هبط المطر فجأة على سيئول فاضطررنا لإلغاء برنامجنا للتصوير الخارجي..
كلا, لم يكن المطر مفاجئًا, كانوا قد حذرونا قبلها بيومين ولكننا مثل أي عرب لم
نصدق تنبؤات الأرصاد التي غالبا ما تجري على العكس في بلادنا, ولكنها حدثت هنا
بالدقة الكورية المعهودة, اشتريت أنا وزميلي المصور مظلتين - مثل بقية الناس -
وأخذنا نتجول في شوارع وسط المدينة, كان المطر قد هدأ من إيقاع تلك الشوارع وإن لم
يعطلها. رجال الأعمال بملابسهم الرسمية يحملون المظلة في يد والهاتف النقال في اليد
الأخرى, والفتيات الجميلات واقفات في عرض الطريق يحملن إعلانات المحلات بيد,
والمظلة في الأخرى, شاشات عرض التلفزيون العملاقة فوق البنايات لا تتوقف ولا تحتاج
إلى مظلات, حتى رجال شرطة مكافحة الشغب هم أيضًا يقفون على جانب الطريق وعلى مفارق
الشوارع المهمة. يغطون أنفسهم بمعاطف من البلاستيك, ويمسكون الهراوات الصغيرة في
يد, والمظلات في الأخرى, أليس ظريفا أن تجد كل هذا العدد الكبير من رجال الشرطة وهم
يحملون المظلات, ماذا سيفعلون إذا هجم الأعداء?
في هذا اليوم كان الأعداء كثيرين, هناك متظاهرون من كل أنحاء العالم
ضد قسوة العولمة وذلك بمناسبة اجتماع منتدى (دافوس) الخاص بآسيا, وهناك أيضا عمال
كثيرون مضربون عن العمل, بدأ الأمر بإضراب عمال الصحة الذين كانوا يطالبون بزيادة
أجورهم حتى توازي المجهود الضخم الذي يقومون به, وامتدت عدوى الإضراب إلى بقية
القطاعات, عمال صناعة المعادن, ثم سائقي التاكسي, وأغرب ما حدث في الإضراب الأخير
أن واحدا من السائقين هبط من سيارته أمام البيت الأزرق - مقر الرئيس الكوري - وقام
بإشعال النار في نفسه. مشهد مثير وغريب لم يتعوده الناس منذ كان الرهبان يحرقون
أنفسهم إبان حرب فيتنام. تم إطفاء الحريق ونقل السائق إلى المستشفى وهو في حال
خطرة, ولكن هذه الحادثة جعلتني أعيد التفكير في طبيعة الشعب الكوري الذي احتار
الجميع في وصفه.
إنهم شعب عاطفي دون شك, ولكن أفضل ما في الأمر هو أنهم يعبرون عن
عواطفهم دون خجل أو أي إحساس بالضعف. يصفهم بعض الكتّاب الأوربيين بأنهم أيرلنديو
الشرق, ولكن تجربتهم جمعت العديد من الآلام التي عانت منها الشعوب الأخرى, فقد
عانوا من شراسة الاحتلال الياباني مثلما يعاني الفلسطينيون الآن, وذبح منهم حوالي
مليوني شخص مثلما حدث للبولنديين, وهم جذابون وفنانون بالفطرة وعبثيون مثل
الإيطاليين ولكنهم في النهاية يعانون من انقسام أمتهم إلى دولتين مثل
الأيرلنديين.
وربما كان أصدق تعبير عنهم هو ذلك العرض الموسيقي الرائع الذي شهدته
في إحدى الأمسيات على مسرح (بيت كوريا), وهو مؤسسة غير ربحية تهتم بتقديم التراث
التقليدي, كانت إحدى فقرات العرض غناء (البانسوري), وهو نوع من السرد لإحدى الملاحم
الشهيرة في التاريخ الكوري تغنيها النساء فقط على إيقاع الطبول, وهي تسرد قليلا ثم
تصرخ, ثم تغني, ثم تعاود السرد والغناء والصراخ. وخلال ذلك تعبر بحركات جسمها عن
تفاصيل الحكاية, في إيقاع جياش, كان هذا النوع من الغناء قد انقرض تقريبا, ولم يعد
الشباب الكوري المتأثر بالإيقاعات الغربية يميل إليه, ولكن المخرج (آدم كيم تيك)
أعاد اكتشافه في عام 1993 من خلال فيلم (سبونجي) أو العمياء, وهو يحكي حكاية عن أب
في الزمن القديم سمل عيني ابنته كي يرغمها على البقاء معه وعلى غناء (البانسوري)
وظل يطوف بها كل مناطق كوريا وهي تغني, ومن خلال هذا التطواف استطاع (دوم) أن يعيد
اكتشاف التاريخ الكوري من جديد, وقدم للشباب ملامح من كوريا الخفية التي لا تعرفها
الأجيال الجديدة.
شعب فنان
نكتشف نحن أيضا ونحن نتجول تحت المطر بعضا من روح الفن عند الشعب
الكوري, نسير وسط الحواري الضيقة لمنطقة (أندوسان) حيث تنتشر المتاحف وقاعات عروض
الفنون التشكيلية والمحلات المزدحمة بالتحف واللوحات والأعمال اليدوية, وحيث تباع
خفية أيضا العديد من القطع الأثرية الأصلية للسياح اليابانيين, شواهد من الفن
الصامت تعبر بدقة عن تاريخ هذا الشعب, نتجول في المعارض المحتشدة بلوحات من
الاتجاهات الفنية المعاصرة, ونجلس في بيت الشاي, وهو بيت تقليدي محتشد بالقطع
الفنية, ويقدم شايا من العشب الأخضر من دون سكر في أكواب خشبية عليك أن تمسكها
بكلتا يديك وأنت تشربها.
