رامتان متحف في بيت طه حسين محمود الورداني تصوير: ماهر زهدي

منذ أسبوعين، وفي يوم 14 نوفمبر الماضي، حلت الذكرى الرابعة بعد المائة لميلاد عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، الذي كانت رحلة حياته مسيرة روح شامخ وسعي عقل كبير لم يكف عن الحركة باتجاه النور. وفي هذا العام جاء الاحتفال بالذكرى مواكبا للاحتفال بافتتاح متحف طه حسين الذي كان في الأصل بيته المسمي "رامتان".

في بيت (عوطة) بالقرب من الأزهر، سكن الصبي طه حسين للمرة الأولى لما حل على القاهرة طلبًا للعلم من قريته (الكيلو) المجاورة لمدينة (مغاغة) في محافظة المنيا على مبعدة 180 كيلومترًا، من القاهرة. وفي الأزهر الشريف نجح الصبي في التسلل مرتين ليستمع إلى الإمام محمد عبده يلقي دروسه في صحن الأزهر، واستطاع أن يختفي عن العيون اليقظة للحارس الملازم للإمام، مثلما نجح من قبل في اجتياز البوابة الأولى بحراسها الحريصين على إبعاد الطلاب صغار السن.

وفي حي (السكاكيني) بالقاهرة عاش طه حسين لبضع سنين. كان قد حصل على درجة الدكتوراة من باريس، وكان موضوع رسالته يدور حول مقدمة ابن 132 خلدون. لكنه يعد وحده، بل جاء وبصحبته السيدة سوزان التي سيعيش معها حتى اللحظات الأخيرة.

ومن (السكاكيني) إلى ضاحية مصر الجديدة، انتقل طه حسين، في مسكن كانت تمنحه الحكومة لموظفيها. غير أن طه حسين الذي لم يركن إلى الهدوء قط، والذي كان وقتذاك عميدا لكلية الآداب عام 1932، احتج ورفض التدخل والاعتداء على استقلال الجامعة، ومنح درجات الدكتوراة الفخرية لعدد من الأجانب والمصريين لدواع سياسية في احتفال يحضره الملك فؤاد.

وانتهى الأمر بقرار من مجلس الوزراء بعزل طه حسين من وظيفته، وانقطع مورد رزق الأسرة، بل وأبلغت شركة مصر الجديدة البلجيكية المالكة لمسكن طه حسين أنه لم يعد من موظفي الحكومة، وعليه أن يخلي المسكن الذي أجرّته له الشركة في شارع المنيا. ولأن الشركة مضطرة للتنفيذ، فقد طلبت من طه حسين أن ينتقل إلى المسكن المجاور، ومدخله من شارع (السكاكين)، فهو ملك لها أيضاً، لكنه ليس مخصصاً للموظفين.

وفي حي الزمالك بالقاهرة انتقل العميد فيما بعد إلى شارع (سير سكوت مونكريف). ولم يتوقف الرجل خلال السنوات السابقة عن خوض معاركه وتوليه مسئوليات متعددة في الجامعة والوزارة وخارج الجامعة في الصحافة، وخارج مصر في دائرتها العربية من خلال الأجهزة الثقافية التابعة للجامعة العربية، وخارج الدائرة العربية أيضا من خلال المؤتمرات والندوات التي يُدعى إليها في شرق الأرض وغربها.

رامه لي ورامه لمؤنس

وفي عام 1955 انتقل طه حسين إلى حي الهرم وامتلك للمرة الأولى في حياته مسكنا. كان العميد والسيدة سوزان يهيمان حباً بالأشجار والحياة الطبيعية كما يقول د. محمد حسن الزيات وزير خارجية مصر الأسبق وزوج السيدة أمينة ابنة العميد.

كانت قطعة الأرض التي اشتراها طه حسين مملوكة للفنان يوسف وهبي، وكان أهم ما فكرت فيه السيدة سوزان أن تكون الحديقة واسعة قدر الإمكان، وممتلئة بالأشجار، ليسير العميد كما يحلو له، وينصت إلى صوت طائر الكروان الذي كان مفتونا به.

وقبل أن تنتقل الأسرة، وبعد أن انتهى البناء، سألت السيدة سوزان العميد:

"هل سنسمي منزلنا الجديد؟ ".
فكر قليلا قبل أن يجيب:
" نعم.. رامتان".
قالت السيدة سوزان:
"رامتان.. هل هي كلمة عربية".

