العدد (780) - اصدار (11-2023)
في كل حرب مذبحة يتم فيها تصفية الأجساد، غير أن هناك تصفية أخرى غير الموت، لأجساد تكون الحرب السبب الرئيس لعذاباتهم التي لا تتوقف. تتوقف الحرب، وتبقى تلك المذابح نازفة أبدًا، تتنوع مذابح الجسد وتتعدد بأشكال مختلفة، أشكال أشد إيلامًا من الموت نفسه، أشكال تعرفها جمانة حداد، وتعرفها النساء وتخشاها، أحيانًا تكون بعض هذه المذابح بلا حروب، لكنها تكثر، وتتشعب، وتمتد كأخطبوط مع الحرب، في هذه الرواية، تفتح جمانة حداد باب هذا الألم على مصراعيه، وكعادتها؛ جريئة، مقدامة، متمردة، تغوص في خبايا النفس البشرية، وتنشر كل الخفايا العالقة في القلوب على الملأ بشفافية، ومنطق، وقوة.
جاءَ العَسْكَرْ... ملأوا كُلَّ زوايا المَخْفَرْ ملأوا المَحْضَرْ كتبوا في المَحْضَرِ
حين أنشد الشاعر المغربي محمد السرغيني في ديوانه «من أعلى قمم الاحتيال- فاس» قائلا: «أيها الليل، آوِنِي إلى جبل عارٍ لأنحت صورتي وصوتي على أحجاره ومغاوره». لعله كان يستبصر من وراء ستْرٍ رقيق أن ثمة من سيتلقف أشعارَهُ الفائقةَ «من أعلى قمم الاحتفال» محبةً واحتفاء، بعد أن انطبعت ليس فحسب في جلاميد الصخر وتجاويف المغاور، بل أيضًا في أشغفة قلوب العاشقين ومرايا الأنفس الشفيفة.
تقترن بعض كتب نقد النقد الأدبي بـ«وصف» الكتب النقدية، دون تحليل منهجي أو مناقشة معرفية، ويرتبط البعض الآخر بـ«محاكمة» نقاد الأدب، عَبْر الإشارة إلى ما أغفلوه في دراستهم وليس ما حللوه عليه ودرسوه، ويتّصل بعضها الآخر بدراسة علمية منتجة لمنجزات النقد الأدبي. من هنا، يكشف الإنتاج في كتابة نقد النقد الأدبي، أثناء تحقُّقه في مرحلةَ إنجاز، عن مسار ممتدّ أسُّه الفكر والفعل. بهذا المعنى، فإنّ إنتاجَ نقد النقد الأدبي، بوصفه نموذجًا خاصًا في كتابة محكومة بضوابطَ مميزة، يستدعي الفكر دائمًا، ليحقق الإنسان الباحث بلغة، وناقد النقد بلغة أخرى، كينونته الكاشفة ارتقاءً نوعيًا، ويبلورَ منجزًا معرفيًا يؤمّنُ له الانتسابَ، بفعلِهِ الدّال، لعالمِ نقد النقد الأدبي وخطابه المعرفي.
يُشكّل محمد الماغوط حالة شعرية نادرة في مسيرة الشعر العربي الحداثي، ذلك أنه وهو يكتب، كان يكتب ببراءة الطفل وحكمة الشيخ في ذات الآن، حتى وهو في مقتبل عمره الشعري. وظل على هذه الحال الشعرية المتميزة حتى وفاته. لم يكن شعر محمد الماغوط يتبع قوالب شعرية دقيقة يسير عليها، وإنما كان وهذا هو الجميل في الأمر، كان يخلقها بشكل تلقائي ينم عن ذائقة شعرية هائلة. ذائقة شعرية تنتمي للمستقبل، وليس للماضي أو حتى للحاضر الذي كان يكتب فيه، وانطلاقًا منه.