ربما كانت صعوبة اللغة هي التي منعت الأدب الكوري من الانتشار
بالكيفية نفسها التي تنتشر بها البضائع المادية من إلكترونيات وسيارات, ولكن جنوب
آسيا كلها تقبل بحماس على الأفلام التي تنتجها السينما الكورية, إنها صناعة رائدة
ورائجة, وهي بلد الأفلام الضخمة كما أصبح يطلق عليها, بل إن فيلما واحدًا منها عن
الحرب الكورية حقق من الإيرادات خمسة أضعاف ما حققه فيلم (تايتانيك) حين عرض في
كوريا. وأبطال السينما الكوريون نجوم لامعة وعلى رأسهم الممثل (باي يونج جون) الذي
يعد رجل الحب الأول ومعشوق النساء في اليابان, وهو يقول متواضعا:( ربما لأنني
أذكرهن بشبابهن وبلحظات الحب التي ضاعت منهن).
تدق الساعة الثانية عشرة, إنها فترة الراحة الأولى خلال يوم العمل
الذي يبدأ من الساعة التاسعة, ثم يستمر بعد ذلك من الواحدة حتى السادسة عند أطراف
المساء. يندفع مئات من العاملين إلى المطاعم الموجودة في وسط المدينة, ترتفع روائح
(الكمشي) من كل المطاعم.. أجل لابد من (الكمشي) كل يوم وفي كل وجبة, إنه ليس الطبق
المفضل ولكنه الضروري الذي يجب إضافته إلى المائدة الكورية بجانب أي نوع من أنواع
الطعام, وفي أيام الفقر والمصاعب كان هو الطعام الأساسي وربما الأوحد, أما الآن فهو
طبق مشهيات حار ولاذع, مكون من أوراق الملفوف أو الكرنب المتبل بالفلفل الأحمر وقطع
الفجل والثوم والملح. قالت لي فتاة كورية ضاحكة وهي تتناوله بواسطة عصاتين رفيعتين:
(إنني أقيس جودة أي مطعم بالكمشي الذي يقدمه, مهما كانت أنواع اللحوم أو الأسماك
فإن الكمشي يأتي أولا..), في هذه الساعة من اليوم تسود رائحة الكمشي المدينة, و
تبقى عالقة في المواصلات العامة بعد أن يهبط كل الركاب, وبالمناسبة يوجد في سيئول
وحدها ثمانية خطوط للمترو.
زمان كان أهل كوريا يحضرون (الكمشي) في الشتاء ويحفظونه في أوانٍ
كبيرة من الفخار, ثم يدفنونها في الأرض وتبقى فوهاتها ظاهرة, ويتم استهلاك الطعام
منها طوال العام, وفي هذه الأيام لا يسأل أحد عن صحة الآخر, أو عن أحوال محصوله,
يكتفي فقط بسؤاله: (كيف حال الكمشي هذا العام?).
وتجربة المطبخ الكوري مثيرة جدًا, فأنت تجلس إلى منضدة في وسطها موقد
مشتعل, وتحضر قطع اللحم المتبل وكميات كبيرة من الثوم والبصل وعش الغراب, وتوضع فوق
سطح هذا الموقد وتطهى أمامك وعليك أن تتناول الطعام منها مباشرة, ولكن لا أعتقد أنك
تستطيع أن تتناول الأسماك بالطريقة التقليدية. ففي (بوسان) ذلك الميناء الواقع في
الجنوب شاهدنا أكبر وأغرب سوق للسمك في العالم, كانت كل الأسماك الموجودة في هذا
السوق حية ولا تكف عن الحركة, موضوعة في أحواض زجاجية كبيرة يجري فيها ماء البحر
باستمرار, وعند الطلب يخرجونها ويقطعونها إلى قطع صغيرة وتضاف إليها التوابل ثم
تؤكل نيئة, من المؤكد أن أكل السمك الحي أفضل قليلا من السمك الميت ولكنني لم أجرؤ
على تجربته.
الدبة كانت الأصل
مازال المطر يواصل الهطول ويحول شوارع سيئول إلى مرايا لامعة, لم تعد
المظلات كافية لحمايتنا, ولم يكن الحال يشبه بلادنا العربية, بضع زخات غاضبة من
الماء ثم يتوقف كل شيء, ولكنه مطر يتواصل ويشتد غزارة, إنها بداية الأمطار الموسمية
في شهري يوليو وأغسطس, يغمرنا البلل - بسبب قلة خبرتنا في التعامل مع المظلات -
ونبحث عن مكان داخلي نلجأ إليه.
تقودنا أقدامنا إلى متحف الفلكلور الكوري, ندخل إلى المتحف عبر بوابة
إمبراطورية قديمة, ونعبر الحديقة التي تحيط به والتي تتكون من أشجار وجسور خشبية
وزهور مائية سابحة. حتى تضمنا أجنحة المتحف, كانت هناك رحلة مدرسية, عشرات من
التلاميذ الصغار يطوفون وسط واجهات العرض الزجاجية في جلبة, وكل واجهة زجاجية تحكي
جانبًا من التاريخ, ليس تاريخ الملوك والقادة, ولكنه تاريخ البشر والأرض, مواسم
الغرس والزرع والحصد. الولادة والأعراس والاحتفالات والمسرات, صناعة الطعام وخاصة
تخزين (الكمشي), بانوراما نابضة مصنوعة بأدق التفاصيل لتحكي حياة هذا الشعب العريق
ومسيرته عبر الزمن.
مثل أي شعب قديم تختلط في تاريخ كوريا الحقائق بالأساطير, ولكن أسطورة
الشعب الكوري هي الأغرب, وهي تقول إنه منذ زمن بعيد, عندما كان (هاوننج) ابن السماء
يحكم البشر, كان هناك نمر ودبة غير راضيين عن حالتهما الحيوانية, لذلك فقد أخذا
يصليان كل صباح ومساء ليصبحا كائنين بشريين. ورق ابن السماء لحالتهما فاستدعاهما
لحضرته وعرض عليهما صفقة, أعطى كل واحد منهما عشرين حزمة من الثوم النيئ, وطلب أن
يدخلا في أحد الكهوف بعيدًا عن الشمس لمدة مائة يوم, وإذا استطاعا البقاء لهذه
المدة والاكتفاء بأكل الثوم فقط فسوف يحولهما إلى بشريين, وقبل الاثنان الشروط,
ولكن بعد ثلاثة أسابيع فقط لم يستطع النمر أن يتحمل ظلمة الكهف ولا رائحة الثوم ففر
هاربا, ولكن الدبة بقيت بكل ما تحمل من عزيمة الأنثى وجلدها, ورق ابن السماء
لحالتها أخيرًا فحولها إلى فتاة جميلة.
ولكن سعادة الفتاة لم تدم طويلا, فقد أحست بالوحدة الشديدة, ويبدو أن
هويتها المزدوجة بين حياة الدببة والبشر لم تكن مريحة لذلك عاودت التوسل إلى ابن
السماء لينقذها من وحدتها. وإزاء التضرعات الحارة حول (هاوننج) نفسه إلى كائن بشري
وتزوج بها, ومن نسلهما جاءت السلالات الأولى للشعب الكوري.
وتكشف الأسطورة عن الكثير من روح هذا الشعب ومدى قوة عزيمته عندما
يريد أن يحقق هدفًا, فقد أصرت كوريا الجنوبية على أن تحول نفسها من واحدة من أفقر
دول العالم إلى قوة اقتصادية كبرى خلال عمر جيل واحد من البشر, ومانطلق عليه
المعجزة الكورية, ليس إلا تعبيرًا قدريًا لا يدل على مدى الجهد والإرادة التي قام
بها هذا الشعب, فما حدث ليس عملاً خارقًا, ولكنه حصيلة جهد ومثابرة وصبر, لا على
ابتلاع عشرين حزمة من الثوم النيئ فقط, ولكن كل أنواع الإهانات والمكاره والتعالي
على الجراح النازفة والنظر في غضب إلى الماضي والاقتلاع منه من أجل التوجه إلى
المستقبل.
الشرارة الأولى
في مدينة (بوسان) توقفنا أمام شعلة الألعاب الآسيوية التي مازالت
ألسنة لهبها تتراقص, كنا داخل الإستاد الحديث الذي شهد بعضا من مباريات كأس العالم
الأخيرة التي أقيمت في كوريا واليابان عام 2002. وهو المكان نفسه الذي أقيمت فيه
دورة الألعاب الآسيوية, تذكرت بداية هذا الحدث الرياضي في الكويت بجانب البيت الذي
أسكن فيه حيث يوجد المجلس الأولمبي لآسيا, من هذا المكان بدأت الشعلة رحلتها,
ارتفعت أعلام كل الدول الآسيوية, وجاء السفير الكوري وهو يرتدي الملابس الرياضية
وحمل الشعلة وأخذ يعدو بها قليلا قبل أن يتسلمها منه بقية الرياضيين, وخلال شهور
عبرت الشعلة من حافة الخليج إلى بحر اليابان الذي يطل عليه ميناء (بوسان) ومازالت
الشعلة تنتظر رحلة أخرى إلى مدينة الدوحة في العام بعد القادم حيث ستقام الألعاب
الآسيوية 2006.
ولكن (بوسان) تحت ضن ما هو أكثر من هذه الشعلة, إنها عنوان النهضة
الحديثة التي تعيشها كوريا الآن, فهي واحدة من أهم الموانئ, وتحتل المرتبة الثانية
في تجارة الحاويات بعد سنغافورة, وشهدت أكبر صناعة للسفن في العالم, وكانت مفتاحها
على العالم الخارجي وخاصة اليابان, حيث جاءت التكنولوجيا والاستثمارات, ومنها خرجت
المنتجات الكورية للعالم بعد أن أصبحت أكثر أصالة وابتكارا.
الطريق بين(بوسان) والعاصمة سيئول يزيد قليلا عن 400 كيلومتر وهو
مزدحم دوما بالسيارات والشاحنات العملاقة, ويحمل حوالي 80% من البضائع في كوريا,
لذا فهو أصدق شاهد على نهضتها. في عام 1968عندما قرر الرئيس الكوري بارك شانج أن
يبني هذا الطريق اعتبره الجميع مضيعة للأموال وثارت ضده المظاهرات والاعتصامات
ولكنه كان يرى في هذا الطريق خلاصا لبلاده, سلاحا يمكنه بواسطته مواجهة ضغوط كوريا
الشمالية لتقليل اعتماده على الولايات المتحدة.
كان (بارك) شخصية فريدة, تعلم العسكرية في إحدى الكليات اليابانية
عندما كانت كوريا لاتزال واقعة تحت الاحتلال الياباني, وتعلم من الفكر الياباني أن
الولاء يجب أن يكون للأمة لا للأسرة, وأن مصلحة الوطن يجب أن تسبق مصلحة الفرد,
ورغم أنه كان ديكتاتورًا, ألغى الانتخابات وعطل الدستور وظن أن العالم لا يستطيع أن
يسير من غير وجوده, إلا أنه من المؤكد أنه فعل الشيء الصحيح لكوريا في الوقت الصحيح
وبالطريقة الصحيحة.
في البداية استطاع أن يحصل من اليابان على قرض قيمته 500 مليون دولار,
بدأ ينشئ هذا الطريق, كان يرى أن (بوسان) هي النقطة الأقرب إلى الشاطئ الياباني حيث
وعود الاستثمارات والتكنولوجيا, كما سوف يربط الطريق بين شمال كوريا وجنوبها, ووقف
الجميع ضده, ثار الطلبة والعمال الذين كانوا مازالوا يتذكرون مآسي الاحتلال
الياباني, ورفض البنك الدولي المساهمة في تمويل المشروع, وامتعض الأمريكيون, ولكن
(بارك) أصر على مشروعه, كان مقاتلا اقتصاديا كما يطلق عليه, ولا يوجد في القرن
العشرين من القادة ما يمكن أن يوازي إرادته الحديدية, لا كمال أتاتورك, ولا
عبدالناصر, ولا حتى لينين قد استطاعوا أن يحققوا ماحققه (بارك) على المستوى
الاقتصادي.
فعلى مدى ثلاثة عقود من الزمن ظل الاقتصاد الكوري ينمو بمعدل 9% كل
عام. وتطور الناتج القومي من 203 ملايين عام 1962إلى أكثر من 250 بليونا عند نهاية
الألف الثانية. كما ارتفع دخل الفرد الكوري من 78 دولارا في الفترة نفسها إلى
مايقارب من 12ألفا أي أنه تضاعف أكثر من 150 مرة وأصبحت كوريا واحدة من أكبر 11
دولة مزدهرة اقتصاديا والثالثة عشرة على مستوى التجارة الدولية ومن أكبر المنتجين
للسفن والصلب والإلكترونيات والسيارات, فكيف تحققت هذه المعجزة?
الاقتصاد المعجزة
في عام 1945 عندما بدأت الحرب الكورية بين الشمال الذي سقط تحت سيطرة
الاتحاد السوفييتي, والجنوب الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة, لم يكن هناك من
يتصور أن يكون هناك مستقبل لهذا البلد المقسم, كان الجميع يراهنون على تطور لاوس,
أو ازدهار الفلبين, وحتى عندما تدخلت أمريكا للحرب على أراضيها لم تكن تقصد حمايتها
هي بقدر ما تقصد حماية اليابان ضد أي تغلغل شيوعي, كانت كوريا كما قال لي
البروفيسور هان رو في جامعة سيئول: (أدنى بكثير من مستوى السودان في ذلك
الوقت).
بعد الحرب الكورية تولى الرئيس (روه) السلطة, وكان يحمل على كتفيه
أنشف رأس يمكن أن يحمله إنسان كما كانوا يطلقون عليه, فقد أصر على أن تبقى كوريا
بلدًا زراعيًا تحت ظل الهيمنة الأمريكية وألا يرفع أحد رأسه أكثر مما يجب. وقد طالت
فترة حكمه أكثر مما ينبغي, ومات في الستينيات معزولا ومكروها.
وفي شهر مايو من عام 1196 ركب الجنرال بارك دبابته وسار بها وخلفه
بقية جنوده عابرًا الجسر المؤدي إلى القصر الرئاسي, ومن النكات المشهورة التي مازال
الجميع يذكرونها في سيئول أن الجندي الذي كان يحرس هذا الجسر نهض مذعورًا من النوم
حين رأى الدبابات وعلى الفور رفع يده بالتحية وهو يهتف: (عاش جيش جمهورية كوريا
الشعبية الديمقراطية..) فالجندي المسكين تصور أنه يواجه غزوًا قادمًا من الشمال
وليس انقلابا داخليا.
منذ الأيام الأولى للانقلاب قام حلف غير معلن بين العسكريين ورجال
الأعمال, فقد قربهم بارك منه منذ اليوم الأول. واهتم بالصناعات القائمة, وكانت بعض
منها من بقايا صناعة (التجميع) التي أنشأتها العائلات اليابانية أثناء الاحتلال.
ولكن بعد الحرب العالمية الثانية وهزيمة اليابان اضطرت هذه الشركات لبيع أصولها إلى
الكوريين. وبعض المؤسسات الشهيرة الآن مثل سامسونج كانت مصانع تجميع لسانيو, وكذلك
الأمر بالنسبة لـ إل.جي التي كانت تسمى سابقا جولد ستار.
وفي مقابلة مع البروفيسور (سانج راون) أستاذ الاقتصاد بجامعة سيئول
أكد لي قائلا: ( يذكر الجميع ما فعله (بارك) في نهضة الصناعة ولكنهم ينسون ما صنعه
من أجل النهوض بالريف. فلا يمكن أن توجد صناعة متقدمة دون ريف حديث, وقد وضع من أجل
ذلك سياسة هي مزيج من الدعم الحكومي والمشاركة الشعبية, فقد خصص لكل قرية حوالي 50
طنًا من الإسمنت حتى تعيد بناء بيوتها وأكواخها المدمرة, وعقد مسابقة بين كل هذه
القرى. التي تحتل المراكز الأولى منها يعطيها كمية إضافية من الإسمنت ومن حديد
التسليح. وهكذا استطاع من خلال خطته وفي سنوات قليلة أن يعيد بناء الريف الكوري
بطريقة تعاونية لم يقدر عليها الشيوعيون في الشمال).
