العدد (760) - اصدار (3-2022)

د. جابر عصفور تنويري في زمن غير تنويري د. خالد زيادة

عرفت د. جابر عصفور كمفكر مصري وناقد أدبي من مستوى رفيع، قبل أن تجمعنا صداقة مديدة خلال إقامتي في القاهرة التي امتدت لما يقرب من تسع سنوات. كانت لقاءاتنا دورية في إطار الصالون الثقافي العربي، الذي يعود الفضل في تأسيسه إلى السفير قيس العزاوي، والذي ضمّ: صلاح فضل ومحمد الخولي ود. جابر عصفور ومصطفى الفقي ونصير شمّا وسفير المغرب وسفير موريتانيا والذي ترأسه الراحل يحيى الجمل. هذا الصالون الذي ما إن تم تأسيسه حتى أصبح ملتقى المفكرين والكتّاب والمثقفين المصريين الذين يلبّون الدعوة إلى مناقشة كتاب أو موضوع من الموضوعات، أو دعوة مفكر لمناقشة آرائه، مثل حسن حنفي أو استضافة شخصية مصرية أو عربية، مثل عمرو موسى والمنصف المرزوقي ونايف حواتمة وآخرين.

جابر عصفور ومشروعه ثلاثي الأضلاع عباس يوسف الحداد

كتب أنيس منصور (1924 - 2011) في عموده اليومي «مواقف» في صحيفة الأهرام يتساءل: «هل تعرف د. جابر عصفور؟ لن تعرفه إلا إذا كنت مثقفًا ومثقفًا جدًا». كان أنيس قد قرأ للدكتور جابر عن البنيوية فأدهشته كتابته ووعيه لهذا المذهب الأدبي والنقدي حتى إنه قال عنه إنه «كاتب كامل الأوصاف»، كما وصفه أيضًا بأنه «جواهرجي يزن كل ما يقول». هكذا هو جابر عصفور يدهشك حضورًا ووعيًا وذلك باستيعابه للنظرية وإتقانه للمنهج، بل بالخروج على المنهج أيضًا، إذ تقوم فيه سمات المعلم المتعلم على دوام. هذا ما جعل مشاريعه الفكرية والنقدية والثقافية تتحقق وتؤتي أُكُلها، فالوعي والإدراك والمساءلة وعدم الاستسلام للسائد والتسليم له، كل ذلك جعل من د. جابر عصفور معلمًا صاحب رؤية ومشروع وهدف يمكن تحققه واستمراريته في الحياة الثقافية.

د. جابر عصفور بين صلاح عبدالصبور وأمل دنقل د.عبدالرحيم العلام

اهتم الراحل الدكتور جابر عصفور في مصنفاته الكثيرة بمقاربة أسئلة وقضايا، فضلاً عن تناوله مجموعة من التجارب الإبداعية والفكرية والنقدية، لأسماء وازنة، ممن تناولهم د. جابر عصفور في كتبه وأبحاثه وحواراته، وفي مقالاته المنشورة في عديد من المجلات والدوريات الثقافية.

جابر عصفور الإنسان والقائد الثقافي أحمد فضل شبلول

عاصرتُ الهجوم الذي شُنَّ على الدكتور جابر عصفور عندما صدر قرار توليه منصب الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة عام 1993، ولم يكن هذا المجلس ملء السمع والبصر قبل تولي أمانته الدكتور عصفور، فلم أرَ هذا المجلس فاعلًا أو متفاعلًا مع الحياة الثقافية سوى وقت الإعلان عن أسماء الحاصلين على جوائز الدولة التي كانت دائمًا محل انتقاد وهجوم. عدا ذلك لم أكن أسمع عن فعاليات المجلس شيئًا يُذكر، ولم أتذكر أصحاب هذا المنصب الذين تولوه قبل الدكتور جابر عصفور، سوى الدكتور عز الدين إسماعيل.

