الأهـوانـي ومـشـكـلـة الـعـقـم والابـتـكـار

الأهـوانـي ومـشـكـلـة الـعـقـم والابـتـكـار

نرحل من جديد إلى عالم عبدالعزيز الأهواني ونظرته إلى شعر القدماء ومحاولة اكتشاف جذور العقم في التراث الرسمي ومظاهر الابتكار في الأدب الشعبي.

أتصور أن اهتمام أستاذي عبدالعزيز الأهواني (1915 - 1980) بقضية الازدواج اللغوي هو الأصل فيما انتهى إليه في القضية المتصلة بتوسيع مفهوم الأدب, وهو التوسيع الذي قاده إلى دراسة العلاقة المتوترة بين التراث الأدبي الرسمي والتراث الشعبي غير الرسمي على امتداد عصور الحضارة العربية. وقد قادته هذه الدراسة إلى توضيح أن ازدياد درجات العقم في التراث الرسمي كان نتيجة تقوقعه على ذاته وانعزاله عن حركة الجماهير العربية العريضة واهتماماتها, جنبا إلى جنب إيغال المتأخر في تقليد المتقدم والتطريز على إنتاجه السابق. وقد أسهمت هذه النتيجة في زيادة عزلة التراث الرسمي عن الجماهير التي تزايد تباعدها عنه, وانصرافها إلى ما تجاوب ووجدانها وهمومها من إبداع شعبي, إبداع أخذ شكل السير الشعبية وشكل الشعر الملحون أو الأزجال التي واكبت غيرها من أشكال هذا الإبداع الذي صاغته الجماهير تعبيرا عن وعيها الجمعي ووجدان أبنائها الفردي على السواء.

وكانت هذه النتيجة بداية تفسير مشكلة العقم والابتكار في الشعر العربي المتأخر على وجه الخصوص, وهو التفسير الذي اتخذ من شعر ابن سناء الملك نموذجا له في أهم كتب الأهواني النقدية في تقديري, أعني كتاب (ابن سناء الملك ومشكلة العقم والابتكار) الذي ظهرت طبعته الأولى في مكتبة الأنجلو المصرية سنة 1962. وكان الأساس النظري لهذا الكتاب ما رآه الأهواني من أن فكرة التقاليد هيمنت على الشعر العربي إلى المدى الذي دفع اللاحق إلى اتّباع السابق, نتيجة أسباب اجتماعية وفنية, أدّت إلى تحول الوجه الإيجابي الأول للتقاليد إلى وجه جامد للتقليد الذي سرعان ما انتهى إلى العقم. وإذا كان الأمر كذلك, فمن العبث - فيما رأى الأهواني - أن ندرس الشعر العقيم بمقاييس البحث عن الوجدان الفردي على طريقة نظرية التعبير التي آمن بها الكثيرون, ومنهم عباس محمود العقاد (1889 - 1964) خـصـوصـا فيما كتبه عن (ابن الرومي) أو (أبي نواس), أو نرى هذا الشعر بوصفه صورة عصره على طريقة هيبوليت تين (1828 - 1893) صاحب ثلاثية الزمان والمكان والبيئة, وهي الثلاثية التي قادت إلى الاهتمام بدراسة عصر الكاتب.

وكان الأهواني على النقيض من ذلك, يرى أن الكثير من الشعر القديم, في عصوره المتأخرة بوجه خاص, لم يكن صورة أو صورا لشخصيات أصحابه, ولم يكن صورة أو صورا لعصره أو عصوره, وإنما كان صورة أو صورا لجهد الصنعة الذي يبذله الشاعر المتأخر في الإفادة من القدماء بما يجعله يتفوق عليهم, وذلك في مدى فهمه للابتكار الذي لم يكن سوى عقم خالص. والمدخل السليم لدراسة مثل هذا النوع من الشعر - في نظر الأهواني - هو البدء من مفهوم أصحابه للشعر من ناحية, والابتكار فيه من ناحية مقابلة, والبحث عن الكيفية التي حققوا بها هذا الابتكار نتيجة مفهومهم الخاص بالشعر. ويقتضي ذلك إرجاع عناصر هذا الشعر إلى أصولها القديمة, للكشف عن الطرائق التي تكوّنت بها قصائد هذا الشعر في ذهن الشاعر الصانع الذي قصد إلى الابتكار فانتهى إلى العقم.

