العدد (503) - اصدار (10-2000)
من المفارقات ثقيلة الوطأة التي يسقط ظلها باطراد فوق المشهد الثقافي العربي الراهن تلك المفارقة المتمثلة في لك الاتساع المتزايد لظاهرة المهرجانات الثقافية العربية بكل تخصصاتها الذي شهدته العقود الأخيرة من القرن الماضي, من ناحية, والإصرار المتزايد - من ناحية أخرى - من قبل القوى الرافضة للتطور, والمتغلغلة في ثنايا البناء المجتمعي العربي, على التضييق على حريات الفكر والتعبير والتداول والتواصل الفكري والثقافي على المستويين الوطني والقومي. وفي الوقت الذي يوسع فيه العالم - حتى لك الجزء النامي (المتخلف) منه كشيلي وإندونيسيا وغيرهما - من قاعدة الحرية الشعبية والتناول الديمقراطي لمكوّنات وتوجهات الممارسات المجتمعية السياسية والاقتصادية والثقافية
على الرغم من أن الهوية السياسية الواحدة لم تتحقق عربياً حتى الآن، فإن الهوية الثقافية بفضل مئات من المثقفين، أصبحت أمراً واقعاً. روى التنوخي في كتابه: (الفرج بعد الشدة) أن عربياً أسره الروم في عهد معاوية، وأطلق سراحه بعد سنوات طوال أيام عبدالمك بن مروان، لقي في طريقه رومياً أثناء وجوده في الأسر يُتقن العربية، فظنّه من أصل عربي، فسأله: من أيّ العرب أنت? فضحك وقال: لست أعرف لمسألتك جواباً لأني لست عربياً، فأجيبك على سؤالك! فقال له العربي
هل جاء عصر يقوم فيه المستعمرون القدماء بتمويل مشاريع لإحياء اللهجات البدائية بهدف ضرب اللغة العربية في عقر دارها؟ جعل الله اللغة أداة للتخاطب ليتفاهم الناس بها بعضهم مع البعض الآخر، وليبنوا بواسطتها حضارة قائمة، ونظاماً مستتباً في مجتمع ينعم من خلاله الناس بالطمأنينة والراحة والأمن. ويبدو أن أصل اللغات، من حيث هي، كانت مجرد أصوات عشوائية استحالت بالتعامل اليومي
في عالم يموج بتيارات فكرية متناقضة تعصف بشاطئه - في جانب - أعاصير العولمة، حاملة في طياتها ألواناً من السلوك، فارضة ذوقا واحدا يجتاح العالم في المأكل والمشرب والملبس، وعلى الجانب الآخر من الشاطئ، تهب رياح التفكيك موقظة النعرات العرقية والدينية واللغوية مؤلبة للأقليات والجماعات الهامشية. إذا كانت الصورة بهذا الوصف - تحمل قدراً كبيراً من الاضطراب وعدم الاتساق