إلى أن نلتقي

إلى أن نلتقي
        

دليل العماد الأصفهاني 

          تشكّل كلمة للعماد الأصفهاني حصيلة تجربة واقعية مع الكتابة خلاصتها: أيها الكاتب لا تُتعب نفسك! فما أنجزته اليوم واعتبرته متقناً, ستُجرى عليه تعديلات شتى في الغد. يقول العماد الأصفهاني في كلمته: (إني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتاباً في يوم إلا وقال في غده: لو غُيّر هذا لكان أحسن, ولو زيد كذا لكان يُستحسن, ولو قُدّم هذا لكان أفضل, ولو تُرك هذا لكان أجمل, وهذا من أعظم العبر, وهو دليل استيلاء النقص على جملة البشر).

          والكلمة تنضح باليأس والأسى معاً. ينفض الأصفهاني يده من إمكان وصول الكاتب إلى نص يرضى عنه لاحقاً تمام الرضا. فالنصوص الرضيّة, أو المرضي عنها, نصوص مفتقدة أو منعدمة مادام الشطب والإضافة والتعديل سيتناولها فيما بعد. فإذا اطمأن الكاتب في يومه إلى أنه كتب نصّاً منجزاً أو مكتملاً, فإنه سيعثر في غده على موضع قلق فيه هنا, أو هناك, وإلى ما يجب أن يحذفه فيه أو يعدله, وإلى معنى آخر لابد من توكيده والإلحاح عليه, أو التخلي عنه تماماً.. إلى ما هناك من أحوال في الكتابة والتأليف لا يدركها إلا مَن خبرها وشقي بها.

          والأصفهاني يبدو وكأنه ينصح الكاتب بعدم الرهان على الوصول إلى تلك الإجادات العالية التي يُفترض أن تؤثر عن أرباب هذه الصناعة وأساتذتها, كما ينصحه بالمعقول والمقبول مما أمكنه الوصول إليه, وبدفع ذلك سريعاً إلى الوراقين, تلافياً لمشقات المراجعة ومعاودة النظر.

          على أن ما لا يمكن أن يُنسب إلى الأصفهاني, استناداً إلى كلمته هذه, أنه يدعو إلى التفريط في حقوق الأدب والفن, فالأصفهاني إنما يخاطب كاتباً متمرّساً لا كاتباً مبتدئاً أو معتدياً على مهنة من طبيعتها التجويد واستشراف قمم الفن وآفاقه. على الكاتب ألاّ يجور على نفسه فيحمّلها ما لا تستطيع هذه النفس تحمّله بداية بالنظر لوجود نقص أصلي مبثوث في جبلتها. ولكن الأصفهاني يخاطب هنا كاتباً مطالباً بما كان القدماء يطالبون به المجتهد, أي باستفراغ الجهد كي يصل المجتهد إلى أنجع الحلول. فلا يمكن أن يكون الأصفهاني قد فكّر باستباحة نادي الأدب, أو التعامل مع الأدب بخفّة, استناداً إلى أنه مجرد مهنة عدّتها, أو نصوصها, ناقصة بداية, وغير قابلة للوصول إلى مستويات عالية بالنظر لاستيلاء النقص على جملة البشر.

          ولعل أقرب المسالك الى النص الأجود والأقل مشقة ومشاكل ومتاعب مع ما أشار إليه الأصفهاني, هو عدم اقتراب الكاتب من قلمه وأوراقه إلا إذا كانت نفسه ممتلئة بالجليل من الهموم والقضايا والأفكار. إنني أعرف كتّاباً لا يقتربون من منضدة الكتابة إلا إذا كان لديهم حقّا ما يقولونه أو يضيفونه, وذلك خوفاً من الوقوع في الضحل أو المكرر, فإذا كتبوا أتوا بالمبدع والجميل الذي قد لا يلحقه فيما بعد تعديل يُذكر, لأنهم كتبوا برويّةٍ وإعمال نظرٍ وتدبّرٍ. ولاشك أن النفس عندما تحبل أو تختمر بالمعاني العميقة تختلف عن تلك النفس التي تقف أمام رتاج المعالي والرؤى والأفكار ولا تتجاوزه إلى الداخل.

          كان الفلاسفة العرب القدماء يطلقون على عالمنا هذا عبارة عالم الكون والفساد. ولاشك أن النصوص الأدبية هي من ضمن أشياء هذا العالم, بعضها يحيا طويلا, وبعضها الآخر يفسد أو يتهاتر سريعاً, وما يستطيعه الكاتب ليحصّن نصوصه ضد عناصر البلى والفساد, هو بذل الجهد لكي تأتي هذه النصوص في أحسن تكوين.

 

جهاد فاضل