أجابها:

"نعم.. فالرامه موضع بالبادية يستريح لديه المسافر".

وإذا ثنينا الكلمة فهي رامتان. كان العميد قد قرر أن يتكون البيت من مسكنين: مسكن له ومسكن لمؤنس ابنه وزوجته السيدة ليلى العلايلي حفيدة أمير الشعراء أحمد شوقي، بعد أن تزوجت ابنته أمينة من الشاب محمد حسن الزيات.

نعم.. رامه إذن للعميد، ورامه لمؤنس، وسط الحقول الممتدة في كل مكان، وبالقرب من الأهرام الشامخة التي كان ممكناً في ذلك الزمان رؤيتها قريبة على مرمى حجر، قبل مئات العمارات الشاهقة التي تكدست تحول دوننا والرؤية.

بين هذه الجدران

في "رامتان".. سمع طه حسين صوت جمال عبد الناصر وهو يدوي معلنا تأميم قناة السويس. وفي "رامتان" أيضا ردّ العميد وسام "اللجيون دونور" الذي منحته له الحكومة الفرنسية من طبقة (جراند أوفيسيه) احتجاجاً على العدوان الثلاثي عام 1956.

وفي "رامتان" عادت ليلى العلايلي زوجة مؤنس في صباح أحد الأيام من المستشفى وهي تحمل طفلتها الأولى أمينة ..

وهنا عاد طه حسين عصر أحد الأيام بعد أن انتخب رئيسا لمجمع اللغة العربية خلفاً لأحمد لطفي السيد.

وبين هذه الجدران اجتمع العميد مع بعض أعضاء لجان المجمع، كما منح قلادة النيل من جمال عبد الناصر، وهي الوسام الأكبر الذي كان حتى ذلك التاريخ مخصصاً للملوك ورؤساء الدول فحسب. أيامها لم يكن العميد قادراً على الانتقال لتسلم القلادة بنفسه، فأوفد إليه عبد الناصر كبير الأمناء مع الوسام، وأجريت داخل " رامتان " مراسم منح العميد قلادة النيل.

قطعة غالية من تاريخ هذه الأمة تتألق أمام عيني في وقده الشمس الحامية. تغير كل شيء، وانتصبت البنايات الضخمة، بل وغطت إحدى البنايات على "رامتان".. لكن الحديقة لا تزال واسعة بعض الشيء، وما زال المبنى الأنيق الصغير بدوريه وشرفاته الواسعة يبدو أمامي وسط الأشجار التي طالما تنسم العميد هواءها، وطالما جلجلت ضحكاته القوية العذبة في ظلالها وهو يتجاذب أطراف الحديث مع السيدة سوزان ومع ابنته أمينة وزوجها محمد حسن الزيات ومع مؤنس وزوجته ليلى، وأحفاده الخمسة وسكرتيره فريد شحاته و (مدام غنيم) التي كانت تقرأ له بالفرنسية، ومع أعضاء المجمع. اللغوي، ومع الكتاب والمفكرين الذين جاءوا له من أقصى الأرض: مع أندريه جيد وإيفو أندريتش وسنجور .. وغيرهم..

ومنذ شهور قليلة اشترت وزارة الثقافة المصرية " فيلا رامتان " من ورثة العميد بمليون جنيه، لتقوم بتحويلها إلى متحف لطه حسين. يشمل المتحف " رامتان " بالأثاث والمقتنيات الفنية والحديقة. أما المكتبة التي كانت قد أهديت إلى دار الكتب المصرية، فسوف تعود إلى " رامتان "، كما ستهدي الأسرة الأوسمة والنياشين والجوائز والمتعلقات الشخصية الخاصة بالعميد.

وتعكف الآن لجنة من وزارة الثقافة على تسلم. "رامتان"، كما تم اختيار الناقد نبيل فرج مديراً للمتحف.