بين جابر عصفور وإدوارد سعيد في مدار النظرية د. يحيى بن الوليد

شاع تيار النقد الثقافي بشكل لافت خلال العقود الأربعة الأخيرة، جنبًا إلى جنبٍ مع تسمياتٍ أخرى، مثل الدراسات الثقافية والمادية الثقافية والشعرية الثقافية ونظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي... وهي تسميات لا تخلو من فروق ومن بعض نقاط التلاقي أيضًا. وللإشارة، فإن د. جابر عصفور (-1944 2021)، موضوع هذا الملف، كان قد أبدى ميلًا جليًّا للنظرية الأخيرة،(Postcolonialism) إذ يشير إليها في جل كتبه سواء في مجال تخصصّه الأثير الذي هو مجال النقد الأدبي أو مجال التنوير العربي الذي أفرد له كتبًا كثيرة أيضًا. ويمضي، في كتابه «آفاق العصر» (1997)، إلى أن خطاب ما بعد الاستعمار نوعٌ أخير من النقد الأدبي. ويصوغ هذا الخطاب، كما يواصل، خطابًا مناقضًا لخطاب الكولونيالية، كما يقوم بدور «أوديب النقيض» الذي يدمّر «سجون النسق الكولونيالي». اللافت أن من يصوغ هذا الخطاب النقيض نقاد العالم الثالث بالدرجة الأولى، أولئك النقاد الذين استقرّوا في عواصم الغرب (الرأسمالي).

بورتريه غير مكتمل لجابر عصفور شوقي بزيع

قبل بلوغه الثمانين بسنوات ثلاث رحل د. جابر عصفور عن هذا العالم. ومع أن ما عاشه من سنين يقع ضمن المعدل الوسطي للأعمار، في عصر التقدم الطبي والتقني، فهو يبدو أطول مما يجب بالنسبة لرجل استثنائي، وأراد لجسده المحدود أن يجاري روحه اللامحدودة، وأخذ على عاتقه من المهمات ما لا يستطيع حمله إلا القلة القليلة من المثقفين الجسورين. لقد بدا صاحب «المقاومة بالكتابة» كأنه اختار أن يضبط «عدّاد» حياته على العام السابع والسبعين، قبل أن يدير ظهره للحياة، ليس فقط لما للرقمين المتماثلين من دلالات سحرية، أو بما يجعلهما شبيهين بعلامتين للنصر في زمن الانهيارات والهزائم الكبرى، بل لأنه، وهو المتبحر في التراث، لم يكن ليغيب عن باله بيت زهير بن أبي سلمى الشهير الذي يرى في الثمانين معادلًا زمنيًا للسأم من رتابة العيش، والتبرم المرهق من سنواته الزائدة. ولعل د. جابر عصفور المترع بالمفارقات الضدية، كان مزيجًا فريدًا من هدوء زهير الناضج والحكيم والمثقل بالتجارب، ومن طرفة بن العبد، الذي جسد بالنسبة له، إضافة الى جماليات شعره العالية «صورة الفنان في شبابه»، ونسخة «طوطمية» عن تمرده على الواقع المقيت من جهة، ونزوعه الملح إلى تكثيف الزمن واختزاله، من جهة أخرى.

د. جابر عصفور العقلانية في مواجهة أذرع الرجعية شريف الشافعي

يعد الناقد والمفكر والأكاديمي المصري د. جابر عصفور (25 مارس 1944 - 31 ديسمبر 2021) أحد المدافعين البارزين عن العقلانية الثقافية العربية في مشهدها المعاصر. وفي هذه السطور إطلالة على أحدث مؤلفاته قبيل رحيله، الذي جاء بعنوان «دفاعًا عن العقلانية»، وفيه يواجه د. عصفور بروحه القتالية المعهودة مراكز قوى كثيرة، يراها بؤرًا للرجعية، وأعشاش دبابير ظلامية، وهي ذات نفوذ طاغٍ وأذرع سلطوية وخطاب قمعي، وتأثيرات مجتمعية موغلة في التجذر والامتداد عبر الماضي والحاضر.

الكتابة بين الموت والحياة والصداقة طارق النعمان

يبدو لي أننا في هذا العدد الاستثنائي من مجلة العربي التي لطالما أنارها د. جابر عصفور، على مدار عقدين كاملين من الزمان بحضوره الحي الخلاق؛ وكأننا نحاول، بصورة ما، أن نراوغ الموت ونحاوره، أن نرفضه وننكره، على نحو ما، أن نبعده، أن نخلخل ونقلقل حضوره، رغم وقوعه، أن نوقفه ونزيحه، أن نرجئه ونؤجِّله ولو قليلًا عن نفوسنا، وأن نستبدل به نقيضه الماثل في الحياة والتواصل والتجدد والكتابة.