الإبداع.. هل هو هبة فردية?

الإبداع.. هل هو هبة فردية?

الإبداع هو تجدد الحياة وهو فعل اجتماعي له شروطه وليس مجرد هبة فردية. إنه جزء من صناعة الوجود.

يقال إن سر شهرزاد أنها بقصصها جدّدت الحياة مع الأيام. إذ بات المستمع ينتظر في شوق وشغف اليوم الجديد لينعم برؤى حياة جديدة تدخل على نفسه البهجة والمسرة. فلو أن أيام حياتنا الاجتماعية تكرار متطابق, اليوم مثل الأمس ومثل الغد المقبل, لكانت هي حياة الملل والسأم. ولكن جمال وبهجة الحياة في تجددها وتنوعها... في إبداعها من جديد وليس غريباً أن نصف الشيء المتجدد دائما بأنه حيوي, أي نابض بالحياة... نبض الحياة هوالجدّة والتغير... فالحياة هي الفعل المتجدد دائماً, المتنوع أبدا, ولهذا نشتاق إليها... نحبها... هي الجميلة في عيوننا... نصنعها على أعيننا بعقولنا وفكرنا وأيدينا... إنها منا ولنا, ليست غريبة ولسنا مغتربين عنها... بل بيننا وبينها وحدة وجود, وحين نضحي من أجلها نقول نضحي بحياتنا, أي بوجودنا... لأنها الحياة, أو لأنها نحن في وجودنا الاجتماعي النشط المتجدد...

والإبداع هو تجديد الحياة, فيكون اليوم غير الأمس, وليكون الغد ـ المستقبل أكثر جمالا وإمتاعا وإشراقا وصوابا بفضل الفعل الاجتماعي النشط. لهذا تتميز حياة الإنسان عن حياة الحيوان بأنها ليست امتدادا تقليديا, ولا اطرادا عفويا. ولكي تكون حياة المجتمع إنسانية الطابع والطبيعة حقا لا بد وأن تكون متجددة دوما, أي حياة إبداع مطرد.

والمجتمع الذي لا يعرف حياة الإبداع مجتمع عاطل من الخاصية الإنسانية الجوهرية التي تميزه عن الحيوان, وعاطل من فرحة التجديد والبناء والتغيير... أي من صناعة الوجود ومسؤوليته عنه.

وحياة الإنسان ـ المجتمع فعل اجتماعي نشط... تجربة وخطأ... وتجاوز للماضي... منبهات واستجابات وليدة هذه الفعالية وتحمل وعياً تاريخياً هو رصيد المجتمع الثقافي, كما تحمل هدفاً مستقبلياً. إذ إن هذا هو ما يعطي فعل الحياة معنى اجتماعياً أو إنسانياً.

وإذا كان الحيوان يستجيب للمنبهات والمثيرات من حوله استجابة تقليدية مكرورة نصفها بالغريزة, فإن استجابة الإنسان ـ المجتمع ليست كذلك, بل هي تكيّف مع الجديد, أي فعل عقلاني نقدي للتلاؤم مع الجديد, وتجاوز للتقليد, وانطلاق على درب صنع الحياة تأسيساً على قواعد ومنهج متعارف عليهما مرحلياً باسم قواعد المنطق ومنهج البحث العلمي.

والوجود الإنساني الاجتماعي حسب هذا التصور, هو الفعالية التاريخية لهذا النشاط. والإنسان إذ يحكمه نشاط القوانين الموضوعية لوجوده, إلا أنه بفضل ما يملك من وعي وعقل, هما حصاد إنجازاته ونشاطه, يكون في وضع يؤهله لأن يخلق ظروفاً جديدة لنشاط القوانين, بل وإلى تشكيل وجود جديد له قوانينه الجديدة.

إن الفهم أو الوعي القائم على التفكير والتدبّر لا يتم عشوائيا ولا فرديا, بل هو نشاط اجتماعي يجري في إطار ما نسميه التفكير المنهجي العقلاني, أعني تفكيرا وفق قواعد هي قواعد التفكير العلمي في عصرنا الراهن, وإطار فكري صيغ على هدي إنجازات العلوم... ولهذا فإن كل جديد يفضي, من خلال هذا التفكير, وتأسيسا على الفعل الاجتماعي النشط, إلى رؤية اجتماعية جديدة حاكمة لسلوك الإنسان... أعني يفضي إلى إبداع جديد في الفكر وفي الفعل, أي في السلوك الاجتماعي... أي نشاط تجديدي إبداعي...

معنى الإبداع

فالإبداع ليس تخييلاً, أو فكرا فرديا طليقا, بل تفكير تحكمه معايير وقواعد المنطق, وحاجات المجتمع وصولاً إلى الجيد الذي يغدو مصدرا لتحولات هادفة يحققها الإنسان في العالم وفي المجتمع وفي نفسه, في مناخ حر.

ولهذا تتمايز المجتمعات البشرية فيما بينها من زاوية (النشاط التجديدي أو الإبداعي), ومدى شمول هذا النشاط لمجالات الحياة ليصنع حياة جديدة دائمة التجدد والتطور والارتقاء, أي طوراً حضارياً جديداً. ويكون هذا الفعل الاجتماعي الإبداعي معياراً لقدرة المجتمع على العطاء والثقة بالنفس في التفاعل الحر بين المجتمعات. ويكون بذلك تحقيقاً للذات الاجتماعية, أي تحقيقا للهوية, ومن دونه تذوي خصائص ومقومات ومعالم الهوية أو تغيب عن الوعي الاجتماعي ليلتمسها في تهويمات نظرية.

والإبداع بهذا المعنى نفي لإطار تقييدي, وتمرد على نهج تقليدي جفت ينابيعه وبات عاجزاً عن حل وحسم قضايا الواقع الراهن ومشكلاته, وحائلاً دون الحركة إلى المستقبل. إنه تمرد منهجي هادف وصولا إلى نهج جديد في تشخيص وفهم ظواهر الواقع الذي تأزم وجمدت حركته أو فقد خصوبته, فلم يعد يلد جديداً من خلال فكر إنساني أسير التقليد... الإبداع في مختلف مجالات الفكر الاجتماعي والبحث العلمي, إيمان بالتغيير وبالتجديد أبداً, وبقدرة الإنسان, وبإمكان الطرح الصحيح للمشكلات الأساسية, والتماس الحلول الصحيحة من بين قضايا الواقع المتنافر... إنه خروج على النص, وقدرة على التحرر من قيوده, واستجابة موضوعية لحقيقة الواقع.

ولهذا, فإن الإنسان - المجتمع إذ يمثل امتدادا أو اتصالا تاريخيا حضاريا تتخلله انقطاعات معرفية ثقافية, فإنه يحمل رصيده الثقافي معه. ولكنه يفيد به على نحو إبداعي.

أعني بهذا أنه يستعيد تراثه الثقافي على أساس انتقائي بما يدعم ويعزز حركته المستقبلية وفعله الإنتاجي النشط دون معوقات الحركة والفعل. ويضيف إليه إبداعا ثقافيا جديدا يغدو بدوره تراثا لمقبل الأجيال. ولهذا نقول, إنها استعادة إبداعية للتراث الثقافي أو إبداع اجتماعي في الانتقاء بما يخرج به عن التبعية الجامدة وعن عفوية الاطراد والجدب الحياتي... إنه الإبداع لتجديد الحياة حتى تغدو حياة ثرية بالمعاني, خصبة الإنتاج, حبلى بأسباب الارتقاء.

وإذا تأملنا حالنا وقضايانا الاجتماعية المتعددة والمتعثرة (قضايا التقدم والمرأة وحقوق الإنسان والبحث العلمي والتعليم والحريات... إلخ), تبين لنا أن المشكلة الجوهرية هي التماس الإبداعي... أو التغيير الإبداعي, وتوافر أسبابه وشروطه... أن نبني حياتنا ونصنع وجودنا بأيدينا على نحو إبداعي وفي تفاعل حر مع الآخرين وعلى مستوى حضارة العصر, وهي حضارة كثيفة الفعل الإبداعي... بناء مجتمع مفعم بزخم النشاط التجديدي... فإن عصور الازدهار والحضارة هي تلك التي يبلغ فيها هذا الزخم ذروته.

لقد بات هذا النشاط ضرورة من أجل النهضة والمساهمة الفاعلة في بناء مجتمع على مستوى حضارة العصر, شريطة أن يشمل التغيير الإبداعي جميع مجالات وعناصر حياتنا وعلاقاتنا الاجتماعية والعلمية والفكرية والثقافية... إننا نشهد في عصرنا الراهن انفجاراً واسع النطاق وعميق المدى في النشاط الإبداعي. وأضحى بقاء المجتمعات ووجودها, أي حياتنا, رهن النجاح أو الفشل في المنافسة العالمية في مجال الإبداع, والإبداع العلمي والتقني تحديداً, الذي يتجسد فكراً وثقافة وسلوكاً وعلاقات اجتماعية, ويتجلى واضحاً في صورة إيمان بجلال الإنسان العام على اختلاف الجنس واللون والأعمار.

والإبداع نشاط اجتماعي ذهني وعملي غير مقصور على جنس دون آخر, ذكرا أم أنثى, أبيض أم أسود أم أصفر... إلخ, ولكنه رهن بطبيعة ثقافة المجتمع والإطار المؤسسي للمجتمع الذي هو جزء من الثقافة التقليدية التي تحدد نهج التنشئة وقيم التعليم ومصارف طاقة الإنسان ونطاقها. والإبداع حصاد هذا كله, وقوة مؤثرة فيه, وأداة لتغييره في آن واحد.

وللإبداع شروط

ويدور اليوم صراع تنافسي بين المجتمعات المتقدمة بشأن تنمية القدرات الإبداعية والإكثار من عدد المبدعين. ذلك لأن القدرة الإبداعية تزدهر وتنمو بفضل ظروف ومقومات وشروط اجتماعية, وليست كما هو شائع هبة فطرية مائة في المائة, وتزداد حاجة المجتمعات إلى المبدعين مع طبيعة التطور الحضاري الراهن, ودخول عصر تفجر المعلومات والمجتمع المعلوماتي. وأضحت الابتكارات هي أوراق اعتماد عضوية المجتمع ضمن نادي حضارة عصر المعلوماتية. ويتميز الفكر الاجتماعي هنا بازدهار القدرات الابتكارية لدى الأفراد, وسيادة التفكير العلمي, وتوافر مساحة للحوار والسجال على أساس منهجي ومنظومي, وأن يكون التفكير هنا جميعاً, أي تفكير فريق يتجاوز النزوع الفردي والانعزالية الأحادية. ونرى الفكر الاجتماعي هنا فكراً استشرافياً متطلعاً إلى المستقبل في تطوير أو تغيير جذري مطرد.

ويجري هذا السباق الجمعي على أساس من المعرفة... إنتاجاً إبداعياً وتوظيفاً خلاقاً. ولا ريب في أن إشاعة المعرفة في شفافية, وإتاحة المعلومات في مناخ من الفعالية والحرية يزيد من حيوية المجتمع وقدرته على الحركة, ويضاعفان من مناعته ضد الاختراق وضد الاستبداد والتحلل.

ويشيع الآن في المجتمعات المعلوماتية أن المعرفة قوة وقيمة متزايدة, ويوصف العاملون في مجال المعلوماتية بأنهم عمال معرفة. كما راج الحديث عن فائض قيمة المعرفة كإنتاج اجتماعي رئيسي... وأن أكثر المجتمعات ثراء ومنعة وقوة هي أكثرها وأسرعها إبداعاً للمعلومات وتوظيفاً للمعرفة في بناء الحياة.

وجدير بالذكر هنا أن تطوير القدرات الإبداعية لدى المرء منذ الطفولة لا ينفصل عن العملية الشاملة للتنشئة الثقافية الاجتماعية والتنشئة التعليمية على جميع المستويات, ولا عن مناخ العلاقات والأوضاع السياسية والاجتماعية, وإن كانت السنوات الأولى من العمر تشكل قاعدة وأساساً. ولهذا يشير الأخصائيون إلى عدد من التوصيات لتطوير القدرات الإبداعية في الطفولة وقبل سني الدراسة, وكذا في المراحل التعليمية التالية. ولا يخفي طبعا ضرورة التوافق والاتساق بينها وبين ظروف ومناخ الحياة الاجتماعية خارج البيت والمدرسة, وأعني الحياة السياسية والظروف والعلاقات الاقتصادية... والثقافية والاجتماعية التي تحدد موقف ومكانة المرء وحريته ومنهجه في الفعل الاجتماعي وفي العلاقات بين الجنسين أو بين الأعمار المختلفة.

من الطفولة نبدأ

وتهدف التوصيات إلى أمور كثيرة من بينها:

ـ تنمية الفضول المعرفي والفكري لدى الأطفال, والشغف بالمعارف الجديدة وبمغامرات استكشاف المجهول كأساس لتنمية النزوع إلى البحث, وتنمية الإثارة والدهشة إزاء الظواهر في محاولة منهجية عقلانية لكشف الأسباب وفرحة الوصول إلى حل أو جواب أو كشف للمجهول, دون الاكتفاء بإجابات مبتسرة خارج الظاهرة تقطع السبيل دون ذلك كله. إن المعارف والعلوم لا يحتويها نص سابق, بل هي مغامرة متجددة وجهد بحثي لا ينتهي, واكتشاف بغير حدود.

ـ تنمية الفكر الاحتمالي, والابتعاد عن العقائدية الجامدة, وعن التعصب, وعن الأحكام الحتمية القاطعة التي تسد السبيل أمام أي محاولات جديدة للبحث والتغيير, ذلك لأن ظواهر الواقع متجددة متغيرة أبداً.

ـ تنمية قدرة الطفل على المبادأة والمبادرة والنظرة النقدية للواقع وللفكر دون محظورات اجتماعية, والاستماع في تواضع ونهم معرفي لجهود الآخرين في البحث المعرفي وأن الحقيقة ليست احتكاراً لأحد, وليست ناجزة مطلقة, بل الواقع الحياتي متجدد متغير وكذلك فكر الإنسان ـ المجتمع.

ـ الابتعاد عن النمطية والقوالب الجامدة, إذ إن هذا هو جوهر الحافز إلى الإبداع والتجديد. بينما النمطية هي جوهر التسلط الفكري والقهر العقائدي, وهما خصمان للقدرات الإبداعية. وليس غريباً أن يشيع في المجتمعات التي يسودها فكر نمطي وعقائد جامدة إيمان بأن الطاعة فضيلة بمعنى التبعية وعدم الخروج عن النمط المألوف دون سؤال أو تساؤل. والخروج عن النمطية يستلزم غرس فضيلة الشجاعة مع الحق, والإقدام مع الاستقلال, والصدق في نفس المرء منذ الطفولة, وأن يكون أولياء أمره في البيت وفي المدرسة والمجتمع قدوة له.

ومن بدهيات الأمور أن الآباء والمعلمين وسلطة المجتمع حين يطالبون المرء طفلاً ثم يافعاً وبالغاً بالطاعة الصارمة, والتبعية الكاملة أو العقاب الرادع, إنما يخلقون لديه استعداداً سلبياً إزاء فضيلة الإقدام على أي سلوك جديد أو التعبير عن أي فكرة متمايزة أو البحث لكشف الحقيقة. ويحتمي مثل هذا المرء بالنفاق أو البلادة العقلية التماساً للنجاة والبقاء. وحري أن يشيع في المجتمع أن الفضيلة الكبرى هي التعبير الحر المستقل, وأن هذه هي الأصالة, وليست الأصالة اتباعية عاطفية جوفاء, إنما الأصالة جرأة في الصدق مع النفس والتزام بقواعد ومنهج البحث.

ولا ريب أن الإنسان ـ المجتمع المبدع غني بفكره وعمله, عزيز بإيمانه بذاتيته التي يحققها ويجددها بإبداعه. ويتميز مثل هذا الإنسان ـ المجتمع بالعطاء الحضاري, ولا يخشى التفاعل مع الآخرين, بل يأخذ ويعطي عن وعي عقلاني ناضج, وإذا به عامل إثراء لنفسه وللإنسانية.

وإذا فهمنا الإبداع على هذا النحو, وأنه هو قضية العصر وأساس النهضــــة ورهان الســبق, عرفنا أنه لا بد وأن نكون أقوى من أنفسنا ومن قيود الموروث والتقليد, وأن نهيئ الأسس والعلاقات الاجتماعية اللازمة لانطلاق النهضة وبناء إنسان عربي جديد, وأن يمتد التغيير الجذري المنشود إلى جميع جوانب الحياة.

إن معوقات الإبداع هي في الأساس معوقات اجتماعية, وعلينا أن نسأل لماذا خلت مجتمعاتنا العربية من مبدعين على مستوى حضارة العصر? وما العوائق الاجتماعية الموروثة والناشئة إذا أردنا أن نمهد السبيل لنهضة اجتماعية تدخل بنا إلى حضارة عصر الصناعة والمعلوماتية. فهذه هي سبيلنا الأصيلة لاستعادة وتأكيد الذاتية القومية التي بحثنا عنها قروناً في سجلات وتهويمات نظرية, وضاعت القرون عبثاً مع غياب الفعل والفكر الاجتماعيين الحضاريين

 

شوقي جلال