العدد (625) - اصدار (12-2010)
بدءا من هذا العدد تفتح «العربي» ملف القمة الثقافية العربية المزمع عقدها قريبا، والتي عقد لأجلها عدة مؤتمرات تحضيرية كان أوسعها في بيروت منذ شهور قليل مضت، وبحضور عدد من المنشغلين بالثقافة العربية، برعاية من جامعة الدول العربية ومؤسسة الفكر العربي وفي حضور الأمين العام للجامعة السيد عمرو موسى، الذي تبنى الاقتراح ووجه الدعوة لعقد هذه القمة وأعلن عن الإعداد لها، في حدث يعد الأول من نوعه بأن يعقد الزعماء العرب قمة مخصصة لبحث الثقافة العربية
أصبحت القمم العربية المتخصصة، بعد قمة الكويت الاقتصادية التي لم تكن سالبة، مطلبًا عربيًا ملحًا بعد أن اتضح أن القمم العربية السياسية (الدورية) تنعقد وتنحل دون تحقيق نتائج ملموسة. إن القمة العربية الاقتصادية بعد تجربة الكويت القريبة من النجاح من المقرر عقدها في مصر بعد زمن غير بعيد، وبعد الاقتصاد تأتي الثقافة. لكن الثقافة لها طبيعة خاصة تختلف عن الاقتصاد تمامًا. وثمة رأي جديد هو أن الجامعة العربية لتفادي التناقضات السياسية والمصالح الإقليمية
هل الثقافة العربية بحاجة إلى قمة؟ وهل نجحت القمم السياسية التي يرأسها أصحاب الحل والعقد من الرؤساء والملوك في تحقيق الحد الأدنى من التضامن وإعادة التأثير العربي في القضايا المحلية والعالمية إلى ما كان عليه قبل عقدها؟ كدت أتفهم لو أن الذين تنادوا إلى القمة المشار إليها قد اختاروا لها تسمية غير القمة مثل «اللقاء»، أو«الملتقى» ليتدارسوا فيه وضع الثقافة العربية، وحال إناء هذه الثقافة وهو اللغة العربية، وكيف تتعرض للتخريب الرسمي والشعبي العربيين وتنال من الطعنات المتلاحقة ما يفوق ما كانت ترمي إليه كل محاولات التخريب
لم يكن أمامي - وأنا بصدد الإعداد لملف صحفي يحتفي بتجربة غازي القصيبي المتعددة الجوانب، المتشظية بين الكتب، المتفرعة الأصول، والضاربة في كل فج اختلف الكثيرون حول مستوى عمقه - إلا أن أنبه منذ البداية إلى أنه ملف موجز إن لم يكن مبتسرا. فلا يمكن لعدد من الصفحات التي خصصتها مجلة العربي لمثل هذا الملف أن تحيط بالتجربة القصيبية من كل مناحيها، وأنا أصف التجربة بـ«القصيبية» ليس نحتا لمصطلح جديد اعتمادا على فكر عبرت عنه تلك التجربة في كل تجلياتها
وُلِدَ غازي القصيبيّ في الهفوف عام 1359هـ=1940م، وحِين بلغ الخامسة مِنْ عمره انتقل مع أسرته إلى البحرين، لينشأ ويترعرع ويشبّ فيها، واختلف الطِّفْل غازي هناك إلى مدارسها، واختلط أقرانه مِنْ البحرينيّين، وتألَّفتْ بينه وبين كوكبة منهم الألفة والمحبَّة والصَّداقة، وتحلَّى بعادات أهل البحرين التي لم تكن لتختلف كثيرًا عمَّا يعرفه أبناء شرقيّ الجزيرة العربيّة في المأكل والمشرب واللَّهجة والأفراح والأتراح. تَهَيَّأَتْ لنشأة القصيبيّ البحرينيَّة أسباب خلوصه لها، فسنوات الطِّفْل الخمس التي قضاها في الهفوف امَّحَتْ مِنْ ذاكرته