البديع والمعاني

وجاء التطبيق العملي لنهج الأهواني في دراسة الأدب العربي الذي يغلب عليه التقليد في المنهج الذي اتبعه في دراسة الشاعر المصري القاضي السعيد ابن سـنـاء الـمـلـك الذي عاش في العصر الأيوبي, ومدح صلاح الدين, ونسبه المؤرخون إلى مدرسة البديع التي عدّوا القاضي الفاضل زعيما لها, وجعلوا من تلاميذها ابن سناء الملك وابن النبيه وعمر بن الفارض وابن نباتة وغيرهم, وذلك مقابل مدرسة المعاني التي عدوا البهاء زهير زعيما لها مع صديقه جمال الدين بن مطروح, وجعلوا من تلاميذها أبا الحسين الجزار والسرّاج الورّاق ونصير الدين الحمامي. وقد حاول بعض المحدثين تحديد العلاقة بين الفريقين على أنها علاقة تضاد بين مدرسة التصنع, بمصطلحات شوقي ضيف في كتابه عن (الفن ومذاهبه في الشعر العربي), ومدرسة (الطبع) أو بقاياه التي لم تخل من آثار التصنع. وحاول البعض الآخر - وعلى رأسهم أمين الخولي وأتباعه من أنصار النظرية الإقليمية - إدراك علاقة التضاد السابقة على أنها أثر من آثار البيئة, خصوصا عندما رأى الخولي وتلاميذه (وأبرزهم عبداللطيف حمزة في هذا المجال) أن مدرسة البهاء زهير وابن مطروح ومن لفّ لفهما كانت الأقرب إلى الطبيعة المصرية بمساحاتها وبساطتها وانبساطها.

ولم يكن الأهواني مؤمنا بذلك كله بحكم تجربته الخاصة في مقاربة الشعراء المتأخرين.

لقد بدا مؤمنا بما آمن به أساتذته من أن الشعر تعبير عن وجدان صاحبه وأن الأسلوب هو الرجل نفسه, ومن ثم فإن شعر الشاعر مرآة لعصره ما ظل مرآة لصاحبه. وقد رأى الأهواني ما أثمره هذا الإيمان من نتائج إيجابية في دراسة الشعراء القدماء الكبار من أمثال امرئ القيس وأبي نواس والمتنبي وغيرهم. ولكنه رأى أن هذه النتائج لم تتحقق في حالة دراسة الشعراء المتأخرين, أو الذين أسرفوا في التقاليد إلى الحد الذي نفى عن شخصياتهم إمكانات الحضور في شعرهم. ويؤكد الأهواني في مقدمة كتابه أن الشعراء المتأخرين, وبخاصة شعراء القرن السادس الهجري الذين ينتسب إليهم ابن سناء الملك, لن يكون للدراسة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية, بل لن تكون لدراسة الأسرة, أثر كبير في فهم أشعارهم, أو اكتشاف ما يتضمنه هذا الشعر من أفكار وأساليب. والسبب في ذلك أن هؤلاء الشعراء كانوا يفصلون ما بين شعرهم وحياتهم العامة والخاصة, و(لقد عاشوا في دواوين الشعر العربي القديم أكثر مما عاشوا في بيئاتهم المعاصرة, وكان همهم الأول أن يجيدوا في منظوماتهم إجادة تتفق وفهم أصحاب الدراسات البلاغية لهذه الإجادة. ولم يكن يعنيهم بعد ذلك أن يكون الشعر صادقا أو غير صادق في تصوير واقعهم الحي. لقد عاش أولئك الشعراء منعزلين في شعرهم عن جماهير الشعب, وعاشوا منعزلين عن ذات نفوسهم).

