باولو كويلو ود. محسن الرملي

باولو كويلو ود. محسن الرملي

الدين هو تجربة جماعية مشتركة للإيمان

  • علمتني الثقافة العربية الكثير
  • إننا نحتاج إلى البراءة حتى نكتب
  • الموت يجلس بجانبي ينظر إليّ وأنظر إليه

ولد الكاتب باولو كويلو سنة 1947 في مدينة (ريو دي جانيرو) في البرازيل, وأدخله أهله المدرسة اليسوعية, التي يقول إنه قد فقد إيمانه فيها رفضا لتقليديتها, وعرف في شبابه بكتابة الأغاني لأشهر مطربي البرازيل, حيث كتب ما يقارب ستين أغنية. أُدخل المصحة العقلية ثلاث مرات, وسجن ثلاث مرات أيام الدكتاتورية. وعند حدوث ثورة 68 التي انطلقت من فرنسا صار يساريا متشددا ثم تحول إلى (هيبي) يجول في العالم وينتسب إلى تجمعات السحر والشعوذة وغيرها, وهكذا ظل كويلو قلقا روحيا ومواصلا بحثه عما يريد, وكان حلمه أن يصبح كاتبا. في سنة 1986 قام برحلة إلى مدينة سانتياجو دي كومبوستيلا الإسبانية, حيث مشى على قدميه 700 كم على مدى 55 يوما, وكان يدون يومياته, فشكلت له هذه الرحلة التحول الكبير في حياته حيث أعادت إليه إيمانه الديني, بالكاثوليكية تحديدا, ثم صاغ يوميات هذه الرحلة, بعد عام, في رواية سماها (حاج كومبوستيلا), أي حين بلغ الأربعين من عمره. وهكذا راح يحقق النجاحات الكبيرة في رواياته اللاحقة ومن أبرزها: (الخيميائي), (على ضفاف نهر بيدرا جلست وبكيت), (الجبل الخامس), (الشيطان والآنسة بريم), (بيرونيكا تقرر أن تموت) وغيرها, فصار يشكل ظاهرة حقيقية في الأدب العالمي, لما حققه من شهرة فهو يعد ثاني كاتب في العالم من حيث المبيعات, فقد باع ما يقرب من 30 مليون نسخة, وترجمت أعماله إلى 45 لغة من بينها العربية, بحيث إنه باع خلال عشر سنوات ما باعه أكبر كتاب البرازيل جورج آمادو طوال حياته. يعده البعض مجرد كاتب حكايات بيتسلر, فيما يراه البعض ظاهرة جديدة استطاعت أن تشغل فراغا مهما ألا وهو الجانب الروحي الديني عند القراء, ويصل الأمر عند بعض النقاد إلى حد اعتباره ممثلا لثالث موجة ثقافية جماهيرية في القرن العشرين, أي بعد فرويد وماركس, وأنه استطاع الانتباه إلى الجانب الروحي الديني الذي أهملته الثقافة المعاصرة, على الرغم من وجوده المستمر في الذهنية الإنسانية وتأثيراته على أفكار وحياة الملايين من الناس, حيث يُلاحظ على كويلو اهتمامه بالدين والسحر والأسطورة والرموز, مستفيدا من موروثات حضارات أخرى مختلفة إحداها العربية. وقد أجرى هذا الحوار د. محسن الرملي وهو باحث وكاتب عراقي يقيم في إسبانيا منذ سنوات ويصدر صحيفة إلكترونية بعنوان (ألواح).

  • سيد باولو كويلو.. لدي الكثير من الأسئلة, فمنذ أن تم تحديد اللقاء معك, تلقيت العديد من الأسئلة من قبل القراء والمترجمين والأصدقاء من الصحفيين والمثقفين, وعلى الرغم من أن بعض الأسئلة قد تكون مكررة بالنسبة لك, فإنه, وكما تعرف فالمقابلة موجهة إلى الآلاف من قرائك الجدد.

- إنها لسعادة حقيقية بالنسبة لي, لأن هذه هي المرة الأولى التي ستتم فيها ترجمة أعمالي إلى العربية بشكل رسمي, وقد كانت هناك بعض أعمالي مطبوعة في بلدان عربية منذ ست سنوات تقريبا, ولكن هذه هي المرة الأولى التي سوف تحظى بترجمات جيدة, إذن فأنا مسرور جدا بهذه الفرصة التي سأستطيع التحدث فيها مع الجمهور العربي.

  • وهكذا سيكون السؤال الأول, من هو باولو كويلو?

