معرض غنائم الحرب بالكويت زكريا عبدالجواد تصوير: فهد الكوح

شاهد عيان
على مغامرة الديكتاتور الفاشلة

.. كان يوم السابع والعشرين من فبراير 1991 هو المتمم لآخر فصول معركة "عاصفة الصحراء ".. وبعده لم يبق على أرض الكويت إلا آثار الدمار بعد اندحار فلول الاجتياح الغاشم.

وما بين اليوم الأولى لفاجعة الغزو الآثم، وهذا اليوم الأخير ظلت المأساة تقدم الإدانة بصوت زاعق وصور شاخصة لأشد الجرائم بشاعة وخسة، حيث قدم حاكم عربي- في القرن العشرين- مصير بلاده وأجيالها في طبق من دم على مائدة مقامرة المجهول المرعب.

... آلاف المليارات من دولارات صنعت من دم وعرق وكد شعب وهبه. الخالق سبحانه وتعالى، خيرات طبيعية بلا حدود، وثروات ناتجة عن أرض شديدة الخصوبة، وأنهارا يجري ماؤها بالخير، ومنابع نفط ومعادن، وعقولا صقلتها حضارات قديمة عريقة.

.. جاء الطاغية، فهربت العقول اليانعة فى بلاد الدنيا تقدم خبراتها بعد أن ضاقت جدران السجن الكبير بها ، مفسحة المجال فقط لجنرالات الدم من رفقاء الديكتاتور؟ وزبانية الشر؟ المطأطئين رءوسهم دائما باستحسان كل همزاته وأوهامه المريضة تلك. التي لا ترى سوى الشر توجها.

وفي الوقت الذي اختفت- فيه العقول المستنيرة، واختارت الرحيل، بدأت أكبر عملية استنزاف في التاريخ الحديث لمورد دولة عربية يفترض امتلاكها لخمس الاحتياطي العالمي من النفط، فتحولت الخيرات العديدة على يد جنرالات الكوارث وطاغيتهم الكبير إلى بناء الوهم، لتصب في خزائن مصانع السلاح. وبدلا من بناء المدارس والجامعات والانطلاق نحو بناء مشروع حضاري، انطلق صدام حسين في تحويل الثروة العراقية إلى دبابات وطائرات وأسلحة صاروخية تبخر معظمها في خمسة أسابيع من القصف الجوي المدمر وأربعة أيام من الهجوم البري لقوات التحالف. الآلاف من القطع الحربية، تركها الطاغية بالكويت، وفر محورا، يلملم جراحاته وبقايا ترهاته البغيضة، بعد أن تلقى الدرس الصاعق الذي لا تزال أرض الكويت تتذكره وتستعيد ساعاته.

ثروات مبددة

.. وفي أرض المعارض بمدينة الكويت، تقف آلاف الدبابات والمدافع والعربات المصفحة لتقدم الدليل الواضح على اندحار طاغية، وأفول مشروع دموي أرادة ديكتاتور بغداد، فجنى شعبه منه المآسي والجراح.

... حين يدخل المرء إلى ساحة المعارض الدولية بمنطقة (مشرف)، (تلك المنطقة التي ظلت تستقبل طيلة السنوات الماضية، معارض مهمة للكتاب العربي والدولي، وكتب ووسائل تعليم الأطفال، ومعارض أخرى عن العطور والسيارات والأجهزة الإلكترونية وصناعات العرب وصادرتهم وأزيائهم) حين يدلف المرء هذه المرة إلى المنطقة يفاجئه ذلك الحشد الهائل للمعدات العسكرية ذات اللون الأصفر القاتم، والتي تأخذ شكل حزام يلف أرض المعارض الشاسعة بإعداد هائلة من أدوات الغزو البائس تتناثر حواليها الصفرة، وتتوزع فوق الكتل الحديدية بها بقع مخضرة ذات أشكال ملتوية.