بعد بناء الريف بدأ (بارك) خطته الخمسية الأولى التي أثارت سخرية
الجميع ولكنها أثبتت أنه كان على حق مرة أخرى, فقد أدرك أنه لن يستطيع الاعتماد
طويلا على سياسة التجميع التقليدية, فهي لن تنتج إلا نسخا غير متطورة من المنتجات
اليابانية, لذا غير اتجاهه وبدأ في خلق مناخ يمكن هذه المؤسسات من أن تبتكر وأن
تخلق أساليب ومنتجات جديدة قادرة على منافسة اليابان عالميا, المشكلة التي كانت
تواجهه هي أن الكوريين لم يكونوا قادرين على العمل الشاق, كما أن الفساد كان
منتشرًا بين رجال الأعمال والسياسيين على حد سواء, لذلك فقد استعان بحفنة مختارة
منهم يضمن ولاءهم, مع ما في ذلك من خطورة, لأن هذه المجموعة القوية من رجال الأعمال
يمكن أن يمثلوا خطرًا عليه وأن ينازعوه سلطاته. وقد حدث ذلك بالفعل ولكن بعد وفاته
عندما قام شانج لويونج مؤسس شركة هونداي بترشيح نفسه لرئاسة الجمهورية.
ويؤكد د. سانج قائلا: (إن هدف إنشاء أي شركة في الغرب هو زيادة أرباح
المؤسسين فيها, ولكن هدف الشركات في كوريا هو بناء الدولة, هذه هي العقيدة التي
وضعها بارك, لذلك فقد وضع مجموعة معقدة من النظم بحيث تضمن تحقيق هذا الهدف, وأول
هذه النظم هو منع الشركات الصناعية من الاستثمار في المجال المالي إلا في حدود 8%
فقط من هذه المؤسسات. وإذا أراد أي واحد من رجال الأعمال قرضًا من أجل التوسع أو
لبناء مشروع جديد فهو لا يستطيع التوجه إلى أي مصرف, ولكن عليه أن يتوجه إلى البنك
المركزي للحصول على موافقة الحكومة على مشروعه أولا. وعلى هذا البنك أن يطمئن إلى
أن هذا المشروع يصب في مصلحة بناء الدولة, ولو كان هذا القرض سيتم من قرض خارجي,
وينطبق هذا الأمر على كل المشروعات بدءًا من صناعة الصلب وبناء السفن حتى بناء
البيوت وافتتاح المطاعم, وهكذا فإن رجال البنوك لا يتحملون مسئولية القروض السيئة
لأن الحكومة - ممثلة في البنك المركزي - هي التي تتحمل مسئولية هذه القروض, كما أن
هذا الأمر قد أعطى للشركات الشجاعة اللازمة للدخول في مشروعات جديدة لم تعمل بها من
قبل.)
خلال عقد واحد من الزمن - من السبعينيات إلى الثمانينيات - تحولت
كوريا الضعيفة المنقسمة إلى كيان آخر, اتسعت فرص العمل, تدفق الناس على مدنها
الكبرى, أنفقت كثيرًا من الاستثمارات في مجال الصحة والتعليم, أصبح في مقدور
الكوريين أيضًا ادخار حوالي 35% من صافي دخولهم وهي أعلى نسبة ادخار في العالم.
وفعل بارك ورجاله ما يجب عليهم فعله من أجل إزالة عوائق التقدم. فالجرافات لم تكتف
بهدم المعابد القديمة والأفكار القديمة فقط ولكن امتلك الكوريون القدرة على تعديل
المسار في كل وقت, فعندما عانت البلاد قلة العملة الصعبة, كان هناك الإصرار على
زيادة التصدير. وفي مواجهة قلة الموارد الطبيعية تم التركيز على الصناعة, وعندما
تغير نمط المنافسة حول العالم تغيرت المنتجات الكورية أيضًا, وتم التحوّل من صناعة
السفن والمنسوجات إلى صناعة الإلكترونيات والسيارات.
من التجميع للابتكار
رغم المطر كان هناك موعد بعد ظهيرة اليوم للذهاب إلى واحدة من أكبر
المؤسسات الصناعية الكورية. إلى عرين شركة (سامسونج). كان الطريق من العاصمة سيئول
إلى مقر الشركة يستغرق أكثر من ساعة وسط زحام كثيف, آلاف من السيارات والشاحنات
الضخمة. من النادر أن تجد بينها سيارة غير كورية, فهناك حوالي 8 ملايين سيارة
وشاحنة تدور في الشوارع, 96% منها كورية الصنع.
كان في استقبالنا مسئولة العلاقات العامة في الشركة, فتاة كورية
جميلة, لا تكف عن الابتسام والانحناء, ولم ينسوا أن يكتبوا على اللوحة الضوئية في
مدخل الاستقبال (مرحبا بمجلة العربي). قالت لنا ضاحكة: (سأصحبكم في جولة في متحف
منتجات الشركة, لم نعد نسمح للزوار بدخول خطوط الإنتاج لأنهم يصوّرون الماكينات
بواسطة أجهزة الهواتف اللعينة).
كان هذا الحذر مفهوما, خاصة أن تجربة كوريا في مجال التجسس الصناعي
تبرر ذلك. فقد اعتمدت كوريا في بداية خطة التصنيع على اختلاس صور للمصانع الغربية,
وعلى الرسوم التي كان زوّار هذه المصانع يرسمونها من الذاكرة, ويقوم العمال
الكوريون بإعادة تصنيعها بمهارة فائقة. لقد حان الوقت لأن تحذر كوريا من التجسس على
أدوات إنتاجها.
