إشكالية الزمن ومأزق الثقافة العربية

إشكالية الزمن ومأزق الثقافة العربية

يطرح مواجهة الزمن واحدة من أهم الإشكاليات الحضارية التي تواجه صيرورة الوجود الإنساني, فالعالم يتغير بصورة أسطورية, وحركة الأمم باتجاه المستقبل تشكل اليوم منطق كل تحول حضاري ونهضوي, لأننا اليوم نعيش في عصر التغيرات العاصفة.

في موقف الإنسان من الزمن, تتحدد أحد معالم هويته. فبعض الشعوب تعظّم الماضي, وبعضها يولي الحاضر أهمية أكبر, أما بعضها الآخر فيندفع إلى المستقبل بلا حدود ويرفعه شعارا لوجوده وحضارته. وعلى أساس إيقاعات الزمن يجري تصنيف الشعوب والأمم إلى مجتمعات تقليدية أو مجتمعات معاصرة حديثة. فالمجتمعات التقليدية تمجّد الماضي وتدور في ثناياه وتضاريس وجوده. أما المجتمعات الحديثة فهي هذه التي تجد نفسها في اللحظات الآتية التي تقتضي من الإنسان الإبداع والمبادهة والمغامرة نحو آفاق إنسانية أكثر عمقا وأصالة. فالمجتمعات التقليدية التي تمجد الماضي مجتمعات ساكنة (ستاتيكية) أما المجتمعات التي تمجد المستقبل فهي مجتمعات (دينامية) حرة.

في المجتمعات التقليدية يتجلى دائما الموقف المجانف للتغيير والابتكار, حيث ينظر إلى كل محاولة للتغيير على أنها تهديد اجتماعي, وهنا يمكن لنا أن نلامس الروح التقليدية للعلاقة الذهنية مع الأشياء, وهذا يعني أن المحافظة Censervatisme هي سمة أصيلة في البنية العقلية المحافظة. والمحافظة هنا تضمن لهذه المجتمعات حماية ذاتية ضد كل ما يهدد الطابع التقليدي لوجودها, كما أن هذه المحافظة تعد أساسا ذهنيا في عملية تكيف هذه المجتمعات.

فالتغير والتجديد Renouvellement حقيقة تتأصل في عمق العقلية الحديثة, أما الثبات فهو قانون جوهري في السجل الداخلي للعقلية التقليدية. وهذا يعني أنه إذا كان التغير من طبيعة الأشياء في جوهر العقل الحديث, فإن الثبات يتبدى حقيقة لا تقبل الجدل في العقل التقليدي. ومن هذا المنطلق يمكن التمييز بين نوعين من الثقافة: إحداهما دينامية مرنة تتميز بقدرة عناصرها على الحركة والتوالد والانتشار خارج إطارها الزمني والمكاني, وهي قادرة على الإقناع والتحدي والمجابهة وتلبية حاجات الأفراد. أما الأخرى فهي تقليدية جامدة متصلبة وذلك لانعدام الروابط الوظيفية بين وحداتها وعناصرها, وفي مضامين هذه الثقافة التقليدية نجد الدعوة إلى تمجيد الماضي واحتقار الحاضر والتخوف من المستقبل وهذه الخصائص تنسحب على ثقافتنا العربية السائدة وتعبر عن حالتها.

الزمن وتشكل العقليات

وكل مجتمع يعرف بموقفه المتميز من الزمن كما يرى آلفين توفلر (حيث يزحف الماضي إلى الحاضر ويعيد إنتاج نفسه في المستقبل في المجتمعات التقليدية الجامدة, (لأنه مع القديم تكون الحكمة), كما يقول الإنجيل.