- إنه سؤال جيد, في البداية أنا حاج, أعتقد أن أفضل طريقة لرؤية الحياة هي الالتقاء بأشخاص آخرين, ومنذ شبابي عندما كنت أسافر كهيبي في كل العالم, أدركت أننا جميعا سواسية, وأننا جميعا لدينا القلق نفسه, ونقدس جميعا مسألة البحث عما هو روحي, وبعد ذلك فأنا شخص عليه أن يشارك في ذلك, وقد اخترت الأدب, أي أن الكتابة بالنسبة لي كانت هي طريقتي لإيجاد حكايتي الشخصية, وأن أشارك الآخرين بروحي, والمشاركة هي واجب على كل شخص. ولهذا فإن ترجمة أعمالي إلى العربية هي مشاركتي تجاه هذه الثقافة العظيمة, والتي من خلال الكثير من الأعوام من حياتي قد علمتني أشياء كثيرة, فالأمر الآن بالنسبة لي, هنا, رمزي, لا لرد الجميل, لأن هذا مستحيل, ولكن على الأقل المشاركة قليلا عبر الأدب بما تعلمته منها.

الحاجة إلى الآخرين

  • أنت بذلك تكاد تكون قد أجبت أيضا عن السؤال الثاني الذي هو: ما هي حاجتك أو دوافعك للكتابة?

- إنه هذا الكائن الإنساني الذي يتجسد وجوده فقط عندما يتصل بالآخرين, فمثلا: إذا كنت وحدك في مدينة سانتياجو تنظر إلى كل شيء بمفردك فستشعر بالضيق, وهذا ليس كالشعور عندما تكون برفقة أحد تستطيع أن تشاركه. إذن فهو واجب علينا أن نتشارك, عبر الأدب أو عبر فعل شيء تحرري أو من خلال أي شيء آخر. إن الحاجة في أن يشارك, بعضنا بعضا, هي التي ستكون لدينا أسس الحضارة الإنسانية, وأنا قد اخترت الأدب. ولكن ذلك لا يعني أن الأدب هو الأفضل, أو أنه أهم من الأشياء الأخرى. أنا أعتقد أنه لا يهم نوع العمل الذي تقوم به إذا ما كنت تعمله بحب وبشكل جيد, ومن هنا فنحن نتحسن.

  • إلى أي حد تنعكس تجاربك الشخصية في كتاباتك? مثلا في (الخيميائي), (حاج كومبوستيلا) و(بيرونيكا تقرر أن تموت)?

- أساسا أنت لا تستطيع أن تفصل أي شيء عن شيء آخر, إذن فكل كتاب فيه شيء من تجربتي الشخصية, سواء أكان بالنسبة للحس الموجود الواضح في (حاج كومبوستيلا), أو الحس الذي هو أكثر استعارية كما في (الخيميائي), والذي هو رحلتي الشخصية في حياتي, أو كما في الحس الذي أمر عليه كجزء من تجربتي في (بيرونيكا تقرر أن تموت), والتي وفقها يتم تطوير كل فكرة الكتاب, ولكن في الحقيقة إن كتبي هي انعكاس لروحي الخاصة, ولا يعني هذا أنها تسجل تجربتي كما هي تماما, ولكن في الحقيقة أن لها علاقة بما عشته وما جربته في حياتي أكثر من كونها انعكاسا لما قرأته أو رغبت به, وإنما هي تجربة حياتي.

  • أي أنها مزج بين المخيلة والتجربة, أليس كذلك?

- أنا أقول إن هذا العالم كله هو عبارة عن مزيج من الخيال والتجربة. إن هذا الواقع هو مزيج, حيث تتداخل الأشياء. أليس كذلك?

  • في رواية (بيرونيكا تقرر أن تموت) تطرح موضوع الانتحار والجنون, وأنت قد سبق أن عشت أعواما من حياتك في المصحة العقلية وفي السجن, ما الذي برأيك يقود إلى الجنون والانتحار? وإلى أين يقودان في النهاية?

- أنا أعتقد أنه يوجد نوعان من الجنون, الجنون الإيجابي, وهو أن تعترف بأنك مختلف وأنك سوف تواصل طريقك. والجنون السلبي, وهو أن تبدأ بالتفكير بالعيش تماما في عالم (انفصامي) مزدوج, عالم مختلف عن عالمك, ويجبرك الناس على أن تقوم بأشياء هي ليست أشياءك, فتواصل فعلها دون وعي ودون تساؤل. في رواية (بيرونيكا تقرر أن تموت) أتحدث كثيرا عن الجنون الإيجابي, أي أنني مختلف وعليّ أن أعيش وسط هذا المجموع, ولكن أفكر وفق طريقتي وعليّ أن أعيش حلمي, بينما مرات كثيرة, ترى كثيرا من الأشخاص الذين يعملون وينتجون, ثم يعودون في الليل ويبدأون بالبكاء, يشعرون بالاختناق وبالجنون, ولكن لا ينتبهون لذلك لأنهم منتجون, ولأن المجتمع لا يعتبر مواصلة هذا النوع التكراري من الحياة جنونًا. في رواية (بيرونيكا تقرر أن تموت) أردت أن أتحدث عن الإنسان حين يتواجه مع هويته الخاصة. يقول لك الآخرون: أنت لست تماما كما تصورتك, ولكن حين تكون لك علاقة مع الرب, علاقة مع الآخر, عليك أن تُقِر بأنك مختلف, وعليك أن تعيش هذا الاختلاف, لأن هذا هو ما يمنحك الإحساس بالحياة.

  • هل تعني أنه لا وجود لجنون آخر, كما يتصور الناس, وبأنه جنون مرفوض?

- نعم, يوجد جنون مرَضي عند أناس يحتاجون إلى معالجة, ولكن, أنا قد عشت عدة مرات تجربة المستشفى النفسي, لأن والديّ كانا يعتقدان أنني مجنون, لأنني كنت أريد أن أكون كاتبا, ليس كاتبا في ذلك الوقت, كنت أريد أن أصبح فنانا, إذن فذاك الجنون المَرَضي هو غير هذا الجنون الإيجابي الذي تعترف من خلاله بأنك مختلف, ولكن السلبي في الأمر أن الناس لا تهتم بصراعك الداخلي مما يجعلك تعيش في عالم (انفصامي) لا تخرج منه.

العاطفة والعقل

  • أنت تتحدث كثيرا عن الإشارات في حياتك وفي كتبك, وخاصة في (الخيميائي), أو حتى في أغلب كتبك, حيث إن الذي يقود الشخصيات هو العاطفة وليس العقل, فهل تعتقد أن اتباع هذه الإشارات والانقياد للعاطفة سيساعدنا على الوصول إلى أنفسنا أكثر مما يساعدنا على الانقياد للعقل?

- أنا أقول إننا بحاجة إلى الاثنين معا, أحكي لك عن تجربة: عندما كنت في مصر, قبل أن أكتب (الخيميائي). ذات ليلة وكنت مع صديق مصري, وهي أول مرة أزور فيها مصر, بعد أن كنت قد كتبت رواية (الحاج) وذهبت إلى مصر. في الليل, وكنا نركب الجِمال, والتقينا أصدقاء هناك قرب الأهرام, فقلت له فلنترك الجمال ولنذهب مشيا إلى الأهرام, وكانت المسافة نصف ساعة تقريبا, إذ تركنا الجِمال مع صديق وكانت لديه سيارة على أن نلتقي بعدها عند الأهرام, وهكذا رحنا نمشي في الصحراء حيث الريح والظلام يخيم على كل شيء بما في ذلك الأهرام, فالتفت إلى صديقي وقلت له: صَلِّ, صلِّ أو اقرأ شيئا من القرآن, لأني أريد أن أعرف وليس لأستمع فقط, أن أعرف كل هذا المناخ, البيئة, فبدأ يقرأ وما كان يقرأه كان يشعرني بالسرور, شيء مثل الموسيقى, على الرغم من أنه كان يقرأ بالعربية وأنا لا أفهم شيئا, وواصلنا المسير, بعدها سألته: ما الذي كنت تقرأه? قال: إنها آيات من القرآن يقول معناها: يا ربي أعنّي على التمسك بطريقي, وإذا ما ابتعدت عنه فأعدني إليه (1), وعندها شعرت بأنه رجل عارف بهواجسي, فقد كنت حينئذ أعيش نوعا من القلق بشكل عام, وأعيش في تلك اللحظة الانفعال العاطفي بالحالة ولو ابتعدت عن الطريق فسوف أضيع, إذن من هنا فنحن بحاجة إلى الاثنين معا (العقل والعاطفة) ولم أنس ذلك أبدا حيث إنني حين كتبت (الخيميائي) تصورت الفتى ينظر إلى الأهرام ليلا, رؤية ليلية, حيث بعض الأضواء والأهرام عبارة عن ثلاث كتل كبيرة من الصخور, نحن بحاجة إلى الاثنين, نحتاج إلى الانفعال العاطفي والانقياد في الطريق, ولكن العقل فيما لو تهنا أو ابتعدنا فإنه سيعيدنا إلى الطريق.

  • كيف تتمكن من فهم هذه الإشارات والرموز, والتحدث ـ كما يقول البعض ـ مع روح العالم?

- نعم, إنها لغة فردية, مثلا, تجربة الأهرام. فقد كنت هناك دون أن أعرف المكان ولا أعرف اللغة العربية, ولكنني شعرت بأن ثمة إشارة تقول لي توجه ماشيا نحو الأهرام. لم أكن أدرك أنني في تلك اللحظة كنت أخلق المشهد الأخير من كتاب, تفهمني? كيفية أن تعيش هذه اللحظة مأخوذا بهذا الشيء ومتصلا مع الرب تواصل الطريق باتجاه الأهرام, إنه الإقرار بالإشارة في حينها كشيء مقدس وأنا قد استقبلتها كشيء مقدس, دون أن أفكر أو أن يخطر في ذهني حينها بأنني سأجعلها بعد شهرين أو ثلاثة, أو أكثر, تقريبا بعد عام, أن أجعلها تكون المشهد الختامي لكتابي, مشهد الأهرام, إذن فالإشارة بالنسبة لي هي أبجدية لأتحدث بها مع الرب, وهي مثل حروف أبجديات أي لغة أخرى, وقد نخطئ أحيانا, هذا شيء طبيعي, فأنا مثلا, لا أتحدث الإسبانية بشكل مضبوط ولكن ليس لدي خوف من أن أتحدثها, وهذا أفضل من أن أبقى محبطا, وهكذا هي الإشارات.

  • أي كنوع من أشكال التواصل.

- تماما, ولكن من الأعلى إلى الأسفل.

  • أنت تقول إنه في البرازيل لا يوجد فرق بين المتدين وغير المتدين, ومع ذلك فلا أحد يخجل هناك من التعامل مع الميدان الروحاني, كيف انعكس هذا على أدبك?

- الذي أقوله هو أنه لا وجود لحاجز بين الواقع الفيزيائي والواقع الروحي, وليس ذلك في البرازيل فقط, فأنا أعتقد, وشيئا فشيئا, أن الناس قد بدأوا بمزج الشيئين, أي بين هذا العالم المرئي والآخر غير المرئي, فمثلا عندما تنظر إلى هذا الماء ترى سائلا, ولكن إذا كان لديك قليل من المخيلة فترى السائل, وترى المنبع, وترى جوف الأرض, وترى الشخص الذي غرف هذا الماء ووضعه في قنينة وترى عائلة هذا الشخص وما كان حوله, كم من طير أو كائن أو حيوان أو نبات قد تشاركوا معك في هذا الماء كي يواصلوا الحياة, وترى كيف أن هذا الماء كان في يوم ما غيمة أو مطرا, إذن فأنت هكذا حين تستعرض كل حكايته لم تعد ترى الشيء الفيزيائي فقط, وإنما كل طاقة المطر والأرض والنبع والإنسان, إذن عندما تشرب الماء, فأنت لا تشرب مجرد سائل وإنما تشرب طاقة من الرب, عن هذا أتحدث أنا, أي ألا نفصل كثيرا بين الأشياء, ألا ننظر إلى هذا الشيء بلا تأملات وبلا اكتراث, علينا أن نربط دائما.

الحاجة إلى البراءة

  • أكثر كتبك تدور في مناخ إسباني فهل كان هذا متعمدا لتجنب الكتابة الخالصة عن البرازيل, أم لأنك بحاجة إلى مكان آخر لتكتب عن البرازيل?

- أنا أعتقد أننا نحتاج إلى البراءة كي نكتب. ولدينا كاتب برازيلي كبير, أكبر كاتب برازيلي هو جورج آمادو وهو متَرجَم إلى العربية, كان قد وصف البرازيل بشكل ممتاز, إذن فأنا أعتقد بالنسبة لي ولجيلي بما أن جورج آمادو قد وصف البرازيل جيدا, وقد استفدت من كتابته في فهم الروح البرازيلية, إذن فأنا أحاول بعد ذلك أن أتوجه لفهم روحي أنا وأحاول رؤية الصراعات في روحي, ومن أجل هذا فلا فرق بأن أقوم بذلك هنا أو في مصر أو في العراق أو في اليابان, فالصراعات الإنسانية كلها هي ذاتها, إذن فأنا قد اخترت أن أكتب عن الصراعات الإنسانية أكثر من الكتابة عن الأمكنة.

  • ماذا يعني مفهوم الوطنية بالنسبة لك, بما أننا نرى الآن موجة منها في أمريكا وفي بلدان أخرى, كيف تراها?

- أعتقد أن علينا احترام جذورنا, ولكن هذا لا يعني ألا نُقِر بأننا مختلفون, ففي أحيان كثيرة يتعصب بعض الناس ويقولون للآخر ابتعد من هنا فأنت مختلف وذلك وفق الجانب السلبي الذي تحدثنا عنه. في رواية (بيرونيكا تقرر أن تموت), كنت مختلفا لأنها كانت حلمي أنا. وأحيانا, كما يحدث الآن, تقودنا موجة الوطنية إلى الانعزال عن العالم, عليّ أن أحترم ثقافتي, عليّ أن أحترم ما تعلمته في البرازيل, ولكنني لن أكون مجنونا, بحيث لا أحترم الثقافات الأخرى.

  • هذا سؤال جانبي, يتعلق بالبرازيل أيضا, تعجبك لعبة كرة القدم?

- تعجبني كرة القدم, ولكن لن نتحدث عنها الآن, لأنها الآن في حال سيئة.

  • هذا السؤال من بعض القراء, حيث يقولون إن أفضل اللاعبين في العالم هم من البرازيل?

- كانوا, كانوا, الآن, لا

  • السؤال هو: إن أفضل اللاعبين في العالم هم من البرازيل, والبرازيليون عشاق لكرة القدم, كيف تفسر ذلك?

- هذه هي المشكلة, فعندما نثق بأنفسنا أكثر من اللازم, فإننا سنفقد عفوية المسألة. والبرازيل وثقت بنفسها كثيرا وبطريقتها وبمقدرتها وبخصوصيتها, وهكذا راحت تفقد التقنية وتفقد الموهبة, إذن فهي مسألة ثقة, ولهذا أقول لك, بالنسبة لي فأنا مهووس بكرة القدم, ولكن في هذه اللحظة, فإن اللاعبين البرازيليين سيئون بشكل فظيع,

  • ولكن كيف يخرجون هكذا من البرازيل تحديدا? لماذا لا يخرجون من بلد آخر مثلا?

- يخرجون لأنهم ثمرة ثقافة شاملة, وفي البرازيل أيضا هناك حضور للثقافة الموسيقية, ولثقافة كرة القدم, وهكذا يتبلور ما يمكن اعتباره مدرسة تنتقل من جيل إلى جيل, ولكن لا تظن أننا في هذه اللحظة جيدون, فقد بدأ الآن لدينا ظهور اللاعبين السيئين.

  • هناك كاتب كلاسيكي عربي كبير اسمه الجاحظ, يقول: ثلاثة أشياء يعلمن الإنسان: السفر, السفر, والسفر, وأنت مسافر كبير, تسافر في أرجاء العالم. في روايتك (الخيميائي) هناك وجود لما يشبه الدليل الذي يقود شخصية سانتياجو, والسؤال هو: هل نحن بحاجة إلى دليل? وما هي الملامح الإنسانية لهذا الدليل خلال سفرنا وفي بحثنا?

- هذا الكاتب العربي الكبير أنا لا أعرفه ولكن قوله: السفر, السفر, والسفر هو قول مضبوط تماما, سؤالك كان, هل من الضروري وجود المُعلم? أنا أقول: نعم, ولكن طوال ساعات اليوم, سيتبدل المعلم والتلميذ الأدوار بالتتابع, يكمل أحدهما الآخر, وحين تكون تلميذا منتبها ومتابعا فإنك ستُعلم المعلم أيضا دون أن تقصد ذلك. وهكذا طوال اليوم نتبادل المعرفة كمعلمين وتلامذة, وهكذا نرتشف من معرفة الرب من خلال عيون الآخرين.

ثلاثة أنواع من الحب

  • تصنف في رواية (الحاج) الحب إلى ثلاثة أنواع, الحب الشهواني, والحب الذي يجمع بين البشر كالصداقة مثلا, ثم الحب الذي يفوق كل حب, كيف يتجلى هذا الحب في رواية (الحاج), فهو ليس واضحا تماما للقارئ? ما هو الحب بالنسبة لك في هذه الرواية? وبالنسبة لك شخصيا بشكل عام?

- بالنسبة لي فإن الحب هو كل شيء, ولكن فلنتحدث عن هذه الأنواع الثلاثة من الحب: الأول, (إيروس) وهو الحب الشهواني تجاه شخص آخر, وأنا أعتقد أنه أساسي للحياة, كثير من الناس يقولون, لا, لا, ولكن يجب السعي من أجله. والثاني, هو (فيلوس) حب المعرفة, حب الجماعة وحب المشاركة وما إلى ذلك. والحب الثالث, هو (أغابي) وهو حب أبعد من كل ذلك, وفي هذه اللحظة تحديدا نحن بحاجة إلى المزيد من هذا الحب, هناك أمريكي كبير اسمه مارتن لوثر كينج الذي ناضل من أجل الحرية, وحرية السود في أمريكا, وقال: عندما أتحدث فإنني أقصد (أغابي) الحب السامي, وأنا أتذكر السود في المدارس الأمريكية عندما كانوا يُشتمون ويُضربَون ويُطرَدون لمجرد أنهم سود, ولكن هذا الحب لا يعني أن أقول سوف أُعجِب, وإنما أقول سوف أحب, فهذا الحب أبعد من الصداقة, أبعد حتى من الشخص نفسه, إنه حب لا يحتاج إلى الاعتذار, لأنه حب يعترف بكل شيء. إذن في هذه اللحظة الصعبة جدا التي يمر بها العالم الآن, يسرني لو أن الناس تواصلوا مع طاقة هذا الحب, لأن هذا الحب سوف يقود إلى التفاهم, سيقود إلى الحوار, سيقود إلى العدالة أيضا, لأننا, كذلك, نبحث عن العدالة, وسوف يقود إلى التسامح والتفاهم.