عبد الله البستاني

وفي حديقة "رامتان" التقيت بالرجل الذي عمل بستانياً لحديقة العميد منذ عام 1959، وما زال حتى الآن مرتبطا بالحديقة وحريصاً عليها يعاملها بحنو بالغ. يتذكر عم عبدالله سيد خاطر الذي قضى مع العميد نحو خمسة عشر عاماً أنه جاء عن طريق حسين زكي بستاني المجمع اللغوي، كما يتذكر أنه قضى أسبوعاً كاملاً يرى العميد يروح ويجيء ويتمشى ويجلس على مقاعد الحديقة دون أن يلحظ أنه فاقد البصر. وعندما تأكد له ذلك غمره الحزن والذهول.

ويضيف عم عبدالله أن (مدام سوزان) كانت تتولى الإشراف على الحديقة. لقد كانت سيدة بالغة الذكاء، واعية، تشرف بنفسها على تنسيق الحديقة ونوع الزهور وترتيبها والأشجار وزراعتها وريها. أما الدكتور فقد كان يتمتع بقلب رهيف، وكان يتأثر بشدة، بل وشاهده عم عبدالله يكاد يبكي عندما يتصادف ويكون حاضراً أثناء استماع العميد لمشاكل من كانوا يستنجدون به.

في الشتاء كان العميد يجلس هنا. وأشار عم عبدالله بيده إلى الناحية القبلية، ويستقبل نجيب محفوظ ويوسف أدريس والسباعي وأعضاء المجمع. وفي إحدى المرات اتصل وزير الأوقاف بالهاتف يطلب موعدًا مع العميد، وأعطته السيدة سوزان موعداً في العاشرة من صباح اليوم التالي. جاء الوزير في العاشرة وخمس دقائق، فأرسلت السيدة سوزان عم عبدالله للوزير ليخبره أنه تأخر وأن الموعد غداً في العاشرة، وبالفعل انصرف الوزير وعاد في اليوم التالي في العاشرة إلا خمس دقائق.

المثلث الذهبي

حملت أوراقي وتوجهت إلى د. أحمد نوار الفنان التشكيلي المعروف ورئيس المركز القومي للفنون التشكيلية، وهو المركز الذي يتولى الإشراف على المتاحف المصرية.

سألته عن الخصوصية التي يتمتع بها متحف طه حسين عن سائر المتاحف التي يشرف عليها القطاع.

أجاب د. نوار: المركز القومي ليس سعيداً فقط بإضافة "رامتان" إليه، لكنها إضافة ضرورية وحتمية. وموجودة حالياً تحت رعاية وزارة الثقافة، سنتولى وضع تراث طه حسين في الشكل الجدير به واللائق له، وأؤكد لك أنه سيكون لتراث طه حسين في الفترة القادمة تأثير ضخم على المجتمع بكامله، فهو لن يكون مجرد مبنى فحسب، بل مؤسسة ثقافية وتربوية وعلمية يجب إعدادها لتتحول إلى فعالية إيجابية ومادة ثقافية حية.

وأخيراً، يضيف د. أحمد نوار: إنه أول متحف لمفكر وأديب يتسم بالعالمية، لذلك سنعمل على أن تكون له خصوصية في مجال التنمية الفكرية للشعب، ويوضع له برنامج مسابقات دائم بين شرائح الشباب المختلفة، فضلا عن برامج الندوات وحلقات البحث والدراسات. إن أهم ما أضافه طه حسين لنا هو ملكة المعرفة والبحث والتنقيب.

مكتب العميد

نعود إلى "رامتان". على الباب الخارجي كتبت كلمة "رامتان" بالعربية والفرنسية بخط صغير. أما الباب الداخلي، فيقودك إليه ممشى قصير، وبعد أن تنحرف إلى اليسار وتخطو خطوتين، ستجد باب المكتب على يمينك، وأمامه تمثال العميد الذي نحته له الفنان عبد الفتاح رزق.

هنا كان طه حسين ينصرف عن العالم، وكانت السيدة سوزان تقيم ستارها الحديدي الرقيق لتحول دونه وشئون الحياة، ليتفرغ ويبدع وينتج ما أنتجه. ولقد أحسست برهبة وارتجفت وأنا أحدق من عند باب حجرة المكتب. المكتب بسيط، ولا تحتوي الحجرة إلا على أرفف تضم بقايا مكتبة العميد ومقعدين كان يجلس على أحدهما ليملي أو يستمع لسكرتيره أو ل (مدام غنيم) التي تقرأ له بالفرنسية أو يُملي عليها بالفرنسية، كانت حجرة المكتب عبقه بأنفاسه وضحكاته وصوته العذب الراسخ، وكنت أراه جالسا على مقعده نائياً بنفسه، قادراً على خوض معاركه التي لم تتوقف إلا حين توقف قلبه عن الخفقان بعد أربعة وثمانين عاما هي سنوات عمره، فقد ولد العميد في 14 نوفمبر 1889 ورحل عنا في 28 أكتوبر 1973.