وعلى أساس الموقف من الزمن تصنف أيضا العقليات إلى عقليات تقليدية جامدة متحجرة تعيش في الماضي ولأجله, وتدور في فلك الأسلاف والأجداد والتقاليد القديمة. وهنا نجد أن محتوى ومضمون هذه العقليات عقائديا وقيميا ينتمي إلى مرحلة سابقة من التطور الاجتماعي والفكري كالإيمان بالسحر والشعوذة والتقليد وأرواح الآباء والأجداد وقيم الزمن الماضي بغثّها وثمينها, ومن ثم الإعلان عن موقف الحذر والريبة من كل جديد وابتكار مهما يكن مضمونه.

والحق يقال إن الموقف من الزمن يأخذ أهمية كبيرة في تاريخ الحضارات ومازال هذا الموقف من الزمن يشكل المعادلة الصعبة التي تواجه بعض الأمم والشعوب في مسار تقدمها وحضارتها, فالمضامين الحرة للعقلية - التي تنفلت من أقفاص التقليد ومن حصار الزمن الماضي, بما ينطوي عليه هذا الزمن من تصورات أسطورية وخرافية بائدة - تشكل منطلق النهضة الحضارية لهذه الأمم وهذه الشعوب. فبعض الشعوب ومنها الشعوب العربية مازالت تخشى المستقبل بما ينطوي عليه هذا البعد الزمني من عطاءات حضارية إنسانية. وهذه الشعوب تعيش بعقلية تاريخية قديمة تجاوزتها الحياة. فالزمن الماضي يأخذ موقع القداسة وهو زمن يزحف بمعادلته الصعبة إلى الحاضر ويسجل حضوره المتجدد في المستقبل. وهذا يعني أن هذه الشعوب تعيش في إيقاع الزمن الواحد, الزمن الماضي, فلا تغادر فناءه أو تتجاوز حدوده وهذا يعني توقف دورة الزمن والحضارة وتراجع اندفاعات الإبداع والتطور الإنساني.

وفي هذا الفضاء يمكن القول بأن الموقف من الزمن تحكمه عقلية ثقافية محددة وبالتالي فإن تغيير الموقف يتطلب تحريض العقلية السائدة على تبني موقف جديد يواكب حركة الزمن بما ينطوي عليه من إرهاصات إبداع وحركة وتحرر وحداثة نحو قيم إنسانية خلاقة ومبدعة.

فالفرد في أي مجتمع مغمور بتراث ثقافي يتجاوزه وهو التراث الثقافي للحضارة التي ينتمي إليها. وهو من خلال هذا التراث يدرك العالم ويحكم عليه, غير أن هذا التراث عندما يتجمد ولا يتجدد يسير نحو الضمور فالزوال, ويحول بالتالي بين الفرد وبين كامل إدراكه لذاته وغيره, ومن هنا كانت هناك صلة دائرية بين تجدد المجتمع وتجدد الفرد فكل منهما يجدد الآخر.

وفي هذا السياق يمكن أن نضرب حادثتين واقعيتين تعبران عن مصداقية الثبات والتغير لكل من العقليتين. في الحادثة الأولى يرويها آلن توفلر فيقول: إن فتاة أمريكية خرجت للبحث عن محل تجاري لبيع الحلوى, كانت قد مرت به منذ يومين, وهو قريب من منزلها. وبعد عناء لم تستطع الفتاة العثور على المحل المطلوب, فعادت باكية تقول لأمها لقد هدم المحل التجاري واستبدل مكانه. والحقيقة لم تكن كذلك, بل إن الفتاة كانت قد تاهت عن مكان المحل التجاري. أما الحادثة الثانية فقد حدثت لي شخصيا, كنت في فرنسا يوما أتابع دراستي, وكنت أتردد دائما على مكان تباع فيه السيارات القديمة (كراج), وكان المكان ممتدا وواضحا للعيان, وبعد فترة من الانقطاع عن مراودة المكان, دفعتني حاجتي إلى معاودته مرة أخرى, وعلى الرغم من درايتي به ومعرفته بصورة جيدة, فإنني لم أهتد إليه, وبما أنني أنتمي في الأصل إلى ثقافة تقليدية, لم يكن أمامي إلا أن أفسر الأمر بأنني تهت عن معرفة المكان الحقيقي, وقد توجب علي أن أسأل عنه من جديد, وبعد لأي وبحث جاد, كم كانت دهشتي كبيرة, فأنا لم أكن تائها عن المكان بل حدثت تغيرات بنائية في المكان حيث ظهرت مبان جديدة في أسابيع قليلة أدت إلى اختفاء (الكراج) من ساحة الوجود.