لا يصدق المرء حين يرى كل تلك القطع الضخمة في اصطفافها ودورانها الثعباني، أن بلدا صغيرا آمنا ومسالما كالكويت، كان يحتاج من الطاغية لكل هذا الحشد حتى يحتله. ولا يصدق المرء - بين الكوابيس التي لا تصدق - أن عمى القلب يمكن أن يصل بحاكم عربي مهما اشتط جنونه، ليوجه إمكانات حربية كتلك للهجوم على الشقيق، وسلب وقتل وانتهاك حرمات عربية وإسلامية متوارثة، بينما عدونا في المشترك- كلنا- هناك يطل بنواياه البقعة. ضد مستقبلنا - كلنا- ويتحين فرصة محونا.. وإبادة بقايانا. في أرض المعارض، تلك البقعة الشاسعة المساحة، يلتف حول صالات المعرض المستطيلة ما يزيد على ألف وأربعمائة قطعة تتراوح بين السلاح الثقيل والفردي، إضافة إلى العربات العسكرية التي تدور مكملة ذلك الطابور الأصفر الطويل الذي يضمه معرض غنائم الحرب، ذلك الذي افتتحه ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء الكويتي الشيخ سعد العبدالله السالم الصباح في 27 فبراير 1992. هذه المعدات التي تأخذ تلك المساحة الكبيرة، هي جزء من أجزاء أخرى تضمها الأراضيى الكويتية، وتركت في نفس المكان الذي دارت فيه المعارك، أو تلك التي نالها من القصف الجوي ما جعلها حطاما لا يصلح سحبه للعرض.

خسائر في كل شيء

.. وهذه الآلات الحربية الثقيلة المتناثرة فوق أراضي الكويت وصحراواتها هي بعض من خسائر هائلة نالها الغزو الصدامي وتنوعت بين الدبابات والعربات مدرعة وقطع المدفعية والراجمات ومنصات إطلاق المدرعة وقطع المدفعية والراجمات ومنصات إطلاق الصواريخ أرض/ أرض، وأرض/ جو.

إلى جانب الطائرات الحربية والقطع البحرية والعربات العسكرية التي تشكل بمجموعها أرقاما مقيمة ببلايين الدولارات. هذه الأرقام الخاصة بخسائر أدوات الحرب، لا تمثل شيئا يمكن مقارنته بخسائر النفوس، إن كانت للنفوس أهمية تذكر لدى أنظمة ديكتاتورية كنظام طاغية بغداد الذي قاد المنطقة في أقل من عشر سنوات إلى مغامرتين مدمرتين، عانى شعبه فيهما أهوالا مروعة ومأساوية لا يكد ينتهي من عذابات الأولى تلك التي استمرت من الثاني والعشرين من سبتمبر 1980 إلى الثامن من شهر أغسطس 1988، حتى افتعل مقدمات الأزمة الأخرى، لينطلق بعدها إلى المحرقة التى سعى لإشعالها فاكتوى بنيرانها.

.. أرقام مذهلة، وخسائر مفجعة لكن عرضها هنا - رغم ما يسببه من مرارة- يصلح ليبين كم تكون تكلفة الديكتاتورية أينما حلت، باهظة الثمن مريرة الحصاد.

مقارنة محزنة

.. كان الجيش العراقي واحدا من أقوى الجيوش بالشرق الأوسط، وكانت موارد العراق الهائلة مسخرة لبناء ترسانة ضخمة من الأسلحة وجيش أكثر عددا وعدة مما تمتلكه الدول الأخرى، ورغم الخسائر الكبيرة التي تحققت في حرب استمرت ثماني سنوات مع "إيران" ووصلت إلى أرقام قياسية سواء في البشر والعتاد (أو الموارد، إذ تحولت دولة العراق- التي وصل احتياطي النقد الأجنبي فيها قبل بدء الحرب المأساوية مع إيران (35) مليار دولار أمريكي والتي كانت؟ تصدرا نفطا قيمته 28 مليار دولار سنويا- إلى- دولة مدينة، بعد أن تم استنزاف هذا الرقم الكبير من الموارد في أقل من 36 شهرا على بدء المعارك.

