبرة السلالة, ينقلنا من بكائية شديدة الخصوصية والتفرد, إلى بكائية أكثر اتساعا وشمولا للكون والحياة والوجود, وكأنها تنتظم أعناق البشر جميعا في سلسلة محكمة الحلقات, ولا مفر!

-------------------------------------------

(1) الأفلاج: جمع فلج, وهو المجرى المائي الصغير الناتج عن تجمع المطر.

 

فاروق شوشة   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات