هل تعود جنات عدن العراقية? أحمد الشربيني

هل تعود جنات عدن العراقية?

في الوقت الذي كانت الدبابات الأمريكية تتقدم فيه صوب بغداد, كان أبناء الأهوار في العراق يهدمون السدود التي كان نظام صدام حسين قد شيدها لتجفيف الأهوار. وقد أعاد هذا بعض المياه إلى الأهوار, لكنه لم يعد الحياة لجنات عدن العراقية. فمن يفعل ذلك?

في أواخر يوليو الماضي, أعلن برنامج البيئة التابع للأمم المتحدة عن مشروع قيمته 11 مليون دولار هدفه صيانة البيئة وتوفير مياه الشرب في منطقة الأهوار العراقية. ويرمي هذا المشروع, الذي مولته الحكومة اليابانية, إلى دعم التنمية المستدامة واستعادة الأهوار العراقية من خلال تطبيق تقنيات رشيدة من الناحية البيئية. وسيتم تشييد شبكات لمياه الشرب والصرف الصحي في التجمعات السكانية الرئيسية ومشاريع إرشادية لاستعادة الأهوار من أجل الناس والحياة البرية.

لكن خبراء دوليين يحذرون من أن إعادة الحياة لمنطقة الأهوار تحتاج, فضلا عن الاستقرار الأمني والاقتصادي والاجتماعي في العراق, إلى تضافر الجهود الدولية وإلى اعتمادات مالية أكبر من هذا المبلغ بكثير.

وتشغل الأهوار مساحة شاسعة في جنوب العراق مترامية على شكل مثلث عظيم تقع رءوسه في محافظات ميسان وذي قار والبصرة. وتتفاوت نظرة الباحثين إلى حجم وطبيعة وتعداد سكان الأهوار. فبعضهم يعتبر جميع المناطق شمال البصرة وحول الناصرية والعمارة وواسط حتى محافظة المثنى تشملها صفة الأهوار, وبعضهم يحصرها في المناطق التي تغمرها المياه بشكل دائم وما حولها, ومن ثم فإن البعض يقدر المساحة بنحو 35 ألف كلم مربع, في حين يعدها البعض الآخر سبعة آلاف كيلومتر مربع, وتبعا لهذا التفاوت يتراوح عدد سكانها بين 700 ألف وأكثر من مليون نسمة.

جنات عدن

وتنقسم الأهوار, التي تقول التوراة إنها كانت موقع جنات عدن, إلى أهوار شرقية (هور الحويزة) وتقع شرق دجلة, وأهوار وسطى تمتد من غرب دجلة حتى الفرات, وأهوار جنوبية (هور الحمّار), وتشغل جنوب الفرات وغرب شط العرب.

أما من الناحية البيئية, فيمكن تصنيفها إلى أهوار دائمة تنتشر فيها نباتات البوص والقصب بكثافة, وأهوار موسمية يغطي قصب البردي أقساماً كبيرة منها إلا أنها تجف في الخريف والشتاء, وأهوار مؤقتة يرتبط وجودها بحدوث الفيضانات وارتفاع مستوى المياه في الأنهار.

وتاريخيا تعد الأهوار أكبر نظام بيئي مائي في غربي أوراسيا. وهي جنة مائية وسط الصحراء القاحلة الممتدة. وكانت تزخر بكل أشكال التنوع والثراء البيولوجي وتحتضن العديد من أنواع الحياة البرية المهددة بالانقراض.

وتنطوي الأهوار على أهمية بيئية كبيرة على المستوى الكوني نظرا للدور الفريد الذي تلعبه كمحطة في رحلة الطيور المهاجرة ودعم مصايد الأسماك على شواطئ الخليج.

وكان تأثير جفاف الأهوار مدمرا على الحياة البرية. وربما يكون قد أفضى إلى انقراض عدد غير قليل من الثدييات والطيور والأسماك. وقد أدى جفاف الأهوار, باعتبارها محطة على طريق هجرة الكثير من الطيور عبر القارات, إلى تهديد بقاء نحو أربعين نوعا من الطيور وانخفاض أعدادها على مستوى الكون على نحو خطير.

ويمتد التأثير البيئي المدمر لجفاف الأهوار بدءا من ألاسكا في الشمال وحتى جنوب إفريقيا جنوبا.

واختفت مصائد الأسماك في الأهوار. أما مصائد الأسماك في الخليج العربي, التي تعتمد على الأهوار كمنطقة توالد لأنواع كثيرة من الأسماك, فقد تأثرت هي الأخرى بشكل كبير.

وامتد التأثير البيئي لجفاف الأهوار إلى مياه شط العرب, الذي بدأ يعرف ظاهرة غزو المياه المالحة له.