وفي الوقت الذي اقتصرت فيه خيرات البلاد على دعم آلة الحرب الجهنمية، وصل حجم الإنفاق العسكري في الفترة من 1981 إلى 1988 حتى انتهاء الحرب وقبول إيران بقرار وقف إطلاق النار إلى ما يزيد على (80) مليار دولار أنفقت جميعها على شراء أسلحة من الأسواق الخارجية.

تبديد متعمد لخيرات بلد كان يمكن أن يتحول مستقبله إلى الأفضل فيما لو تم توجيه كل هذه والموارد نحو تنمية مخططة تستهدف بناء مشروع حضاري إنساني يساهم في إسعاد أبناء الشعب العراقي ويشارك في إثراء الجهد البشري نحو بناء عالم أفضل، لكنها الديكتاتورية بكل ما تحمله من ونوايا شريرة وأهداف دموية شديدة البشاعة، لا تهتم كثير برفاهة أبناء- شعوبها قدر اهتمامها بالسير وراء شهوة تحقيق الأوهام، فعند حلول مساء يوم وقف إطلاق النار بين إيران والعراق كان حجم مديونية بغداد قد وصل ما بين (70) إلى (80) مليار دولار أمريكي تستحق معظمها للمملكة العربية السعودية ودولة الكويت، فيما بلغ الدين العسكري لفرنسا ستة مليارات دولار، ولإيطاليا (2,4) مليار دولار، ولألمانيا الغربية (1,8) مليار دولار.

وبلغة الأرقام فإن مغامرة صدام حسين الأولى ضد إيران قد كلفت بلاده حتى حلول اليوم الثامن من أغسطس 1988 ما يزيد. على (452,6) مليار دولار فيما كلفت تلك المغامرة إيران (644,23) مليار دولار أمريكي وبلغ إجمالي تكلفة تلك المغامرة للبلدين معا ما مجموعه (1097) مليار دولار وهو رقم يوازي إجمالي إيرادات تصدير النفط العراقي والإيراني خلال الفترة الممتدة من عام 1938 إلى عام 1988

هواية لعينة

وعلى الرغم من، ضخامة الأرقام، وهول التدمير الذي لحق بمنشآت حيوية ومكامن نفط. وصناعة وزراعة، وهي أرقام لم يتم احتسابها ضمن... خسائر المغامرة الأولى، ورغم فزع ما تمنحه الأرقام "المستنزفة من موارد البلاد من مؤشرات على مدى سفه القيادة حين تندفع لتورد مصائر شعوب ابتليت بها إلى موارد التهلكة، فإنا مغامرا كصدام لم يكتف بكل تلك الخسائر بل انطلق ليمارس هوايته الملعونة في إحراق ما تبقى من بلاده، وإدخال المنطقة كلها في دوامة جديدة لا أحد يعرف متى يمكن الخروج من تداعياتها.

... فبعد سنتين منقوصتين بستة أيام فقط من مقبول إيران بقرار وقف إطلاق النار، اندفع الطاغية- لافتعال أزمة مع الجار الآخر، فاحتشدت في بادئ الأمر قوات بلغت أعدادها بين (120) إلى (175) ألف جندى مزودة بالآليات والمدافع والراجمات والدبابات على حدود دولة الكويت، قبل أن تنطلق وتتزايد وتمارس احتلالا هو بأي والمقاييس، أبشع ما شهدته بالمنطقة طيلة تاريخا الحديث.

وكانت تلك المغامرة التي بدأت في فجر الثاني من أغسطس 1990 واستمرت طيلة سبعة أشهر، تعددت خلالها محاولات مكثفة من أطراف عربية ودولية عديدة لتجنيب المنطقة كوارث سوف تنجم عن المواجهة العسكرية إن حدثت، كانت تلك المغامرة محنة حقيقية في بداياتها، وانتهت إلى مأساة عربية بكل الأبعاد.