جهد يؤدي للعقم

ويقول الأهواني إنه شعر بذلك شعورا قويا وهو يقوم بدرس ديوان ابن سناء الملك وموشحاته, متأملا الجهد العنيف الذي بذله الشاعر في نظم قصائده وفي محاولة البلوغ بها إلى ما لم يبلغه أقرانه من الشعراء, فرأى كيف انتهى به هذا الجهد إلى العقم, وكيف أن ما حرص عليه الشاعر أشد الحرص من الابتكار والاختراع كان انحرافا في فهم الشعر وخطأ في إدراك مهمة الشاعر.ويضيف الأهواني إلى ذلك أن شعراء عصر ابن سناء الملك كانوا يتورطون جميعا في هذا الخطأ والانحراف. وإن كانوا أقل منه درجة أو درجات في ذلك, بحيث يمكن وصف العصر كله بالعقم والانحراف, فكل واحد من هؤلاء الشعراء وضع مثله الشعري في عصر سابق عليه, وأفرغ جهده الأكبر في استعادة الماضي, وسعى إلى منافسة هذا الماضي والتفوق عليه بالتطريز على ما سبق إليه السابقون, والإسراف فيما لم يسرفوا, فاستحال شعر العصر كله إلى صنعة خالصة, واستحالت الصنعة إلى جهد عقلي يخلو من الوجدان الذي هو رحم الشعر ومنبعه, فكانت النتيجة: العقم.

وسبب العقم في تلك الحالة هو ما اعتقده أمثال ابن سناء الملك من أن الشعر جهد عقلي يصدر عن التفكير الواعي المنظم, ويقوم على نوع من الحجاج المنطقي والتوليد الذهني, وما يجرّه هذا كله من تفنن في المعاني, وتلاعب بالألفاظ في فعل منافسة القدماء. ويكشف الأهواني عن ذلك كله تفصيلا في دراسته شعر ابن سناء الملك وموشـــحاته بوصفهما نموذجا لشعر العصر, موضحا الحركة الذهنية للشاعر في منظوماته, والاتجاهات التي سار فيها, راصدا في دقة تطور المعاني عنده, وكيفــــــية تأليف صوره الذهنية, وكيفية انتقاله من فكرة إلى فكرة, كاشفا عن أثر التداعيات اللفظـــــية في هذا الانتقال.

وكانت أدوات الأهواني في هذا النوع من الدرس متصلة بما كتبه القدماء وكشفوا عنه من السرقات, لكن بعد تحويل ما كتبوه إلى عمليات إجرائية حديثة. وأفاد الأهواني كذلك من كتابات البلاغيين القدماء, خصوصا ما توصلوا إليه في علم البديع الذي كان أداة من أدوات الأهواني في الكشف عن أسرار الصنعة العقلية. وقد قال أحد البلاغيين القدماء إن شعر الشاعر الصانع أشبه بسبيكة, تركبت من أخلاط متعددة من أشعار السابقين عليه. وكان هذا القول البداية التي انطلق منها الأهواني في محاولة الكشف عن الأخلاط المتعددة التي تركب منها شعر أمثال ابن سناء الملك. وذلك في موازاة الكيفية التي تركبت منها هذه الأخلاط أو أعيد تركيبها في نظم يكشف عن تصوّر الشاعر للابتكار حسب مقاييس عصره.

اختراع المعنى الجديد

وكانت نقطة انطلاق الأهواني - في منهجه - هي معرفة موقف الشاعر من الشعر, وفهمه للغاية منه, فذلك أول ما ينبغي أن يعنى به الباحث ليكون حكمه على الشاعر متفقا مع الهدف الذي توخّاه ذلك الشاعر. وعلى ضوء المثل الأعلى الذي كان يطمع الشاعر إلى بلوغه يكون تقييم جهده, ويكون الفصل في مدى تفوّقه وإخفاقه. وقد استجوب الأهواني ابن سناء الملك, نصوصا بالطبع, فكان الجواب دائما هو اختراع المعنى الجديد. والإتيان بما هو مبتكر لم يسبق إليه. وقد بذل ابن سناء الملك في ذلك من الجهد ما لم يبذله شاعر عربي من قبله ولا من بعده فيما يقول الأهواني. ولكن اختراع المعنى الجديد لم يكن خلقا من عدم, ولا استجابة إلى ما يفرضه الوجدان الفردي, وإنما كان إعادة تركيب لكل ما سبق في شعر السابقين, والإضافة إليهم من جنس فعلهم. ولذلك كان الابتكار في واقع الأمر مرادفا للعقم في نظر الأهواني, فالسعي وراء منافسة القدماء باعد ما بين الشاعر نفسه وواقعه الحي, وكلاهما أصل الإبداع والابتكار, فانتهى به الأمر إلى العقم.