الأساطير والرموز

  • أنت تستخدم الأساطير كثيرا, ومن مصادر كثيرة منها العربية وبقية الثقافات الأخرى, وتوظفها بشكل جيد, هل تعتقد أن الأساطير والخرافات يمكنها أن تخدمنا في حياتنا الحديثة هذه?

- بلا شك, بلا شك, فأنا أعتقد أننا نعيش في كون رمزي, وكل شيء هو عالم من الرموز, وعندما تحاول صناعة شيء ما فإنك تحاول صناعة رمز. وربما تكمن هنا مشكلة عدم التسامح, بينما لو أننا بدأنا التحدث عبر لغة الإشارات والرموز فستفهمني وأنا سأفهمك, لأنها أبعد من ثقافتي وثقافتك, إذن عندما نتحدث عن فكرة ما مثلا, فإننا من أجل إيجاد لغة مشتركة علينا أن نتحدث بالرمز, ولو أنك نظرت اليوم إلى الكتب التي تُكتَب هنا وهناك, ولنأخذ مثلا, الأساطير الإغريقية فهي لاتزال قائمة كما هي, ومازال حضور أبطالها الكلاسيكيين بارزا, وهكذا فإن كل الأشياء مترابطة عبر حكاية بسيطة جدا, لكن التأويلات يمكنها أن تكون متنوعة وعلى عدة مستويات, وهذا ما يمكن رؤيته أيضا في (حكايات آداس) التي فيها هيكلية الحياة, ولكن الناس تقول: لا, لا هذه حكايات قديمة للأطفال, ولكنها حقيقة, ولو نظرت إلى حكايات (ألف ليلة وليلة) وإن كانت طبعا كلها تعتمد في لحظة ما على الوفاء لخصوصيتها, ولكنك ستجد, إذا ما نظرت من خلال الحكاية التي تتيح إمكان الكثير من التأويلات, سوف تستطيع أن تفهم بشكل أفضل روحك الخاصة, لأنك لا تتحدث حينها مع جانبك المنطقي أي سوف تفعل كذا وكذا, وإنما ستفهم بشكل أفضل انفعالاتك وعواطفك من خلال هذه الأساطير والرموز.

الحياة شيء قاتل

  • هل لديك خوف من الموت?

- لا, من الموت لا, ليس لدي هذا الخوف, أولا لأن ذلك حماقة, فأنا سأموت حتما وعليه فلماذا أقضي حياتي خائفا من شيء سيحدث حتما? فالحياة هي شيء قاتل, سوف تقتلني في النهاية, ومهما عشت فسوف أموت, إذن فالموت هنا يجلس إلى جانبي, ينظر إلي وأنظر إليه, وأسأله...

  • تسأله: متى نلتقي?

- لا, أقول له لا تلمسني اليوم, فيجيبني: لا أستطيع أن أقول لك فيما إذا كنت سألمسك اليوم أم لا, ولكن اعمل ما عليك أن تعمله اليوم, فأقول له: سأفعل ذلك بلا خوف, أو بخوف ولكنني سأفعله. إذن أراهن على الشيئين, لأن أكبر مُعلم للإنسان هو موته الخاص, أليس كذلك? إنني أنظرُ إليه وينظر إليّ وسوف يلمسني ذات يوم, إنه طيب, إنه جميل لأنه وسيلة اتصالي بالحياة الأخرى.

  • ولا تستطيع قتله.

- ولا أستطيع قتله, أنا لا أستطيع قتله بينما هو يستطيع قتلي. إذن فهو الذي يمنحني الشعور بالحاضر وبالأشياء التي عليّ أن أنجزها حتى لو كنت خائفا.

  • لقد صرحت مرات كثيرة بأن مثالك الأدبي هو خورخه لويس بورخس, فإلى أي حد أثر في أعمالك وفي حياتك?

- أنا عليّ ثلاثة تأثيرات كبيرة هي, بورخس الذي أعانني على تنظيم مزج الخيالي والواقعي, وهنري ميلر, وهو كاتب أمريكي كبير, ولا يعتبره البعض جيدا, ولكنه بالنسبة لي, أعتبره, الأفضل في القرن الماضي. ووليم بليك وهو كاتب صاحب رؤية, وقد عاش حياته بعمق, ولم يعشها كيفما اتفق, هؤلاء الثلاثة قد أثروا فيّ كثيرا, ولكن الكاتب أيضا هو خلاصة كل الكتب التي قرأها, وقد مر في حياتي كثير من الناس المهمين أمثال, كاستانيدا, وهرمان هسه, وكتاب آخرين.