عرب الأهوار

عرب الأهوار هم ورثة حضارة تضرب بجذورها في أعماق التاريخ لآلاف السنين. وتقوم ثقافتهم على المياه والقصب والصيد والأسماك. وهم يعيشون في نظام بيئي فريد تعيش فيه أنواع من الطيور والأسماك والحيوانات لا توجد في مكان آخر على الأرض. وينحصر في منطقة الأهوار وجود نوعين من الطيور, هما غريد القصب البصراوي Basra Reed Warbler والثرثار العراقي Iraq Babbler, وهما معرضان للانقراض مثلهما مثل العديد من الأنواع المهددة الأخرى.

ويوفر هور الحويزة وهور الحمّار المأوى لثلثي الطيور المهاجرة التي تتوالد في غربي سيبيريا ووسط آسيا وتهاجر شتاء إلى إفريقيا.

واحتضنت الأهوار أسلوب حياة فريدا منذ آلاف السنين. وقد خلدت الحضارة السومرية البيوت والقوارب المصنوعة من القصب. وعلى مر هذه السنين, طور عرب الأهوار قدرة مذهلة على التعايش مع البيئة المائية المحيطة بهم والاستفادة منها. فكانوا يعيشون على جزر في الأهوار شيدت كلها بالقصب.

وكانت الأهوار دائما ملاذا لهؤلاء الذين كانوا يفرون من الأنظمة القمعية أو أولئك الخارجين على القانون. وجاء التغير الكبير في حياة عرب الأهوار في القرن العشرين. فقد غادر كثيرون المنطقة بحثا عن حياة أكثر ازدهارا في بغداد أو حول حقول النفط في الشمال.

لكن التغير الأكبر في المنطقة حدث في تسعينيات القرن الماضي. فمن جهة تنافست دول المنطقة, وعلى الأخص تركيا, في بناء السدود والخزانات على نهري دجلة والفرات, لاسيما بالقرب من المنبع, بغرض التحكم في سريان وكميات المياه الجارية في النهرين. ويقدر عدد السدود التي تم بناؤها خلال هذه الفترة بما لا يقل عن 60 سدًا, في ما يعتبره البعض أكبر حركة بناء سدود عرفتها البشرية وبادرة غير مسبوقة لقدرة الإنسان على التحكم في طاقة الأنظمة النهرية.

وللدلالة على مدى تأثير هذه السدود, كان معدل سريان المياه في نهر الفرات بين عامي 1938 و1973يقدر بنحو 2600 متر مكعب في الثانية, فتدنى إلى أقل من 830 متراً مكعباً بين 1973 و1998وهي الفترة التي تعرف بعصر السدود.

ولم تقتصر عواقب بناء السدود على حجز المياه ومنع تدفقها عن منطقة الأهوار, بل امتدت الى جوانب سلبية أخرى شملت تملح التربة وانخفاض جودة المياه وتغير طبيعتها وافتقارها, على قلتها, للطمي والعناصر الغذائية الأساسية التي كانت تعطي تربة الأهوار خصوبة كبيرة.

ومن جهة أخرى, جلبت مشاركة أبناء الأهوار في انتفاضة الجنوب في أعقاب حرب تحرير الكويت غضب صدام حسين على المنطقة. فكان أن قام ذلك النظام بترحيل سكان المنطقة في حركة تهجير قسري ضخمة, ودمر قراهم وقام بمشروعات هندسية ضخمة لتجفيف المنطقة.

محنة الأهوار

وكان برنامج البيئة التابع للأمم المتحدة قد نبه العالم في العام 2001 إلى محنة الأهوار عندما نشر صورا التقطتها الأقمار الصناعية أظهرت اختفاء 90 في المائة من مساحة الأهوار, التي تحتضن أنواعا نادرة من الحياة البرية, مثل طائري أبو منجل المقدس والزقّة الإفريقي, وأشكالا متنوعة من الحياة فضلا عن توفيرها الغذاء والمأوى لمئات الآلاف من السكان.

وأظهرت دراسات أخرى أجريت في العام 2003 اختفاء 3 في المائة أخرى من مساحة الأهوار, أي نحو 325 كيلومترا مربعا. وأعرب خبراء عن تخوفهم من أن الأهوار, وريثة الحضارتين البابلية والسومرية وحاضنة حضارات عديدة على مدى خمسة آلاف عام, قد تختفي من الوجود بحلول العام 2008.

ومع انهيار النظام العراقي السابق في العام 2003, لجأ سكان الأهوار إلى فتح السدود ومسدات الفيضان لإعادة المياه ثانية إلى الأهوار.

وأوضحت صور الأقمار الصناعية, التي التقطت للمنطقة في أبريل الماضي, أن نحو خمس مساحة الأهوار البالغة 3000 كيلومتر مربع قد غمرتها المياه ثانية.

لكن هذا الإجراء لم يحل المشكلة. ويبقى التحدي الآن هو استعادة بيئة الأهوار الطبيعية وتوفير مياه الشرب النقية ومرافق الصرف الصحي لنحو 85 ألف عراقي يعيشون في الأهوار حاليا.