كان المعرض طويلاً وممتدًا, يحمل أول جهاز أنتجته الشركة في
الستينيات, ولم يكن أكثر من تلفزيون صغير بالأبيض والأسود يحمل ماركة (سانيو), وهو
الاسم الأصلي للشركة اليابانية, إلى آخر وأحدث ما أنتجته الشركة من أجهزة كمبيوتر
وهواتف نقالة وغسالات وأجهزة ملاحة الطائرات والسفن وغير ذلك من الأجهزة العسكرية
الدقيقة, وقد (استمعنا) إلى احدث هذه المنتجات, لم يكن تلفزيونا أو هاتفا نقالا,
ولكنها ثلاجة ناطقة, مهمتها أن تخبر ربة المنزل عما فيها من أطعمة ومشروبات وتنبهها
لتعويض النقص فيها. كان المعرض حافلاً أيضًا بأسماء المبتكرين الذين ساهموا في تطور
منتجات الشركة, كوريين وغير كوريين. وكان هناك ركن آخر لكل رؤساء الدول الذين زاروا
الشركة من كل أنحاء العالم, وعلى رأسهم كان نيلسون مانديلا ولكن لم أجد فيهم رئيسًا
عربيًا واحدًا!!
وقد تحوّلت الشركة عبر السنوات الماضية من مجرد مصنع صغير لتجميع قطع
الغيار إلى مدينة ضخمة تضم مختلف التخصصات. وهي مقسمة إلى أربعة أجنحة رئيسية,
الأول لإنتاج الإلكترونيات, والثاني لإنتاج أجهزة الاتصال, والثالث لإنتاج الأجهزة
المنزلية, والرابع مجمع سكني يضم آلافا من العاملين فيها ويوفر لهم الإقامة.
وقصة تطور شركة سامسونج هي قصة تطور الصناعة الكورية بشكل عام, من
التجميع إلى الإنتاج, ومن التقليد للابتكار, ومن الإذعان لكل هيمنة القوى الكبرى
إلى الوقوف في محاذاتها.
تعاملت كوريا بذكاء مع الواقع الذي يحيط بها, كانت تدرك أنها بلد
مقسم, وأنها تعيش وسط جيران أقوياء يترصدون لها, اليابان في الشرق, والصين والاتحاد
السوفييتي في الشمال, والأمريكيون على أرضها, إضافة إلى كوريا الشمالية المتحفزة
دوما, والشجار بين الكوريتين لا يشبه شجارا بين شقيقين داخل العائلة, لكنه أشبه
بحرب وراثة العرش كل واحد يعتقد أنه الأحق بالبقاء, وكل واحد منهما يرفض حق الآخر
في الوجود, ويخاف من نوايا الآخر العدوانية أكثر مما يخاف من الآخرين.
أقول تصرفت كوريا بذكاء حتى مع القوات الأمريكية, فقد وفرت لها أمريكا
مظلة الحماية العسكرية التي كانت في حاجة إليها. كما وفرت لها الأسواق اللازمة
لتصريف منتجاتها. لقد أرادت أمريكا أن تجعل من كوريا نموذجًا يحتذى به للاقتصاد
الحر في مواجهة النظام الشيوعي الجامد في الشمال ونجحت في ذلك, ولعل أبلغ دليل هو
تلك الحكاية التي حدثت عند بدء المحادثات بين الشمال والجنوب. ففي عام 1970 حدث أول
اتصال مع كوريا الشمالية, وجاء واحد من كبار قادتها عبر الحدود حتى يزور (سيئول)
كان في ذهن هذا القائد بقايا ذكريات عن شواهد الحرب الكورية...شوارع مخربة وبنايات
محطمة وشحاذون ودمار في كل مكان. ولكنه فوجئ بأنه يرى مشهدًا مختلفًا. بنايات
عالية, ومحلات مزدهرة, وسيارات تملأ الشوارع. والتفت القائد الشمالي إلى مرافقه
الجنوبي وهو يقول له: (نحن لسنا حمقى. من الواضح أنكم أمرتم بإحضار كل السيارات
الموجودة في كوريا إلى هنا حتى تخدعونا, أليس كذلك?). ورد عليه القائد الجنوبي
قائلا: (حسنا لقد كشفت هذه الخدعة حقا. ولكن كيف استطعنا أن ننقل كل هذه البنايات
الضخمة?).
معجزة الديمقراطية
عندما وصلنا إلى سيئول. كان رئيس جمهورية كوريا (رون مو هون) قد
استعاد سلطاته الكاملة منذ أيام قليلة. أجل...كان الرئيس موقوفًا عن العمل حتى تبت
المحكمة في أمره بعد أن تصاعدت اتهامات الفساد من حوله. كان أعضاء البرلمان هم
الذين اتهموه بالفساد وأنه قد بدد أموال حملته الانتخابية على أقاربه وأنصاره. وخضع
الرئيس لتحقيق دقيق من الجهات الرقابية حتى أصدرت المحكمة الدستورية أخيرا حكمها
ببراءته.
هكذا عاد الرئيس بحكم القانون, وبحكم الشارع الذي يحبه ويناصره, وبحكم
الديمقراطية التي تعيشها كوريا هذه الأيام, فمنذ الانفصال في عام 1948 وحلم
الديمقراطية يراود الكوريتين. ولكن كل واحدة منهما رأت الديمقراطية بطريقتها
الخاصة, أطلق الشمال على نفسه الجمهورية الشعبية الديمقراطية, ولكنه لم يحقق منها
إلا الاسم, أما كوريا الجنوبية التي حلمت بالديمقراطية بالمعنى الغربي فلم تعرفها
إلا في عام 1987 وقد كان لوصولها إلى هذه المعجزة قصة معقدة ومليئة بالتفاصيل.