وكما هو واضح لو كانت الفتاة الأمريكية مكاني لكانت بكل بساطة قد أدركت أن التغير السريع هو علة غياب المكان. باختصار لم يكن في عقلي الباطني ما يجعلني أفكر بأن الأشياء تتغير على هذه الوتيرة, وهذه نبضة داخلية في عمق العقلية التقليدية التي تحكم الكينونة الداخلية للإنسان التقليدي. وفي هذين المثالين ما يعبر عن تباين عميق وجوهري بين العقلية التقليدية التي ترفض إلى حد كبير صيرورة التغير السريع والعقلية الحديثة التي ترى أن التغيير يلتهم بنية الأشياء. ففي البيئة التقليدية يجري التغير ثقيلا أما في البيئة المدنية فيجري رشيقا متسارعا, ومن هنا وهناك تترك هذه الأحداث بصماتها في بنية العقل الداخلية.

الفكر وعجز الواقع

في سياق معالجته لواقع الأزمة الثقافية والحضارية في الوطن العربي يقدم فؤاد زكريا تحليلا لواقع الثقافة العربية السائدة, وفي إطار هذا التحليل ترتسم ديناميات التخلف العربي وأوجه حركته في سياق تاريخي. في هذا التحليل يميز زكريا بين وجهين للأزمة الثقافية في الوطن العربي: يتمثل الوجه الأول في عجز الواقع عن اللحاق بالفكر, حيث يكون الفكر متقدما والواقع لا يستجيب لحركته ونموذج هذه الحالة حال المفكرين الأوربيين في عصر النهضة, حيث كان فلاسفة التنوير يسبقون عصرهم ويمهدون للثورة الفرنسية. أما الوجه الآخر للأزمة فيتمثل في أن يكون الواقع أكثر تطورا من الفكر, حيث يعجز الفكر عن المواكبة ولاسيما في المجتمعات المتقدمة. أما أزمة الثقافة العربية فهي ليست هنا أو هناك, إنها حركة جمود في الواقع وفي الفكر في آن واحد. وفي ظل هذه الرؤية التنويرية يعلن زكريا أن (أنصار الثقافة التقليدية يريدون عقلا مطواعا خاضعا لا يتساءل ولا ينقد, ويخلط بين المشكلات الحقيقية والمشكلات الفرعية, وهم في هذا التوجه يعطون انطباعا أن العقل شيء غير مرغوب وليس مطلوبا أصلا, ومن هنا نجدهم يدافعون عن الثقافة الهابطة. فالناس في عالمنا وبحكم العقلية التقليدية التي توجه خطاهم يدعون إلى التشبث بأكثر عناصر الماضي جمودا وتحجرا, إنهم يلوّنون الماضي ويشكّلونه على هواهم. إن التيار الغالب في كثير من الأقطار العربية في الوقت الراهن هو ذلك الذي لا يختار من التراث إلا أكثر عناصره جموداً وأصحاب هذا التيار إنما يعبرون باختيارهم هذا عن أنفسهم).

هذا ويؤكد أدونيس في كتابه (الثابت والمتحول) رؤية زكريا في تخلف العقل العربي وجموده إذ يرى: أن العقل العربي عقل متبع لا مبدع, وأن الثقافة العربية ثقافة اتباع لا إبداع, وتنفرد بخصائص ثلاث هي:

  • الخاصية اللاهوتية التي تتمثل في الغيبية المطلقة.
  • خاصية الفصل بين المعنى والكلام, وتفضيل الكتابة على الخطابة.
  • خاصية التناقض مع الحداثة والتمحور حول الماضي.

وفي موقفه من جمود الثقافة العربية يعلن محمد عابد الجابري أيضا أن كثيرا من مشكلاتنا الحضارية والثقافية تعود إلى الماضي وما حمّلنا به هذا الماضي من مفاهيم وتصورات تصدنا عن متابعة الحركة باتجاه النهضة والحداثة والمستقبل. وفي هذا الأمر يقول الجابري: (إن مشاكل الحاضر في ساحتنا الثقافية الراهنة ترجع في جزء كبير منها, إن لم يكن في معظمها, إلى مشاكل الماضي), ومن منطلق أنه من هذا الماضي يتشكل خزان بؤسنا الحضاري يرى الجابري أن التحرر من التبعية للآخر لا يمكن أن يتم إلا من خلال التحرر من التبعية للماضي ماضينا نحن. وبالطبع يقصد الجابري الجوانب المعطلة للعقل في هذا الماضي.

وفي هذا السياق يؤكد العفيف الأخضر هذه الصورة التي نجدها عند كل من أدونيس وزكريا حيث يؤكد مؤشرات استغراق الثقافة العربية في لجة التقاليد وشواهدها. فالنقل على حدّ قوله (مازال يكفر العقل في الفضاء العربي الإسلامي, ومازال التقليد يقطع الطريق على التجديد, والقدامة تحارب الحداثة) ويتجلى غياب الحداثة وحضور السمات التقليدية في المظاهر التالية:

- غياب الفصل بين الدين والدولة على مبدأ الدين لله والوطن للجميع.

- غياب المواطن الحديث الذي ينتمي إلى الوطن لا إلى طائفة أو قبيلة.

- غياب الفردية التي شكلت الأساس الذي قامت عليه عمارة الحداثة.

- غياب حقوق الإنسان والديمقراطية مفهوما وممارسة في الوطن العربي.

التراث والحداثة

في معرض تحليله لعوائق التحديث السياسي في المجتمعات الإسلامية يشدد العفيف الأخضر على عجز النخب الفكرية في الوطن العربي عن الانخراط في مغامرة الحداثة. ويعيد الأخضر هذا العجز إلى التراث العربي التقليدي الذي استبطن (كعائق ذهني شلّ فاهمة النخبة التي واجهت الحداثة كخطر على الهوية لا كفرصة لمعاصرة عصرها). ورهاب الحداثة قضى على مجتمعاتنا بأن تظل بدرجات متفاوتة تقليدية أي يحكم فيها الأموات من وراء قبورهم الأحياء على حدّ تعريف أوجست كونت للمجتمعات التقليدية.

ويبرز تركي الحمد خاصية المطلق وغياب منطق النسبية في الثقافة العربية المعاصرة حيث يرى أن الأزمة المعاصرة للثقافة العربية في ثبات القيم المطلق. يقول الكاتب في هذا الصدد: (لقد اكتسبت مجموعة من المفاهيم والتصورات والقيم صفة الثبات المطلق, وفقدت بالتالي الصلة مع الواقع والمحيط المتغير فأصبح الإدراك الذي تنقله, والأحكام الصادرة عنه, إدراكا وأحكاما مشوشة, وهذا ما نتبينه من خلال التعامل العربي المعاصر مع أحداث هذا العالم وتحولاته).

وفي شهادته على جمود الثقافة العربية يرى الحمد أننا نعيش بين سندان مفاهيمنا الثقافية الساكنة ومطرقة العالم المعاصر وحركته السريعة. والعالم يتحول أمام أعيننا تحولا سريعا متواترا ويقدم صيغا تتغير كل يوم حول المستقبل وصورة المستقبل, ونحن مازلنا أسرى الفتنة الكبرى وصفين وكربلاء وحطين وعين جالوت. العالم يتحدث عن المستقبل ونحن نتحدث عن الماضي وننقسم حول هذا الماضي المتصور شيعا وأحزابا متناحرة في قضية لا وجود لها أصلا, وإن وجدت, فلا شأن لها في تحولات المستقبل في هذا العالم. إننا نسبل الماضي على الحاضر فنخسر المستقبل ولا ندرك الماضي ونتحول إلى أمة عائمة لا هي مع هؤلاء ولا هي مع أولئك. ويصل تركي الحمد إلى هذه النتيجة المحزنة: (نحن أمة تنتمي إلى الماضي ذهنيا, وتعيش في الحاضر ماديا, وتريد السيطرة على المستقبل أملاً وحلماً, دون أن تمتلك مفاتيح هذا المستقبل, كيف يكون ذلك? لست أدري).

تخلف الإبداع

الثقافة العربية تعيش حال غفوة عميقة كما يرى عبدالله عبدالدايم وبالتالي فإن السمة الأولى للثقافة العربية تتجسد في تخلف الإبداع وجموده في شتى مجالات الحياة. فهناك شبه إجماع على أن المجتمع العربي منذ سقوط الدولة العربية بسقوط بغداد على يد المغول والتتر دخل في حال سبات طويلة تخللتها لحظات صحو قليلة, وظل قرونا طويلة يجتر ذاته دون أن يبدع شيئا جديدا, إلا في حالات نادرة. والتخلف الإبداعي يشمل شتى نواحي الحياة ويتجسد واضحا في التربية ومناهجها. والحق يقال أن ظاهرة المحافظة ورفض التغير والتجديد من أخطر ظواهر التخلف وأعمقها لأنها تضرب بجذورها في أعماق حياة الإنسان إذ ترتبط بما ألف وعرف, وبما ألف آباؤه وأجداده وعرفوه, وتحمل بالتالي جانبا من القدسية, أو ضربا من نشوة الحنين إلى الماضي. إن سلطان الماضي لم يعرف لدى أمة ما ما عرفه في الأمة العربية, وسلطان الماضي لا يتخذ في المجتمع العربي صورة المرجع الأصيل الهادف للهوية القومية بل يتخذ صورة السيف المصلت والفرض الغاشم. إن ما ننكره أمران هما عبادة الماضي واعتباره النموذج الأمثل للمستقبل, حتى كأننا نسقط المستقبل إسقاطا خلفيا على الماضي.

ويشهد علي حرب بدوره على معاناة الجمود في الثقافة العربية فيقول: (إننا نقيس كل شيء على النص: الحياة والواقع والفكر والعمل والحاضر والمستقبل. إن التحرر من النص شرط لقراءته قراءة جديدة مغايرة خلاقة, وشرط لإعادة اكتشاف الواقع وصياغته. وباختصار لا سبيل إلى خلق ندهش به العالم مادمنا نتعامل مع النصوص كأداة للعبادة, وهكذا فالذي يعطي أولوية للنص على الحياة وللتقليد على التجديد يسيء إلى النص والحياة معا).

ويبين أنطونيوس كرم في كتابه (العرب أمام تحديات التكنولوجيا) أن أزمة الثقافة العربية تكمن في قصورها عن مواكبة التكنولوجيا المتقدمة وعدم القدرة على تحقيق التواصل مع قيمها. وبناء على ذلك فإن الثقافة العربية تعاني من أزمة قيمية. فالقيم العربية على حد تعبيره (هي مزيج غريب من قيم الحضارة الزراعية القديمة وقيم البداوة المتأصلة وقيم عصور الانحطاط وقيم الاستهلاك التي يصدرها الغرب لكل الأبواب المشرعة). ويصور الباحث هذه الأزمة في صياغة أخرى مفادها أن العرب غير قادرين (على الانصهار في حضارة العصر لأنهم يحلمون بالحصول على إنجازات العلم والتكنولوجيا منفصلة عن النظام القيمي الذي سمح بتطويرها. وأن العرب غير قادرين على تقديم البديل لأنهم يرفضون منطق العصر ويدعون إلى منطق الماضي).

ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى دراسات وأبحاث في بلدان إسلامية آسيوية تتعرض بالنقد الحاد والبناء أحيانا لحال الفكر العربي الإسلامي الصادر عن جماعات وتيارات عربية, ومعظم هذا النقد الآسيوي موجه إلى جمود في الفكر العربي الإسلامي, وإلى ظاهرة اجترار عقيمة وإلى هيمنة متزايدة لأفكار وخلافات نشأت في أشد العصور جمودا وتخلفا, وإلى سوء تقدير وفهم للعلاقة بين السياسة والدين وغيرها كثير.

الدوار الزمني

وفي نسق الحركة والموقف من الزمن يعقد نصر حامد أبو زيد في دائرة هذا الدوّار الزمني مقارنات عدة بين نمطين ثقافيين: يتمثل الأول في مجتمعات الإنتاج الثقافي والفكري ومثاله المجتمعات الغربية, ويتمثل الثاني في مجتمعات الاستهلاك التي تعيش بصورة طفيلية على حساب الحضارة ومثاله مجتمعاتنا العربية. ويوضح في هذا السياق أن الإنتاج في الثقافة العربية يميل إلى أن يكون إعادة إنتاج للمنتــوج الأوربي أو للمنتج التراثي. وباختصار فالإنتاج في العالم العربي - المادي والفكري - هو إنتاج في دائرة الاستــــهلاك بشكل عام ولــــيس إنتاجا في دائرة الإبداع. وفي مواجهة هذا التحدي والجـــمود الذي يواجه المجــــتمعات العربيـــة يرى أبو زيد أن بناء الروح الإبداعية المنتجة يعد شرطا تاريخيا للحركة والانتقال إلى عالم العــــطاء والإبداع, وهذا مرهون بقدرتنا على بناء الثـقافة الإنتاجية على خلاف الثـــقافة الاستــــهلاكية التي تخــدر الإنسان بالكسل اللذيذ والمتــــعة العاجـــلة وتقــــتل فيه روح التـــساؤل والتفـــكير والمعاناة وتحوله إلى عنصر سلبي يتلقى عطاء الغير دون عـــطاء منه لهم.

وفي النهاية يمكن القول بأن الحداثة والنهضة لا يمكنهما أن يتما إلا من خلال العمل على بناء روح التجديد وعقل الحضارة. إذ لابد لكل نهضة حقّة من ثورة إبستيمولوجية في العقل, وفي مضامين الذهنية العربية التي يمكنها أن تحرر العقل العربي من قهر الجمود والكسل والتبعية, وهذا مرهون أبدا بالتحرر من الموروث اللاعقلي الذي يضج في جوانب ثقافتنا العربية. وفي حضارتنا وحضارة الآخر دروس تاريخية يمكنها أن تضيء الطريق إلى النهضة والحضارة, فما كان ممكنا للحداثة الغربية أن تحقق ما ينعم به الغرب من حضارة لولا هذا الترابط الحضاري والشامل بين الثورة الصناعية والثورة الثقافية, التي تجلت في التخلص من الموروث الثقافي وقيود الماضي, والتي استطاعت أن تفتح الباب أمام الإبداع والتغيير. ولم يكن ذلك ممكنا كما يقول أحد الكتاب العرب: (لولا الإيمان بقدرة العقل البشري على فك رموز الطبيعة والإنسان والإقرار بنسبية الحقـيقة, وبحق الاخـــتلاف, والاعتقاد, والتعدد الفكري)

 

علي أسعد وطفة