تدمير البنية الأساسية

إلى جانب ذلك فقد أدت هذه المغامرة سيئة السمعة، والعناد الأحمق من جانب قيادة الحرب الصدامية إلى تدمير ما مجموعه (6) لواءات مدرعة عراقية، علاوة على ما يزيد على عشر بطاريات مدفعية ميدانية، وتدمير معظم مخازن ذخيرة القوات البرية العراقية الموجودة في العمق، ومختلف أهداف البنية الأساسية لتلك القوات من مخازن. يقطع الغيار وورش الإصلاح والمصانع الحربية وكتائب النقل. في الوقت نفسه نال التدمير جميع عناصر القوة البحرية الهجومية العراقية والتي تتمثل في السفن المسلحة بالصواريخ، وتم تدمير جميع زوارق الدوريات السريعة، إضافة إلى (6) كاسحات ألغام، وتدمير جميع القواعد البحرية في الفاو وأم قصر، وتفجير معظم الألغام التي زرعتها قوات صدام في مياه الخليج. كما تم أيضا خلال الغازات الجوية تدمير جميع أسلحة ومعدات وعناصر الدفاع الجوي لقوات الطاغية، حيث لحق الدمار ببطاريات صواريخ الدفاع الجوي من طراز (سام) وراداراتها سواء تلك الخاصة بالإنذار الجوي أو إدارة النيران.

وأدت الغارات الجوية أيضا إلى إلحاق دمار شامل بحوالي (42) جسرا في العراق، إلى جانب تدمير (50) في المائة من القدرة الراقية على تكرير البترول، وحوالي (50) في المائة من محطات توليد الكهرباء ووسائل الاتصال.

خسائر هائلة

كانت الخسائر البشرية مفجعة، " وكانت التكلفة المادية باهظة إذ تبلغ مبدئيا (438) بليون دولار، حسرتها العراق، وهي ما سوف تحتاج لجهود هائلة على مدى أجيال عديدة لتعويضها.

فيما كانت خسائر الكويت تزيد على (240) بليون دولار نتيجة احتراق آبار النفط، وكانت خسائر المملكة العربية السعودية تبلغ (64) بليون دولار، والإمارات (4,5) بليون دولار، ومصر (3,5) بليون دولار، والأردن (3) بلايين دولار، واليمن (1,5) بليون دولار والمغرب بليون دولار، وباقى الدول العربية الأخرى بلغت وخسائرها بليوني دولار.

هكذا تكون الكوارث التي يجلبها الطغاة أينما حلوا، على من توقعهم المصادفة تحت نيران حكمهم أو قرب شراراتها المدمرة.

وهكذا تجني المنطقة من أمثال هذا الديكتاتور الذي رهن مقدرات أجيال العراق ومستقبل شعبها لمجهول كارثي، ودمر كل مكتسبات حضارة امتدت زمنا وأضاءت الدنيا، بلحظة من لحظات نزواته الآثمة.

إن أرض المعارض في منطقة مشرف بالكويت، تظل شاهدا صارخا، على مدى الحماقة التي أقدم عليها الطاغية وظل بعدها يعاقر أوهامه، ويتحدث عن انتصارات لا تستطيع إقناع حتى بعوضة، فيما تقف آلاف القطع الثقيلة والخفيفة من دبابات وراجمات صواريخ ومدافع ولنشات بحرية وعربات عسكرية التي تزدان بها أرض معرض غنائم الحرب، كشاهد لا يكذب على مدى الحماقة التي ارتكبها الطاغية ومدى الجرم.. إن ما حدث ليس مجرد درس نأخذ منه عبرة فقط، إنه زلزال أضخم مما يمكن أن تحدثه الطبيعة، فحجم الرعب فيه أكبر وأكثر. تأثيرا على مستقبل أجيال، وهو على هوله إن لم يفلح في جعلنا نطارد البذور الأولى للطغاة منعا لكوارثهم فيما بعد، فإننا نكون- قد أضعنا فرصة التعلم من درس صعب.