ويعني هذا أن الأهواني يكشف عن مفارقة دالة في اختلاف المبررات ما بين عصرنا وشعراء العصور المتأخرة, فنحن نقرن بين الشعر والموقف الفردي لصاحبه, خصوصا في عمق صلة هذا الموقف بالواقع الحي, وتولده منه وفي موازاته, على سبيل الاحتفاء, أو حتى النقض, وكلما كان الشاعر أكثر إخلاصا لنفسه في علاقته بواقعه وزمنه كان أكثر ابتكارا من غيره وأبعد عن العقم, وأبعد - في الوقت نفسه - عن تقليد السابقين أو منافستهم. وعلى النقيض من ذلك, موقف أمثال ابن سناء الملك الذين عاشوا في دواوين القدماء أكثر مما عاشوا تجاربهم الخاصة في عصرهم, وتوهّموا الابتكار تفوقا على القدماء في الدائرة نفسها من التقليد, ورأوا أنه كلما كان الشاعر أكثر إضافة إلى ما سبقه به القدماء كان أكثر ابتكارا وأبعد عن العقم.

الشعر والحسّ الصادق

لكن هل يعني ذلك أن شعر هؤلاء الشعراء يخلو تماما من الإشارة إلى أحداث حياتهم أو أحداث عصرهم? بالطبع لا, فهناك إشارات لأحداث العصر في شعر هؤلاء الشعراء, خاصة ما اتصل منها بأعمال الملوك والأمراء وحروبهم. ولكن هذه الإشارات لا تعتبر كبيرة القيمة من الناحية الشعرية, مهما أطال الشاعر فيها وأسرف, فيما يؤكد الأهواني. والسبب في ذلك أن هذه الأحداث لم تكن وراءها ثروة عاطفية حقة, قادرة على أن تنقل إلينا إحساسا صادقا عند الشاعر في صورة رائعة تؤثر فينا, وتوحي إلينا وتجعلنا نعيش تلك الأحداث, فالشعر ليس ذكرا للحوادث, ووصفا للوقائع الخارجية, حتى تكون مهمة الباحث مقصورة على تصنيف تلك الحوادث وترتيبها حسبما وردت في شعر الشاعر. إن مهمة الشاعر في الحياة أخطر من تسجيل وقائعها. فذلك عمل المؤرخ أو كاتب الحوليات, أما الشاعر فلا تعنيه الأحداث الخارجية إلا من حيث صداها العميق في نفسه وانفعاله بها, خصوصا حين يلتقط بحسّه وحدسه ما استقر في أعماق الجماعة التي يعيش معها من مشاعر خفية غامضة, يبرزها أمامهم مجسّمة في صورة تروعهم وتشعرهم بأنه ينطق عما في قلوبهم. ولقد كان ذلك بعيد المنال على شعراء تلك العصور الذين مضوا في طريق العقم فيما ينتهي الأهواني, مؤكدا أن دراسة عصور العقم في الفن لا تقل خطرا عن دراسة عصور الازدهار, فلابد أن نعرف علل الضعف وأسباب العقم إذا أردنا لشعرنا العربي أن يكون إبداعا خصبا وابتكارا ناميا حيا.

وأحسبني في حاجة - بعد أن عرضت منهج الأهواني في دراسة العقم والابتكار مستخدما كلماته نفسها - إلى تأكيد أن مفهومه هو عن الابتكار لا يختلف عن مفهوم المدرسة النقدية التي ينتسب إليها, والتي وصلته بأستاذه طه حسين ومعاصريه المؤمنين مثله بأن الفن تعبير صادق عن وجدان صاحبه. ولكن الأهواني يضيف إلى مسألة الصدق الفردي المرتبط بالوجدان الفردي الصدق الجمعي المرتبط بوجدان الجماهير, فالابتكار لا يتحقق في الإبداع إلا بجناحين في النهاية: جناح الصدق مع الذات الفردية, وجناح الصدق مع الذات الجمعية للجماهير التي يتكون بها الواقع الحي للشاعر.