يثير الإنتاج الأدبي شعرًا وسردًا لغازي القصيبي الكثير من الالتباس بين وظيفية الإبداع ومجانيته بالرغم من دوره الأساسي في اعتباره نموذج تعبير أولي عن الإنسان، وطرح رؤيته وأفكاره، من خلال موهبة وقدرات تضمن له كسر مغاليق بوابة الخلود. غير أن ما يكرس تلك الإثارة في إنتاجه التعانق بين الثقافي والسياسي، حيث يتعارض الشأن العام في عمومه وتكراره إزاء خصوصية ونقاء الشأن الخاص في الإبداع عبر الفنون والآداب
كانت معرفتي الحقيقية الأولى بالراحل الدكتور غازي بن عبد الرحمن القصيبي من خلال كتابه ذائع الصيت، والانتشار أيضا، «حياة في الإدارة». ولعل وقوع هذا الكتاب في يدي يحمل معه قصة ومفارقة في آن واحد، حيث حصلت عليه منذ سنوات من مكة المكرمة، وهنا المفارقة فأغلب كتب الراحل كانت ممنوعة من التداول في بلده السعودية، ولم يفسح لها إلا أخيرًا بعد وفاة مؤلفها! وأما القصة، وهي لا تخلو من طرافة، فهي أني يومها كنت في رحلة للعمرة مع بعض الأصدقاء
عندما تنبأ أمير الرياض الأمير سلمان بن عبد العزيز للدكتور القصيبي أن يكون وزيرا فقد كان هذا التنبؤ بمنزلة التجهيز والاستعداد لهذا الإداري الناجح لتولي الوزارة. وقد أثبت أنه بوزن ذلك التنبؤ وأنه قادر على أن يملأ كل مكان ذهب إليه، فالقصيبي أصبح المادة التي تملأ كل فراغ وضعت فيه. هذا ما حدث لوزير قضى أيامه كلها بين براثن البيروقراطية والبيروقراطيين، محاربا صلبا مستعدا بكل مستجدات العمل الإداري
إذا كان «غازي القصيبي» قد أحب الكويت ـ فردا ـ فإن دولة الكويت حكومة وشعبا قد أحبته حبا أعمق، واعترفت بفضله، ومواقفه البطولية في نضاله ودفاعه عنها إبان محنتها القاسية فترة الغزو العراقي واحتلاله لها عام 1990، لهذا فإن الخطب جلل، والمصاب عظيم، والفاجعة موجعة أليمة بوفاته - يرحمه الله. إن فقده قد تحول بدواخلنا إلى حزن عميق، وعين تدمع، وقلب ينزف، وأسى أبكم، وحيرة حيرى، ولسان أخرس، وقلم عاجز، ذلك أنه يرحمه الله قد جند كل طاقاته الإبداعية شعرا ونثرا مدافعا عن الحق الكويتي في كارثة غزو العراق له
سبق لي أن عرضت كتاب «حتى لا تكون فتنة» لغازي القصيبي ونشرت العرض قبل عدة سنوات، لكنني أجدني الآن في حاجة إلى إعادة كتابة العرض نفسه، وإعادة نشره في سياق هذا الملف، الذي ينشر في أعقاب رحيل القصيبي قبل شهور قليلة، لا لسبب ولكن لأن الفتنة كما يبدو مازالت مستمرة، ثم إن كثيرا من مواقف الجانب الآخر الذي يخاطبه القصيبي في ذلك الكتاب قد تغيرت، لا بسبب الكتاب بالضرورة، ولكن ربما بسبب ما كان الكتاب قد أشار إليه كمعطيات مستقبلية
لماذا الرحلة والكتابة عنها عند المرحوم أحمد السقاف؟ لا أدري. يا من تقرأ هذا المقال، هل لفتك وأنت تتصفح الكتاب الكبير للمقري التلمساني: «نفحُ الطِيْب في غصن أندلس الرطيب» البابان الكبيران اللذان استغرقا المجلدين الثاني والثالث، وفيهما عرض وتفصيل عن من رحل إلى الأندلس وعكسه من رحل منها إلى الشرق؟ أما أنا فنعم، فقد وقفت أمام هذا المدخل، فرأيت فيهما إشارة قوية إلى المعنى الكبير الرابط بين الأمة الواحدة، والحضارة المتصلة