خارج المكتب ردهة متوسطة بها " أنتريه " صغير يفضي في المواجهة إلى المطبخ والحمامات، إما إذا اتجهت إلى اليمين فسوف تقودك خطواتك إلى الصالون الواسع الذي يضم في أقصى اليسار مائدة طعام صغيرة وشرفات واسعة تطل على الحديقة. ويحتل البيانو ركنا من الصالون، وفي المواجهة المدفأة وعلى جدارها العصاتان اللتان كان يستخدمهما طه حسين، وأمامها المقاعد والأريكتان والمذياع وفوقه الجرامفون حيث كان العميد يحب الاستماع إلى الموسيقى الكلاسيكية. وتنتشر في الصالون الواسع مقاعد ومناضد صغيرة تنم عن ذوق أهل البيت الرفيع، ثم لوحات لراغب عياد وناجي وصبري وغيرهم.. ومن بين هذه اللوحات لوحة للسيدة أمينة في صباها، ولوحة أخرى للسيدة سوزان في صباها أيضا، ثم بضع لوحات أخرى لفنانين عالميين.

الأديب الشاب يوسف إدريس

هذا هو الدور الأرضي، وفي هذا الصالون استقبل طه حسين عشرة من مفكري وأدباء مصر في منتصف الستينيات، وأجروا معه الحوار الشهير الذي سجله التليفزيون. ضم اللقاء نجيب محفوظ ويوسف إدريس وعبدالرحمن الشرقاوي ومحمود أمين العالم ويوسف السباعي وأنيس منصور وأمين يوسف غراب وغيرهم ..

وهنا أيضاً استقبل الأديب الشاب يوسف إدريس وكتب له مقدمة إحدى مجموعاته القصصية الأولى.

وهنا داعب أحفاده ولعب معهم وعاش حياته مع أسرته في اللحظات القليلة التي كان يغادر فيها مكتبه. وهنا أيضا جاءه خبر وفاة صديقه عبدالوهاب عزام. كما فحصه د. محمد كامل حسين وقرر أنه يجب نقله إلى المستشفى على الفور لإجراء عملية في العمود الفقري وإلا تعرض العميد للشلل. وبالفعل نقل إلى مستشفى الطيران بالعباسية وأجرى له الجراحة الدقيقة الطبيب السويدي أوليفا كورونا الذي كان يزور القاهرة بالمصادفة.

وهنا أيضاً، وفي عام 1962، تلقى العميد من عبدالرحمن بدوى مدرس الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة كتاباً عنوانه: " إلى طه حسين في عيد ميلاده السبعين ". وفي العام التالي يتلقى النبأ الفاجع، نبأ وفاة صديق عمره أحمد لطفى السيد، ثم نبأ رحيل العقاد بعده بعام.

هل نصعد إلى الدور العلوي ل "رامتان"؟ هناك سلم بالطبع يقودك إلى الدور العلوي. ويحتوي هذا الطابق على عدد من غرف النوم للعميد وللسيدة سوزان ولمؤنس والسيدة ليلى العلايلي وغرفة أخرى كانت مكتباً لمؤنس.. وأخيراً هناك صالة واسعة ومدفأة كانت تستخدم كحجرة معيشة للأسرة وتُطل على شرفة شمالية واسعة.

ما بعد الأيام

كان ضرورياً أن نلتقي بالدكتور محمد حسن الزيات وزير خارجية مصر الأسبق وصاحب واحد من أعذب وأدق وأشمل الكتب عن العميد وهو كتابه " ما بعد الأيام"، كما أنه كان أحد أفراد أسرة العميد منذ تزوج من السيدة أمينة ابنة العميد.

قال د. الزيات وهو يستعيد ذكرياته عن " رامتان ":

انتقل طه حسين إلى "رامتان" التي شهدت أول ما شهدت انتخابه رئيسا لمجمع اللغة العربية، كما شهدت " رامتان " كثيراً جدا من اجتماعاته بأعضاء المجمع ومناقشاته معهم وعقد بعض اللجان التابعة للمجمع مثل لجنة المعجم اللغوي. وفي "رامتان" تولى طه حسين عمله في جريدة الجمهورية وكتب مقالاته فيها التي لم تجمع حتى الآن في كتاب. وهنا منح أيضاً شهادة الدكتوراه الفخرية من ثلاث جامعات للمرة الأولى في تاريخ هذه الجامعات: جامعة مدريد وجامعة باليرمو وجامعة روما عن طريق سفيري إيطاليا وإسبانيا اللذين زارا "رامتان" لإجراء جميع مراسم منحه الدكتوراه الفخرية له في داره. قلت له: كنت قريباً من العميد .. كيف كان يقضي يومه في "رامتان" ؟ ..

كنا نجلس- د. الزيات وأنا- في شرفة مسكنه بالزمالك واستقبلني الرجل على الرغم من إصابة قدمه، وأخبرني أنه وافق على استقبالي على الرغم من إصابته لسببين: الأول هو محبته للعميد، والثاني تقديره للعربي ولدورها الثقافي.

يوم في حياة العميد

واسترسل د. الزيات مستعيداً ذكرياته:

في الصباح كان طه حسين يرتدي ملابسه ويدخل إلى مكتبه فينقطع ما بينه وبين الحياة المنزلية ولا يتعرض له أحد. كان يبدأ يومه في الصباح بسكرتيره الذي يقرأ عليه الصحف والرسائل الواردة من مختلف تلاميذه وزملائه ومحبيه في كل أرجاء العالم العربي. بعد قليل يأتي أحد موظفي المجمع اللغوي ليقرأ عليه ما يطلبه منه من كتب التراث شعراً ونثراً، وبعد ذلك يستقبل زواره حتى موعد الطعام في الواحدة والنصف بعد الظهر تماماً، حيث يترك مكتبه إلى الصالون، وعندئذ يتفرغ لأسرته ويستمع إلى الموسيقى التي كان مغرماً بها، ثم يتناول الغداء ويصعد إلى غرفة نومه فلا ينام، لكنه يستلقي على سريره ويمد يده ليفتح المذياع بجواره، والذي كان ثابتاً على إذاعة القران الكريم من القاهرة، حتى ينتهي وقت راحته، فينزل إلى مكتبه من جديد. وهنا تحضر قارئة لتقرأ عليه الرسائل الواردة باللغات الأجنبية ويُملي عليها بعض ردوده، ثم تقرأ عليه آخر ما وصله بالبريد من الأعمال الأدبية في اللغة الفرنسية، وفيما يُترجم إليها من الإنجليزية والألمانية والروسية وغيرها.

كان العميد حريصاً على أن يقسم يومه بين الاتصال بالتراث العربي القديم، وبما يترجم للعربية من تراث أجنبي، وبين روائع الفكر والأدب العالمي في كل لغاته. وبعد فترة الاستماع للقراءة الفرنسية يحين موعد استقباله لمن يعطيهم موعداً من الزوار، مرحباً على الدوام بزملائه في الجامعة ورجال الأدب وكذلك تلاميذه. ثم يترك المكتب إلى الصالون من جديد ويقضي ساعة لسماع الموسيقى قبل موعد العشاء الذي كان يتناوله مع أسرته عند وجودهم معه، كما كان يدعو إليه أحيانا بعض الخواص.

التفت للدكتور الزيات لأقول له: هل أثقل عليك إذا سألتك عن أهم ما كتبه العميد في "رامتان"؟ مستقبل الثقافة

أجاب د. الزيات: قبل هذا أود أن أذكر لك أنه عند الاحتفال بذكرى مرور مائة عام وعام على ميلاد العميد في السنة الماضية فكرت في كتابين خارج نطاق كتبه الجامعية- كان العميد يحب إعادة طبعهما، واهتديت إلى إعادة طبع "الأيام" بأجزائه الثلاثة في مجلد واحد، وإعادة طبع "مستقبل الثقافة في مصر" الأول نظراً لأنه كان فتحاً جديداً في الأدب العربي والكتابة التي تتميز بالصدق والبساطة. والثاني لأنه أصبح برنامجا للإصلاح التعليمي في مصر كما يقول وزير التربية والتعليم. ولسبب آخر اعتبره مهما، وهو الرد على ما أرجف المرجفون والجاهلون والمتجاهلون عن طبيعة رسالة هذا الكتاب.

قالوا إنه يذكر أن مصر تنتمي لحضارة البحر المتوسط، وادعوا أن ذلك إخراج لمصر من دائرتها ومن الحضارة العربية الإسلامية، ونفي لأن مصر لها علاقة بحضارة الشرق. كل هذا نقص وإصرار على عدم الفهم، لأن العميد عندما تحدث عن حضارة البحر المتوسط، إنما تحدث عن الحدود الثقافية لهذه الحضارة وليس عن الحدود الجغرافية، فهو لا يقصر هذه الحضارة على الجزائر وتونس والمغرب وليبيا ومصر ولبنان وفلسطين وسوريا .. أي البلاد المتاخمة للبحر المتوسط فحسب، بل يتحدث عن تلك الحدود التي تشمل العراق والجزيرة العربية وموريتانيا والسودان.. هذه كلها بلدان داخلة داخل الحدود الثقافية للبحر المتوسط. يقول العميد صراحة في الكتاب إن مصر لا تنتمي لحضارة الشرق الأقصى كالصين واليابان، ولا أظن أن هناك من يماري في هذه الحقيقة. وعندما يتحدث عن حضارة المتوسط، يتحدث عن حضارة بحر سمي أحياناً ببحر الشام أو بحر الروم لأنه مهد الحضارة العربية وأسلافها من حضارات فينيقية أو فرعونية. وهو على كل حال يدعو بإلحاح في كتابه لأن نساهم في الحضارة العالمية لا مساهمة المتلقين المستقبلين فقط، بل مساهمة أصحاب العطاء والإضافة إلى الحضارة، لأن الأخيرة بنيت على أسس الحضارة العربية القديمة حين امتدت جذورها إلى إسبانيا وباليرمو وإيطاليا في عهد الرينسانس الأوربي.

دعاء الكروان

قلت للدكتور الزيات: أرجو أن يتسع صدرك لي وتسمح باستكمال السؤال السابق، وهو يتعلق بأهم أعمال العميد داخل "رامتان".

أجاب د. الزيات: في "رامتان" كتب طه حسين "الفتنة الكبرى"، وهو يشير في مقدمة " عثمان " إلى أنه كان سيقوم بكتابة الكتاب في أربعة أجزاء، وهو ما أتمنى أن يقوم أحد الباحثين باستكماله.

وأذكر أنه بعد أن انتهى من كتابة " دعاء الكروان " زاره المخرج بركات في " رامتان " وتحدث معه عن رغبته في تغيير نهاية القصة، ففوض العميد ابنه مؤنس الذي اتفق مع رغبة المخرج بركات.

في " رامتان "، كتب العميد مقالات صحيفة الجمهورية كما أسلفت، وكذلك الجزء الذي كتبه بالفرنسية عن "جوته" تلبية لطلب اليونسكو. كما قابل نجيب محفوظ ويوسف إدريس والسباعي وثروت أباظة .. كان طه حسين يحب أن يرى كل من يرسل إليه كتبه مثل عبد القادر القط وسيد قطب، والأخير كتب كتاباً في الرد على كتاب "مستقبل الثقافة في مصر" وقرأه على العميد وأذن له أن ينشره، كما زاره " أندريه جيد " أيضاً في " رامتان " بعد أن نشأت بينهما صداقة عميقة.

وعن تصوره لما ينبغي أن يكون عليه متحف طه حسين بعد أن تسلمته وزارة الثقافة قال د. الزيات: أنا سعيد بأن تتولى وزارة الثقافة هذا الموضوع. وأحب أن أسجل أن تصور وزير الثقافة للمتحف أن يبقى بيت طه حسين بيتاً له وألا يتحول إلى مكاتب للموظفين، ويمكن استخدام جزء من الحديقة ليكون مقراً لمعهد صغير لبحث الأدب والتاريخ والثقافة. والحضارة العربية على مدى الثمانين عاماً التي عاشها العميد أديباً ومتأدبا ودارساً ومدرساً وباعثاً للنهضة الجامعية ومنشئا لجامعات إقليمية ومقتحماً لأبواب المعرفة باباً بعد باب ومرتقياً مدارج التقدم درجة بعد درجة. لا يتعلم وحده بل يقول إنه يريد أن يتعلم كل أفراد الشعب كما تعلم هو، وبالمجان كما تعلم هو، وأن يعطي كل صبي وفتاة ما استطاع أن يعطيه لابنه وابنته من فرص التعليم والتنور والتأدب بالآداب الرفيعة التي غرسها فيهما.