الرحيل والعولمة

  • سافرت كثيرا في أنحاء العالم ومنها الشرق, زرت مصر ولبنان وإيران, فما البلدان الأخرى التي زرتها وكيف وجدتها?

- قريباً ستتاح لي أول فرصة كي أقوم بجولة واسعة في الشرق الأوسط, وهذه بالنسبة لي مبعث سرور, فمع أنني قد سافرت في أنحاء العالم فإنني لم أتعرف على أجزاء كثيرة, عرفت المغرب ومصر ولبنان وبلدانا أخرى قليلة هناك, ولكن الآن لدي الإمكان, ويسعدني أن يكون ذلك ممكنا, وهو ممكن لأننا الآن نعد لطبعات جادة بترجمات جيدة ومنظمة, وهذا ما يجعل الجولة ممكنة, وبما أن روحي قد سافر قبل جسدي ووصل إلى هناك من خلال كتبي, الآن سوف أنال مسرة أن ألتقي بكم وأنظر إلى عيونكم لأرى كيف أننا إخوة وأن بيننا أشياء كثيرة مشتركة.

  • ساراماجو يقول عن هذا القرن, إنه سيكون قرن نهاية حضارة. وكارلوس فوينتس يرى أنه سيكون قرن المهاجرين. ثم مسألة العولمة, كيف تنظر إلى ذلك?

- إن هذا الموضوع معقد جدا, لأن الناس لا تفهم جيدا ما العولمة وتبدأ بقول أي شيء, ولكنني أرى, قبل كل شيء, يجب احترام الثقافات, أما الاقتصاد وما إلى ذلك, فليس من اختصاصي, نعم أرى أنها شيء يؤثر في كل شيء, ولكن أكبر مظهر إيجابي للعولمة هو مثلا, أنني أستطيع أن أتصل بالثقافة العربية مباشرة, أذهب إلى الإنترنت, فأستطيع أن أقرأ القرآن, وأستطيع أن أقرأ التعليقات حول القرآن, وأستطيع أن أقرأ عما يحدث في الإمارات وغيرها, أما الشيء السلبي فهو بدلا من أن تعمل هذه الأشياء لهذا الغرض, يحاول البعض استخدامها لعمل العكس, وبدء محاولة فرض ثقافة هي ليست ثقافتي أو طريقة تفكير هي ليست طريقتي, إذن فهذا يعتمد كثيرا على الأشخاص, ولكن بما أنني أؤمن بالكائن الإنساني قبل كل شيء فأعتقد أننا سوف نعرف كيف نستثمر هذه الإمكانية من أجل تقوية المظاهر الثقافية, انظر, اليوم نحن في سانتياجو كومبوستيلا ولنتخيل أنني أرمني, فأذهب إلى مقهى هنا قريب وألتقي بكل الأرمنيين وأتحدث معهم عن أرمينيا, وأقرأ صحيفة أرمنية, فذلك يمنح وعيا أكبر, فبدلا من أنني كنت مهاجرا ضائعا, هأنا أجد سبيلا للتواصل مع هذا النسيج غير المرئي, إن عالم الهيبيين فيه الكثير من ذلك, كنا نسافر ونتبادل الثقافات ولكن...

  • لم تكن هناك وطنيات.

- لم تكن هناك وطنيات ولكن كان هناك احترام للهوية الخاصة لكل واحد منا, إذن فإن المظهر الإيجابي جدا للعولمة سيكون في إمكان التواصل, أما السلبي جدا فسيكون في محاولة فرض ثقافة هي غريبة تماما بالنسبة للآخر.

  • ما هو موقفك السياسي والأخلاقي أمام هذه التحديات التي يواجهها العالم الثالث الآن?

- يا رجل, إن هذه حالة من المستحيل أن تنجح, تفهمني? أي هذه المواجهة بين الفقراء والأغنياء, بين البؤساء ومجموعة تمتلك كل السلطة على الأرض, إن هؤلاء الأغنياء يظنون أنهم يستطيعون السيطرة على كل شيء, بينما هم لن يسيطروا على أي شيء, فإذا أغلقوا الحدود هنا ندخل من هنا, يغلقون من هنا ندخل من هنا, أو ندخل من تحت الماء, إذن فأنتم يا هؤلاء يا من بعتم إلينا البؤس, الآن ستدفعون الثمن, فهو مزيج من ردود الفعل, سواء رد الفعل الصامت أو رد الفعل المرئي, وهناك الكثير من الناس في البلدان المتقدمة يدركون ذلك جيدا. ولعلنا نذكر قصة المهاجرين في سفينة نرويجية موقوفة لأن أستراليا لا تريدهم أن يدخلوا, وقد وقف أناس كثر في العالم ضد ذلك, أي يقولون: لا تفعلوا ذلك لأنكم قد سبق أن بعتم وآن لكم الآن أن تستقبلوا, إذن فأنا أعتقد أن هناك مظاهر ردود فعل طبيعية. وفي بعض الأحيان ستكون لهذه المواجهة نتائجها الإيجابية, ليس ذلك لأنني متفائل, ولكن أعتقد أنه لا يمكن السيطرة على ذلك, وأن الظالمين سينهزمون.