عانت كوريا - مثل العديد من دول العالم الثالث - هؤلاء الصنف من
الحكام الذين يصلون إلى الحكم بواسطة الانقلاب ثم يتصوّرون أن العالم سينتهي إذا لم
يمسكوا بناصيته, كان الرئيس الأول (روه) أطول رئيس شهدته البلاد, عنيدًا ومتخلفًا,
لا يجيد غير تعطيل الدستور وإعلان الأحكام العرفية ودفع بكل المعارضين له داخل
السجون. أما الرئيس الثاني (بارك) فقد قام بأروع الأدوار في بناء الدولة. ومازال
الجميع يتحسّرون على أيامه حتى الآن, خاصة عندما تواجه البلاد إحدى الأزمات, وقد
آمن بارك أن من الواجب عليه أن يبني كوريا الصناعية أولاً, وأن الديمقراطية تستطيع
الانتظار. ولكنه شطّ في هذا الأمر كثيرًا لأنه في أواخر أيامه كان معقدًا مما حدث
لشاه إيران, وكان يرى أن الوسيلة الوحيدة لنجاته من هذا المصير هو أن يقتل ثلاثة
آلاف من معارضيه على الأقل. ولكن الذي حدث أنه هو الذي اغتيل وهو يتناول العشاء مع
رئيس مخابراته عام 1979 وظلت البلاد تعيش فترة من الاضطراب السياسي حتى استطاعت أن
تنجو أخيرًا وأن يتم انتخاب رئيس جمهورية بواسطة صناديق الانتخابات وليس بواسطة
الانقلابات.
في انتظار المعجزة الثالثة
ولكن ماذا عن المعجزة الثالثة? ماذا عن توحيد شطري الكوريتين الذي طال
انتظاره?
كان الأمر يبدو مدهشًا لي وأنا أخطو عبر الشارع الكوري وأقرأ الصحف
اليومية, وأتابع العديد من النقاشات حول التقارب الجديد بين الشمال والجنوب. لقد
زالت الحرب الباردة, وخفت حدة التوتر بينهما, وأصبح هناك نموذج يحتذى به هو إعادة
توحيد شطري ألمانيا. فما الذي يؤخر الوحدة الكورية حتى الآن?
كل من طرحت عليه هذا السؤال أخذ يلف ويدور حول معاذير كثيرة: تدخل
القوى الأجنبية, عدم رغبة القادة السياسيين, الظروف غير المواتية, ولكن الإجابة
الحقيقية كانت تكمن دومًا في جوهر هذا الانفصال. لقد تخلق على أرض الواقع خياران
سياسيان, بينما لم يكن هناك سوى خيار وحيد. فالتوحيد شأن يحتوي على المكسب
والخسارة, بينما يريد كل طرف أن يفوز, فهدف كوريا الشمالية هو جعل كوريا دولة
شيوعية موحّدة, بينما هدف الجنوبية إزالة أي أثر للشيوعية من كل كوريا. وحتى الآن
لم يتنازل أي طرف منهما عن هدفه.
كان التفكير في آلية هذه الوحدة قد أخذ أيضا أكثر من شكل, في أول
الأمر لم يكن هناك سبيل لهذه الوحدة إلا بفعل القوة العسكرية, وشهدت الفترة بين
أعوام 45إلى 1950 معارك على الحدود لم تنته إلا بخروج القوات الأمريكية من الميدان.
وظل (كيم ايل سونج) حاكم كوريا الشمالية لفترة من الوقت يعتقد أنه يكفي أن يدخل
جنوده إلى الجنوب حتى يستقبلهم الناس بالورود لا بالبنادق, ولكن لحسن حظه, ولخوفه
من الأمريكيين, لم يقدم على هذه المغامرة, وفي عام 1970 اقترح وزير الخارجية
الأمريكي هنري كيسنجر أن يتم اعتراف متبادل بين الدولتين, ولكنهما لم توافقا عليه
باعتباره اقتراحًا قادمًا من الخارج. كان هناك خيط رفيع بين الدعم والهيمنة في
علاقة الكوريتين مع القوى العظمى. وبدا واضحًا أن توحيد كوريا لا يمكن أن يتم في ظل
ظروف الحرب الباردة.
والآن بعد أن زال الاتحاد السوفييتي, وانتهت الحرب, فإنه يبدو أن سبب
تعطيل هذه الوحدة هم الكوريون أنفسهم, ولكن لا يمنع هذا أن لأمريكا دورا كبيرا في
هذا الأمر. فهي مازالت تكره كوريا الشمالية. وقد أطلق الرئيس الأمريكي جورج بوش
عليها هي والعراق وإيران لقب (محور الشر). وقد خرجت العراق الآن من هذا المحور. وفي
المقابل تطلق كوريا الشمالية على الأمريكيين لقب (الذئاب في صورة البشر), ولكن -
كما قيل لي في (سيئول) - فإن كوريا الشمالية تعيش بعيدًا عن العصر. ومعلومات
المواطنين ضئيلة جدا, فهم لا يعلمون أن هناك مركبة فضاء أمريكية قد هبطت على سطح
القمر, ولم يسمعوا عن مطرب اسمه مايكل جاكسون ولم يذوقوا طعم (الكوكا كولا).