وأضاف د. الزيات: أجمل ما اقترحه في النقاط التالية:

1 - يفكر الوزير في إعادة نقل مكتبة طه حسين من دار الكتب وإعادتها إلى " رامتان "، ولا شك أن هذا سيعيد ل "رامتان" بهاءها ورونقها.

2 - لا بد من مجهود لجمع كل ما كتبه طه حسين سواء في الأدب أو السياسة، وهو كثير ولم يتم نشره في كتب حتى الآن.

3 - لا بد من الالتفات إلى حياة طه حسين داخل الجامعة ونشاطه وتقاريره في المؤتمرات التي حضرها، وعن سير الدراسة في جامعة الإسكندرية التي أنشأها العميد، فضلا عن أعماله داخل وزارة التربية والتعليم وهو مراقب ومستشار، كل هذه الأوراق يجب جمعها.

4 - كما يجب جمع صوته من التسجيلات الموجودة في جميع إذاعات العالم، كذلك صوره والملفات الخاصة به في أرشيفات الصحف والمجلات وإعدادها وحفظها لتكون في متناول الباحثين داخل "رامتان".

ذلك الحنان الهائل

نعود إلى " رامتان " التي تمنحك سكينة وراحة وهدوء نفس محببا. بين هذه الجدران قاد طه حسين معركته من أجل التنوير والتقدم والحرية والعدل والتعليم والحضارة، وبجانبه السيدة سوزان التي ذكرت في كتابها "معك":

"أولئك الذين يعرفون حياتك العامة، ويعرفون عن حياتك عالماً وكاتباً أكثر مما أعرف.. كتبوا وسيكتبون مؤلفات جميلة وعميقة عنك. أما أنا فأريد بكل بساطة أن أخلد للذكرى، مستعيدة ذلك الحنان الهائل الذي لا يعوض".

عاشت السيدة سوزان بجوار العميد ثمانية وخمسين عاماً، بعد أن التقيا معاً للمرة الأولى في 12 مايو 1915 في مونبليه ثم تزوجا في 9 أغسطس عام 1917. وما زالت جدران " رامتان " تحفظ لنا هذه العلاقة الفريدة لرجل وامرأة اختار كل منهما الآخر، وقررا أن يقضيا عمرهما معاً بمحض إرادتهما، بمحبة غامرة وعطاء متبادل.

تذكر السيدة سوزان في كتابها "معك":

" بدأت الحياة معه، وغدا ذلك في منتهى الجدية. كان يعد لنيل إجازة الأدب الكلاسيكي.. ثم عكفنا على الرسالة. وكلما فكرت في ذلك عاودتني الدهشة من أن أمرءاً يشكو كفاف البصر وقلة الاستعداد في الثقافة الغربية استطاع في أقل من أربع سنوات أن يحصل على إجازة ودبلوم في الدراسات العليا، وأن ينجز رسالة للدكتوراه".

وفي ديسمبر 1925 كتب لها طه حسين: " كان لطفي بك- لطفي السيد- يقول يوم الخميس: إن طه لا يستطيع أن يعمل بعيداً عن زوجته ذلك أن قلبه لا يكون آنذاك معه! أي نعم! ولا كذلك عقلي، ولعل سكرتيري قد ضحك في نفسه، فهذا الشاب لا يؤمن بالحب، ولم أكن أنا نفسي لأؤمن به من قبل، إلى أن جاء فلم أعد أنا نفسي ما كنته من قبل ".

شهدت هذه الحديقة، وتلك الجدران، والمقاعد، والأرض المفروشة، شهد كل ذلك حياة فريدة ومديدة لحب دام ونما وصنع معجزة اسمها طه حسين.

عاش عصره

سيتولى إدارة متحف طه حسين بعد أن تنتهي لجنة وزارة الثقافة من تسلمه الناقد نبيل فرج الذي كتب الكثير عن طه حسين من بين اهتماماته المتنوعة بالأدب والنقد والفن التشكيلي.