وكانت دراسة دولية شاركت في إعدادها أخيرًا عدة منظمات ووكالات تابعة للأمم المتحدة قد بينت أن معظم عرب الأهوار يأخذون المياه مباشرة من الأهوار.

ويفتقر الكثير من سكان المنطقة لأبسط مرافق الصرف الصحي الأمر الذي يجعلهم يلقون بمخلفات الصرف الصحي إلى أقرب شارع أو مجرى مائي. ونتيجة لذلك انتشرت العديد من الأمراض المرتبطة بتلوث المياه.

مشروع الإحياء

ومن خلال المشروع الجديد, الذي يدخل ضمن إطار جهود صندوق الأمم المتحدة لإعمار العراق, سيتم تزويد أكثر من عشرة تجمعات سكنية بوحدات لتنقية مياه الشرب يعمل بعضها بالطاقة الشمسية.

وسيعمل المشروع على استعادة الغطاء النباتي المكون من القصب وموائل الأهوار الأخرى التي تعمل كفلاتر طبيعية لتنقية المياه, وتوفر في الوقت نفسه مواطن طبيعية جديدة للطيور وأنواع الحياة البرية الأخرى.

وسيتم في إطار المشروع أيضا تدشين (شبكة معلومات الأهوار), وهي نظام معلوماتي من خلال الإنترنت سيسمح لكل المهتمين بالأهوار بمناقشة وتقاسم الرؤى والاستراتيجيات. وسيزود الموقع على شبكة الإنترنت ببيانات يومية تتضمن صور الأقمار الصناعية, وبمعلومات عن جهود إحياء الأهوار والتغيرات التي تحدث على الأرض للأهوار وللحياة النباتية والبرية فيها.

وسيخصص جانب من اعتمادات المشروع لرفع الوعي العام بأهمية الأهوار على المستويين المحلي والدولي. وسيساعد المشروع أيضا على تدريب الكوادر العراقية, الحكومية والمحلية. وسيدرب خبراء في إدارة الأهوار وصيانتها, وفي تحليل بيانات الاستشعار عن بعد وإدارة الموارد على المستوى المحلي.

وتساهم عدة حكومات ومنظمات غير حكومية في مشاريع إعادة الحياة لأهوار العراق. ويرمي مشروع برنامج البيئة التابع للأمم المتحدة إلى تعزيز التنسيق بين هذه الجهود المختلفة لضمان الاستفادة القصوى منها لمصلحة سكان الأهوار والحياة البرية فيها, وتطبيق هذه المقاربة المنسقة على التنمية المستقبلية لاستراتيجية أوسع للأهوار والمنطقة.

ويقول كلاوس تويبفر المدير التنفيذي لبرنامج البيئة التابع للأمم المتحدة: (إن أهوار بلاد ما بين النهرين تمثل أكبر نظام بيئي مائي في الشرق الأوسط وغربي أوراسيا. وهي أيضا ذات أهمية ثقافية كبيرة. وقد لعب برنامج الأمم المتحدة للبيئة دورا مهما في تحديد مصيرها. فهو من وثق لتدميرها ونبه العالم لهذا الخطر).

وأضاف: (إن نصف المستنقعات والأهوار في العالم قد اختفت من الوجود خلال الأعوام المائة الماضية وأنا واثق من أن الدروس التي سنتعلمها من خلال هذا المشروع ستكون دليلا لنا يرشدنا إلى سبل إعادة الحياة لمناطق أخرى في كوكبنا).

بينما قالت مونيك باربوت, مديرة إدارة التكنولوجيا ببرنامج الأمم المتحدة للبيئة: (المشروع سيبدأ اليوم, وآمل أن نبدأ الدراسات الميدانية ومشاريع تجريبية لتنقية المياه مع نهاية العام الحالي).

لكنها حذرت: (لا يعلم أحد ما هي المساحة التي سيمكننا استعادتها من الأهوار. فسيرتبط مستقبل أهوار العراق بتطوير مشاريع كبيرة للتعاون الإقليمي بين كل الدول التي تقع أعلى وأدنى حوضي نهري دجلة والفرات).

 

أحمد الشربيني 




بدأت المياة تعود إلى أهوار العراق فهل تعود إليه حياته البرية وطبيعته التي كانت سخية?





أكواخ من البوص والغاب عاش فيها سكان الأهوار على مدى عشرات الأعوام قبل أن يهزمها الجفاف





ثروات طبيعية وحيوانية أهدرت بعد أن جفف النظام العراقي السابق مصدر المياه





كانت الأهوار واحدة من أغنى المصائد في جنوب العراق





اختفت نصف مستنقعات الأهوار من الوجود.. فهل تعود الحياة إليها مرة أخرى