لقد كان من المحرمات في السياسة الأمريكية عقد أي لقاءات مع المسئولين
من كوريا الشمالية. ولكن الأخيرة استخدمت التلاعب بقوتها النووية حتى ترغم أمريكا
على فعل ذلك. فقد نجحت في إخافة الأمريكيين من قدرة الشمال على إصابة ليس كوريا
الجنوبية فقط ولكن اليابان أيضًا, وأذعنت أمريكا للتهديد وأرسلت الرئيس الأمريكي
الأسبق جيمي كارتر لزيارة كوريا الشمالية عام 1994 وعقد اتفاقا معها على أن تقوم
أمريكا بمدّها بالغذاء والوقود في مقابل وقف برامجها النووية المرعبة.
هذا الانفراج السياسي امتد إلى الجنوب أيضًا. وأصبح هناك العديد من
اللقاءات بين الكوريتين, لقاءات عسكرية وسياسية واقتصادية لم يعد الخيار العسكري هو
الوحيد المطروح. بل أصبح كل واحد منهما يرى الآخر على حقيقته, وفي دورة الألعاب
الأولمبية التي أقيمت في أستراليا سار الوفدان الشمالي والجنوبي تحت علم واحد, ولكن
حلم إعادة التوحيد مازال بعيدًا.
إن السؤال الذي تطرحه سيئول على نفسها الآن هو: ما ثمن هذه
الوحدة?
وهل يمكن أن يتحمل الجنوب كلفة انهيار النظام في الشمال?
الكلفة عالية جدا, ولعل تأجيل أو رفض عملية التوحيد هو الأجدى. هكذا
قالها لي بصراحة أحد المسئولين: (نحن لا نريد هذه الوحدة). وفي أحد المطاعم عبرت
إحدى النادلات التي تجيد التحدث بالإنجليزية عن ذلك بطريقة عملية قائلة: (لا أحب أن
أقوم بتقديم الطلبات لهؤلاء الأقارب الفقراء في الشمال).
وفي البداية كنت أعتبر هذا الأمر مجرد مزحة, ولكن الجنوب يأمل في
التضامن مع الشمال فقط, لأنه لا يريد أن يثقل كاهله بحل مشاكله, إنهم يريدون النجاة
بأنفسهم أولاً, ولتأت الوحدة على مهلها بعد ثلاثين أو حتى أربعين عامًا, ومازال
هناك عدم ثقة من كل جانب في الآخر, وهناك تباعد عن الحديث حول الوحدة في أي لقاءات
رسمية. ويرى الجنوب أن على الشماليين أن يهجروا الشيوعية وأن يحسنوا اقتصادهم قبل
أن يتكلموا عن إعادة التوحيد, والتضامن يعني عقد اتفاقات اقتصادية معا, وأن تسير
الأمور ببطء, وخطوة وخطوة نحو الوحدة, ومهما كان السيناريو المحتمل, الوحدة
السريعة, أو التضامن البطيء, فإننا في انتظار تحقق المعجزة الثالثة, حتى يحل السلام
على شبه الجزيرة الممزقة, وأن يطلق عليها ببساطة اسم كوريا.
هارفارد الشرق
في كوريا لا تكف العين عن استقراء منابع الجمال, جمال الطبيعة وجمال
الإبداع البشري. فهذه البلاد التي تحتل الجبال 69% من مساحتها تشكّل لوحات شرقية
رائعة. من مساقط مياه وتعرّجات بركانية وأشجار ملونة تنتشر مثل مراوح أسطورية على
التلال. ويبلغ الجمال أقصى درجاته في جزيرة (جاجو) التي يعدها الكثيرون (هاواي
الشرق).
وما صنعته أيدي البشر يضارع جمال الطبيعة, قصور إمبراطورية قديمة,
وحدائق مخفية, ورقصات شعبية, وعروض موسيقية رائعة, ولكن أروع هذه المشاهد كان مشهد
جامعة سيئول. لقد وقفت في وسط أبهاء هذه الجامعة العريقة, تحيط بي عشرات من مركز
البحوث العلمية. مجهزة بأحدث المعدات التي أقامتها الشركات الكورية الكبرى. بل إن
شركة سامسونج تقدم في كل عام جوائز للعلماء والمخترعين يبلغ مقدارها100 مليون دولار
كل عام, وهي تزيد بذلك عن قيمة جوائز نوبل. ويطلق الجميع على هذه الجامعة اسم
(هارفارد سيئول) لأنها تشبه هذه الجامعة العريقة بما فيها من مراكز متقدمة للأبحاث,
كما أن خريجي هذه الجامعة يحتلون المناصب المميزة في المؤسسات الصناعية
الكورية.
لقد تمنيت أن يكون لدينا مثل هذه الجامعة بمستواها العلمي الرفيع. كما
تمنيت أن ندير أنظارنا ناحية هذا البلد الذي قبل التحدي واستطاع أن يحول التخلف إلى
طاقة هائلة للبقاء, وتمنيت أن يقوم الرؤساء العرب بزيارة كوريا الجنوبية لعلهم
يعاينون على الواقع كيفية قيادة التقدم والتغلب على العوائق التي تواجهه, وأن تكون
غاية الاقتصاديين العرب هي دراسة هذه التجربة التي نهضت وسط ظروف صعبة وبإمكانات
ضعيفة لتخلق اقتصادًا منتجًا وحديثًا. وأن نرسل بعثاتنا التعليمية إليها حيث لا
يوجد تعصّب ديني أو تفرقة عرقية أو تعال طبقي. إنها تجربة شرقية تستحق الدراسة
لعلها تنقذنا من حلقة التخلف التي ندور فيها.