  • لديك الملايين من القراء ومنهم قراء معينون, فمثلا, رأيت في إحدى الصور الرئيس الأمريكي السابق كلينتون وهو يحمل (الخيميائي) وفي حوارات أخرى معك تحدثت عن علاقات لك مع يلتسين أو رؤساء آخرين, قُراء ممن لديهم مناصب سياسية عالية, كيف تشعر تجاه هذا النوع من قرائك?

- إن القراء, هم القراء, وأنا أعتقد أن أكثر شيء يحركني هو أن أكون في الشارع ويقترب مني شخص يقول لي شيئا ما, لأن الكتابة هي عمل يتم في العزلة, يكتب الكاتب وينشر ولكنه لا يعرف إلى أين ستصل كتبه, فالقارئ لا يدرك كم من الخير سيسديه لي في هذا, وأنا مثل أي كاتب آخر, حين يأتيني القارئ مرتبكا أو مترددا بخشية من الاقتراب, ثم يصل وينظر إلى عينيّ ويقول: باولو كويلو لقد أعجبني كتابك, فأنا أقول له شكرا, قل ما تريد, لأن ذلك مهم جدا بالنسبة لي, وأعتقد بما أننا نعيش في عالم يحتاج إلى المزيد من التواصل, فلنهتم بالناس الذين يريدون الاقتراب, ويثمنون التقارب من أجل أن نتواصل, فهذه بالنسبة للكاتب أو الرسام أو الصحفي وغيرهم, تعتبر لحظة خاصة جدا, وأنا عندما أرى القراء أشعر بسرور غامر, سواء كانوا قراء معروفين أو غير معروفين, فهم بالنسبة لي أناس يفهمون روحي, أناس ينظرون إلى عينيّ ليقولوا لي إنك لست وحيدا, وهذا هو ما يهمني.

  • فيما يتعلق بالثقافة العربية الحالية, الأدب المعاصر, هل قرأت شيئا منها? أو كانت لك علاقة ببعض الكتاب?

- مع الأسف, إن أحد الجوانب السلبية للعولمة هو هذا, حيث لا توجد ترجمات كافية لكتاب آخرين سواء كانوا عربا أو إيرانيين أو برازيليين أو يوغسلافيين, فهناك تقريبا ما يشبه التوجه نحو ثقافة مصطنعة تماما, مارة عبر إمبريالية ثقافية, وهي في هذه الحالة تحديدا صناعة أمريكية. ولهذا ففي أغلب الأحيان لا تتوافر لدينا إمكانات كبيرة للاطلاع. كنت أتحدث مع صديق تركي حول جورج آمادو الذي كتب كتابا حول اكتشاف الأمريكتين من قبل الأتراك, وكنت أعتقد أن كتابا كهذا يهم تركيا ولكن صديقي قال لي إنه لا يعرف هذا الكتاب, إذ لا توجد ترجمات كافية, هناك إمبريالية من نوع هوليوودي جدا في العالم, وهي لا تعجبني كثيرا, ولهذا عندما تسألني عن ذلك أقول: لسوء الحظ لم أقرأ ذلك, لأنه لا توجد ترجمة, طبعا هناك ترجمات جائزة نوبل, هناك أمين معلوف, هناك بن جلون, ولكن هذا لا يمثل كل الثقافة العربية, ولكن, آمل أن يتغير ذلك, وأنا في هذا الجانب نموذج إيجابي, لأن ما يستطيع أن يصل إليه برازيلي فإن كل العالم يستطيع الوصول إليه, إن المسألة صعبة لأني أكتب بالبرتغالية, التي تتحدث بها البرازيل والبرتغال فقط, أما أنتم فلا أدري كم?أربعة وعشرون بلدا? والإسبانية تسعة وعشرون بلدا, أليس كذلك? إذن فبما أننا قد تمكّنا من تجاوز هذه الصعوبات, فأنتم أيضا تستطيعون تجاوزها, آمل أن أكون في هذا المضمار نموذجا.





د. محسن الرملي الكاتب العراقي وبجانبه الكاتب العالمي باولو كويلو أثناء إجراء الحوار





الكاتب العالمي كويلو أثناء زيارته لإسبانيا في لقاء مع د. محسن الرملي