العدد (797) - اصدار (4-2025)
يلحظ المتصفّح لديوان المتنبّي أن كل قصيدة منه يسبقها تمهيد نثريّ يشرح ظروف قولها أو تاريخه الدقيق أحيانًا، ولعل الدكتور عبدالوهاب عزّام محقّق الديوان وصاحب كتاب: ذكرى أبي الطيّب بعد ألف عام (بغداد 1936م)، وهو أول دراسة منهجية حديثة وموسعة لحياة المتنبّي وشعره بعد أطروحة المستشرق الفرنسيّ ريجيس بلاشير: حياة المتنبّي ونتاجه (باريس 1935م)، أول من توقف عند هذه الظاهرة فعدّها مزية من مزايا ديوان أبي الطيّب. وما لم يؤرَّخ له في الديوان، اكتُفي بذكر المرحلة أو الحادثة التي قيل فيها، وهذا يسمح بتأريخ القصائد والحوادث المتصلة بها والعادات الاجتماعية والتربوية في عصر المتنبّي، ولاسيّما عادات القصور.
يُشكل الشاعر العربي الكبير أدونيس حالة فريدة في مسارات الشعر العربي من جهة وفي مسارات الفكر العربي أيضًا على اختلافات رؤاه وتعددية المقاربات التي أنجزت حوله من جهة أخرى. وهو إلى هذا، يعتبر أحد كبار الشعراء والمفكرين في العالم أجمع. جمع بين كتابة الشعر ونقده، وبين التفكير في التراث العربي ومحاولة استنطاقه، وبين تبني الأفق الحداثي الكوني مع مناقشته سواء على مستوى الرؤية التي تحكمه أو على مُستوى تمظهراته الثقافية في مختلف تجلياتها الفكرية والسياسية، الاجتماعية والفردية.
«الذاكرة هي الفكر ذاتُه، من حيث هو يحيا ويدوم» (برغسون) لا غرو في أنّ الشعر ممتدّ في اللاشعور الفردي والجمعي، باعتباره خزّانًا لذاكرة الأمم، وحضارتهم ووجودهم، ويحبل بالرموز والعلامات والأساطير، ومن ثمّ فالشعر والذاكرة يشكّلان جسدًا واحدًا، مادام الشعر روح الذاكرة، وهذه الأخيرة زاد الشعر الذي به يؤسس وجوده الرمزي. الأمر الذي يجعل تناول الصلة الرابطة بينهما؛ انطلاقًا من رؤية تفاعلية لا تفصل بينهما، لكونهما العمود الفقري لتشكّل الهوية وتحقّق الكينونة بشقيها المادي والمعنوي، أمرًا يتسم بالالتباس والتحفيز لمقارعة هذه الإشكالية. مما يطرح العديد من التساؤلات التي قد تضيء جوهر هذه الرابطة. وتكشف عن التواشج العميق بينهما.
هناك سؤال قديم لا يزال يطرح نفسه، ما هو الأسبق لعقل ووجدان الطفل: الشعر أم القصة؟ وهناك آراء كثيرة لبعض النقاد والباحثين تؤكد على أن القصة هي الأقرب إلى الطفل، لكن أرى وعدد من الباحثين أن الشعر هو الأسبق من القصة إلى وجدان الطفل، فحينما يولد الطفل، وهو في مرحلة المهد تغني له أمه أغاني «المناغاة» و«الهدهدة»، مثل: «نام نام وأدبح لك جوزين حمام»، ولما يكبر قليلًا ويستطيع أن يخطو أولى خطواته، تغني له: «تاتا خطي العتبة... تاتا حبة حبة»، ولما تكبر البنت وتريد أمها أن تلاعبها، تغني لها: «لاعبيني وألاعبك... وأكسر صوابعك»... إلخ. هذه الأغاني الفلكلورية التي تنتمي إلى الشعر الخالص بإيقاعه وأوزانه العروضية، والطفل يولد مزودًا بالموسيقا والإيقاع فتراه يتمايل من تلقاء ذاته مع النغم والموسيقا، «يقول كثير من علماء الجمال وفلاسفة الإبداع بأن الطفل يولد مزودًا بحاسة سادسة يدرك بها ما في الأعمال الفنية من سحر وجمال... ويستجيب إليها... ويتوقف نمو الحاسة على مدى رعايتها وإرهافها للتذوق».
يقول المترجم الحلبي المعاصر، الأرمني الأصل، ألكسندر كشيشيان: «إن عُدنا إلى بواطن التاريخ، ودخلنا بين دفتي أمهات الكتب التاريخية العربية والأرمينية، واستخلصنا تفصيلات العلاقات العربية الأرمنية التاريخية، فإنني أجزِمُ بأنه سيكون بوُسعنا تجهيزُ موسوعة من ستة مجلَّدات كبيرة على أقل تقدير، وذلك لأن جذور هذه العلاقات تمتد إلى قرون مديدة جدًا، تصل إلى حوالي ألفيْ عامٍ»!