اللغة وشحنات العاطفة

ويبدو ذلك واضحا في تحليل الأهواني لما يؤكده من أن المشكلة اللغوية كانت العامل الأول والسبب الرئيسي في ضعف شعر أمثال ابن سناء الملك, والعقم الذي أصاب نظمهم, إذ يؤكد أن مقصد الشاعر الغنائي هو التعبير عن نفسه أولا وقبل كل شيء, فهمّه الأول ليس إرضاء الغير بقدر ما هو إرضاء نفسه والتنفيس عمّا احتبس فيها من مشاعر. ويفعل الشاعر ذلك باتجاهه إلى هذا التعبير اتجاها مباشرا مركّزا موجزا مكثفا لا يستعين فيه بعناصر كالتي يستعين بها قرينه الشاعر المسرحي أو الملحمي. ولذلك كانت اللغة بالقياس إلى الشاعر الغنائي ليست وسيلة للتفاهم والتعامل مع الغير كما هو شأنها في الحياة العملية بين الناس, وإنما هي شحنات عاطفية تصدر من قلبه وخياله قبل صدورها عن عقله, أو عن المصطلح المتداول المألوف بين العلماء واللغويين.

ومعنى هذا أن اللغة إذا كانت منفصلة أو شبه أجنبية بالنسبة للشاعر فقد بطل سحرها في نفسه وسقط التجاوب العاطفي بينه وبينها, فأصبحت عاجزة, أو أصبح هو عاجزا عن أداء هذا التعبير الوجداني في صورته التامة الكاملة الدقيقة التي تشعره بالراحة, وتزيح عن صدره ما يجثم عليه ويمتلئ به من انفعال وجداني. ولم يكن الشاعر في ذلك العصر يمتلك أداته اللغوية امتلاكا كاملا بهذا المعنى. كان يعرف النحو والصرف والتراكيب السليمة حقا. ولكن اللغة التي كان يكتب بها ظلت منفصلة عنه بأكثر من معنى نتيجة تباعد الشقة بين العامية والفصحى من ناحية, ونتيجة شيوع التعبير بالعامية من ناحية ثانية, ونتيجة كون الممدوحين غير عرب, بل غير عارفين بالعربية من ناحية ثالثة. يضاف إلى ذلك أن الشعراء لم يستخدموا الكلمات من حيث هي مثارات انفعالية وجدانية, لها أصداؤها في واقعهم الحي وإنما من حيث هي موروثات مأخوذة من دواوين الأقدمين. ولو أن الشاعر المتأخر اعتقد أن اللغة ملك له, وأنها ملكة خاصة به كما كانت عند الشعراء في العصور الأولى, لتغير الموقف, وتطورت لغة الكتابة في العربية تطورا جوهريا كما حدث في لغات أخرى, وتحرر الشاعر من عبوديته للشعر القديم.

وكان بعد الشاعر عن اللغة موازيا لبعده عن الجماهير, خصوصا بعد أن حكم على نفسه, وحكم عليه وضعه الاجتماعي, أن يتوجه إلى طبقة غير عربية الأصل, يرضيها بما نقله إليها حُرّاس الثقافة القديمة من قيم الذوق, فانفصل هذا الشاعر عن حركة الجماهير التي تباعدت عنه, ولم تر في شعره ما يعبر عنها, وبحثت لنفسها عن وسائطها الإبداعية الشعبية, تلك الوسائط التي أعادت للأدب صلته بالوجدان الجمعي من ناحية, وأعادت للغة حيويتها الشعبية من ناحية مقابلة.

الإبداع والوجدان الفردي

من المؤكد أننا يمكن أن نراجع عناصر مهمة من العناصر التي تأسس بها منهج الأهواني في كتابه المهم عن ابن سناء الملك, فالإلحاح على الوجدان الفردي بوصفه المفتاح السحري لعملية الإبداع أمر انتهى مع نظرية التعبير وانقشاع وهمها, خصوصا مع النظريات الموضوعية للفن على نحو ما أوضحت في كتابي (نظريات معاصرة) (القاهرة 1998). ولا ينفصل عن ذلك موقف الأهواني المستريب من الصنعة, وتصوّره أن الصنعة نقيض لعفوية التدفق التلقائي للتعبير الفردي, وأنها - لهذا السبب - سلبية الأثر, نقيضة للإبداع الذي يتلخص في التعبير العفوي عن الوجدان الفردي. وهذا فهم هجره النقد. فلا عفوية التعبير هي التي تخلق الفن, ولا الصنعة العقلية هي التي تقتل الفن, فالفن تشكيل للانفعال حتى بمعناه الفردي, والتشكيل هو الذي يفصل بين الفن وإفراغ الانفعال عفويا, كما نفعل في لحظات المشاجرة أو الاحتدام العاطفي مثلا, ومادمنا دخلنا إلى منطقة التشكيل, وصلنا إلى منطقة الصنعة التي هي وعي بالبناء, وبعض الإدراك بأن الفن يخدم سيدين: أبولو ودينسيوس, وأن الإبداع الأصل توازن أو تفاعل بين الانفعال الفردي المتدفق والعقل الصانع الذي يصوغ من التدفق بناء وتركيبا.