قال نبيل فرج: لم يكن طه حسين مجرد كاتب وسط عدد من كتاب الجيل، لكنه كان رائداً فتح الآفاق أمام الثقافة العربية، وعرف كيف يقرأ التراث القومي في الآداب الحديثة وأن يقيم الجسور بين الثقافة القومية والثقافة العالمية، ولعل كتاباته في التراث العربي والعالمي، قديمه وحديثه، توضح هذه الأبعاد. هذه هي قيمة طه حسين: كاتب عربي ومثقف عالمي عاش تاريخ الحضارات كما عاش عصره.

سألت نبيل فرج عن تصوره لدور المتحف وما سوف يكون عليه فأجاب:

في هذه الفترة أجدني معنيا بالتعرف على المتاحف الممثلة للأدباء في العالم، حتى يكون متحف طه حسين على نفس المستوى، ليس فقط صورة المتحف كمعمار ومقتنيات، بل كرسالة ثقافية فعالة في مجتمعها وعصرها. لا أحب أن يكون المتحف مجرد مزار، ولكن يجب أن يكون مركزا للإشعاع الثقافي يتفاعل مع الماضي ويحرك الواقع.

وعدت أسأله: كيف نحافظ على جلال المكان مع الدور الثقافي الذي تطمح لأن يؤديه المتحف؟

أجاب الناقد نبيل فرج: لا شك أن كل من قرأ طه حسين سيهمه أن يرى " رامتان " التي عاش فيها العميد نحو 20 عامًا من حياته وتوفي فيها، ويرى مكتبته ومكتبه والشهادات العلمية والتقديرية التي حصل عليها ومخطوطات كتبه والرسائل التي أرسلت إليه والأوسمة والنياشين التي حصل عليها وبعض المقتنيات الخاصة مثل نظارته وعصاه وغيرها من خلال جولة بالمتحف.

لكن وظيفة المتحف- كما يضيف نبيل فرج- لا تقتصر على ذلك، وإنما تتسع سن خلال عدة فعاليات تقام في قاعات ملحقة بالمتحف يجمع فيها كل ما كتبه العميد لمن كتب ومقالات أدبية وسياسية بل وأشعار تتزايد مع الأيام صعوبة العثور عليها. ولهذا سيكون من أولى المهام التي يحرص عليها المتحف الإسراع بجمع تراث طه حسين المتفرق في دوريات محتجبة منذ عشرات السنين، والعمل على طبع نماذج منها مع القيام بدراسات حولها تصدر تحت اسم مطبوعات متحف طه حسين؟ إلى جانب إصدار دليل شامل بتاريخ المبنى ومحتويات المتحف وتاريخ حياة العميد ومؤلفاته وغير ذلك من المعلومات.

إنه لنا جميعا

وفي النهاية .. لا شك أن مثل هذا الحدث الثقافي الضخم يهم كل مثقفي الأمة ويحتاج- حتى يليق بالقيم والأفكار والمثل التي نذر طه حسين عمره للدفاع عنها عبر ثمانين عامّا- إلى أن تتكاتف كل الجهود وأن يتم توفير الإمكانات المادية والبشرية للحفاظ على تراث هذا الرائد العظيم والعبقرية العربية الفذة.

إن طه حسين لنا جميعاً وتراثه قطعة غالية وعزيزة علينا، لها فينا بقدر ما لنا فيها، فهي تضم ما نعتز به ونفخر ونتباهى به. فوسط الظلام المحيط بنا، يصبح كل ما أضافه ودافع عنه العميد نوراً يحق لنا أن نتمسك به وندافع عنه.

في كتابها " معك " قالت سوزان طه حسين:
" إننا لا نحيا لنكون سعداء ".

"عندما قلت لي هذه الكلمات عام 1934 أصابني الذهول، لكنني أدرك الآن ماذا كنت تعني، وأعرف أنه عندما يكون المرء شأن طه، فإنه لا يعيش ليكون سعيداً: وإنما يعيش لأداء ما طُلب منه، لأداء ما يراه واجبه".

أجل يا سيدي العميد.. لقد عشت لأداء ما رأيت أنه واجبك، فهل نؤدي واجبنا نحوك، ونعمل على أن يكون بيتك لائقاً باسمك؟ .