ولم يكن الأهواني منتبها إلى جانب التشكيل بسبب نشأته الفكرية التي اقترنت بهيمنة نظرية التعبير على الأساتذة الذين تعلم منهم, وأخذ عنهم. ولذلك كان موقفه النقدي قريبا من موقف زميله محمد مندور الذي ذهب إلى أن الشعر لا يحسنه إلا ذوو النفوس الفطرية القوية, وأنه كلما كان أقرب إلى الفطرة والعفوية كان أبعد أثرا. ودليل ذلك الشعر الجاهلي الذي عدّه محمد مندور نموذجا إبداعيا لابتكار الوجدان الفردي في عفويته وبكارته وطزاجته.

ويبدأ الأهواني من نقطة شبيهة بالنقطة التي بدأ منها زميله مندور في كتبه عن (النقد المنهجي عند العرب) أو (في الميزان الجديد), وهو يشبه مندور في محاولة الوصل بين الإيمان الليبرالي بالوجدان الفردي والإيمان بالوجدان الجمعي النابع عن الحركة العفوية لإبداع الجماهير. ولذلك أقام الأهواني تعارضا بين شعر العقم الذي خلا من الوجدان الفردي وشعر الابتكار الجماهيري الذي صدر عن الوجدان الجماعي للجماهير, متمثلا في السير الشعبية وألوان الزجل والمواويل. وبقدر ما كان هذا التعارض قائما على نظرة أدبية رومانسية إلى الإبداع الفردي, خصوصا في تأكيد النزعة الفردية المقترنة بالتدفق التلقائي لمشاعر الفرد المتميز, كان التعارض قائما على نظرية رومانسية أخرى للجماهير على مدى إبداعها الجمعي الذي صدر عن وجدانها الفردي. وقد كان هذا الإيمان بعفوية الإبداع الجماهيري الوجه الآخر من نزعة شعبية (شعبوية?!) كانت بعض آثار الفكر البعثي في ذهن الأهواني. وقد تعدلت هذه النزعة في ظل تصورات أحدث. أقصد إلى تصورات تجاوز ثنائية الوجدان الفردي والوجدان الجمعي إلى تركيب أكثر شمولا وتعقيدا. وكان من نتيجة ذلك أن تراجع النقاد عن مسألة الصدق بمعناه الفردي أو الجمعي, خصوصا بعد أن أدركوا أن الإلحاح على الصدق يفضي إلى معنى التطابق بين طرفين, لاحق وسابق, ومن ثم يفضي إلى معنى المحاكاة بدلالتها الكلاسية, أو بدلالتها الرومانسية التي هي قلب للدلالة الكلاسية, واستبدال محاكاة الداخل بمحاكاة الخارج.

الإبداع في ظلال التقليد

ولكن منهج عبدالعزيز الأهواني, رغم هذه الاعتراضات, ظل منطويا على بريقه الخاص, خصوصا للأجيال التي حاولت أن تقترب اقترابا مباشرا من قضية العقم والابتكار, وتبحث بحثا تفصيليا في نتائج عصور العقم. ولذلك كان لكتاب الأهواني عن (ابن سناء الملك) أثره في تلامذة الأهواني المباشرين وغير المباشرين, إذ دفعت عبدالحكيم راضي إلى دراسة مشكلة الابتكار في النقد العربي في أطروحته للماجستير التي ناقشها سنة 1970, وهي دراسة تحليلية نقدية لمفاهيم الابتكار في البلاغة العربية والنقد العربي القديم, كما دفعتني شخصيا في أطروحة الماجستير (التي ناقشتها سنة 1969) إلى دراسة شعر شعراء الإحياء في ضوء المنهج الذي اقترحه الأهواني لدراسة شعراء التقليد. وكان تأثري بالأهواني عظيما في ذلك الوقت إلى الدرجة التي جعلتني لا أرى في شعر شعراء الإحياء - محمود سامي البارودي وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم والرصافي والزهاوي وغيرهم - إلا التقليد للقدماء, فلم أنتبه إلى أصالتهم الشعرية الخاصة في لهفة حماستي لمنهج الأهواني وحرصي على تطبيقه, فكانت النتيجة أنني درست الجانب التقليدي وحده, متصوّرا أنه كل شعر الإحياء. وقد تخليت عن هذه النظرة الضيقة, واستبدلت بها نظرة أكثر رحابة في دراساتي اللاحقة, خصوصا ما نشرته منها في كتابي (استعادة الماضي) (القاهرة 2001) و(ذاكرة للشعر) (القاهرة 2002).

وأحسبني لاأزال مؤمنا إلى اليوم بعناصر أساسية في منهج الأهواني, لكن بعد تطويره بما يكشف عن الجانب الفردي حتى في أقصى درجات التقليد, فمهما يكن الشاعر مقلّدا, حريصا على مباراة الأقدمين, فإن اختياره لمن يقوم بتقليدهم, وإلحاحه على موضوعات بعينها, وعلى تراكيب بعينها, يكشف عن جوانب ذاتية في صنعته. وأضيف إلى ذلك أن شعر الصنعة نفسه, حتى وإن لم يبن عن وجدان الشاعر بمعناه التعبيري القديم, فإنه يمكن أن يكشف عن آفاق دالة من صراع الشاعر مع مادته اللغوية, ومن ثم يبين عن قدرة هذه المادة اللغوية (في علاقات تركيبها) على الإبانة عن أساطير للفرد والجماعة في آن. ولذلك لا يمكن للدارس المحدث الذي يبحث في علاقة اللاحقين بالسابقين إلا أن يعود إلى منهج الأهواني, ويستفيد منه, لكن بعد أن يضعه في أطر أحدث لنظريات نقدية أجد.

ويبقى للأهواني قدرته على الخروج على التقليد الذي ظل متبعا في دراسة شعراء العقم, الأمر الذي أدّى به إلى الابتكار منهجيا, كما يبقى له تقديمه مجموعة من الأدوات المنهجية التي لا غنى عنها إلى اليوم في تحليل علاقة اللاحق بالسابق إبداعيا. وأضيف إلى ذلك اهتمامه المتواصل بدراسة قضية الازدواج اللغوي في علاقتها بقضية العقم والابتكار, أو علاقتها بازدهار الآداب الشعبية.

ولذلك لم يتوقف تأثير الأهواني عند دراسة الأدب الرسمي أو اللغة الفصيحة, فقد امتد تأثيره إلى دراسة الآداب الشعبية, حيث ترك بصمة واضحة في الأجيال التي تتلمذت عليه مباشرة, أو التي تأثرت بأفكاره ممن أصبحوا أعلاما اليوم في مجال الدراسات الشعبية.

وللأهواني كتاباته الرائدة في هذا المجال, ولكن - مع الأسف - فإن جانبا كبيرا من ملاحظاته واجتهاداته ظل أسير أوراقه التي لم تنشر إلى اليوم. ولم يكن من قبيل المصادفة أن آخر مقال كتبه, قبل وفاته المفاجئة, عن (التراث المنقطع) نقصد إلى (الزجل... الشعر العامي). وكان قد كتبه بناء على طلب مجموعة من الشباب كانت تصدر مجلة (المعاصر) وكانت تهتم بالقصيدة العامية على الطريق نفسه الذي سبقهم إليه فؤاد حداد وصلاح جاهين وعبدالرحمن الأبنودي وغيرهم. ونتيجة حوارهم مع الأهواني حول قصيدة العامية, كتب مقاله عن (التراث المنقطع) قاصدا إلى فن (الزجل) الذي انقطعت تقاليده عند شعراء العامية المحدثين. وقد لاحظ الأهواني أنهم لا يكادون يعرفون شيئا عن الزجل القديم. لا في عصوره البعيدة وحدها, وإنما في عصوره القريبة أيضا, وأنهم يرفضون تسمية شعرهم باسم الزجل, وهو رفض يثبت الانقطاع التراثي الذي اهتم به الأهواني الذي يقول إنه لابد من دراسة الإنتاج الحديث من مختلف جوانبه, خصوصا الجانب الذي يرتبط بالشعر الحديث ارتباطا كاد يفصله عن الشعر الشعبي من جانب, وعن التراث الزجلي من جانب آخر

 

جابر عصفور