العدد (705) - اصدار (8-2017)
تميزت الفلسفة الإسلامية في الأندلس بالتركيز على فكرة التوحد وفقاً لعبارة ابن باجة، أو الغربة أو الاغتراب بلغة اليوم. والاغتراب، وفقاً للفيلسوف الأندلسي الأول، لا يعني بالضرورة رحيل الفيلسوف عن مجتمعه، بل قد يعني في المقام الأول أن ينأى الفيلسوف بنفسه عن الاندماج الكامل في الحياة الاجتماعية وينصرف إلى ما يمليه العقل وحده. ولم تكن تلك الفكرة جديدة في تاريخ الفلسفة، فلها أصول عريقة، ولكن يبدو أن التركيز اشتد عليها في فلسفة الأندلس بسبب الاضطهاد الذي تعرض له الفلاسفة في المشرق وظل يهددها في الأندلس.
عندما فارقنا أمل دنقل في الحادي والعشرين من مايو 1983 أصابتني إثــر فقده صدمة هائلة أخرستني عن الكلام أو الكتابة عنه. فلم أستطع أن أكتب أو حتى أن أرتجل شيئاً عنه لخمسة أعوام على الأقل؛ فقد كانت الصدمة قاسية، وكان ألم الفقد موجعاً، وكنت أشعر بغياب نصفي عن نصفي، أو بغياب عقلي عن جسدي، فقد كان أمل هو المرآة التي أتوجه إليها كي أقف مجرداً من كل شيء إلا الشعور بالآمال، وأنا في حضرة أخ لم يجُد عليّ الزمان بمثله، ولاأزال أفتقده إلى اليوم، ولذلك كانت وطأة الفقد قاسية، وهي التي عاقتني بقدر ما أخرستني عن الكتابة عنه أو الكلام في رثائه؛ فمر التأبين الذي أقامه «التجمع»، وأنا مكتفٍ بالجلوس منصتاً لكلمات المشاركين، وكانت أبلغ الكلمات وأشدها إثارة للشجون كلمة المرحوم يوسف إدريس الذي كان يُكِنُّ لأمل دنقل محبة خالصة ووفاء صادقاً.
حلمتُ أني كنت أتجول في شارع ضيق طويل جداً، على جانبيه تمتد منازل فارعة في خط غير مقطوع، تشبه جدرانها جدران السجن وتشبه أبوابها أبوابه.
في يومياته المعنونة ﺑ «مساءات غير عاديّة بعيداً عن بوينس ﺁيرس»، يخبرنا لويس، الملّقب في كلّ أرجاء المعمور ﺑـ «الحكيم الشاعر على نهج أبي العلاء المعري»، أنه حل بمدينة مراكش سنة 1952 حلول العارف الذي أبصرها قبل أن يرتحل إليها، حينما كتب، بإيحاء من محيي الدين بن عربي، عن محنة ابن رشد في «كتاب الألف». أمّا وصوله الحقيقيّ إلى الحاضرة الحمراء، فكان بعد عقدين من ذلك التاريخ الأوّل، وتحديداً منتصف شهر مارس من العام1975 .
تمرُّ أوقاتٌ على الشاعر لا ينظم فيها القريض من خلال لسانه أو بنانه, بل يقطر به قلبه, وينزف منه كبده؛ لِما تحمله الحروف من أسىً وحسرةٍ وتفجُّعٍ ونُّدبة؛ ولهذا تجد هذا النوع من الشعر من أصدقِه قولاً, وأخلِصه غرضًا, وأشده تأثيرًا ووقعًا على القلوب.
من شباك الغرفة كنت أتمتّع بالنظر إلى الطبيعة الملوّنة بالأزرق، وأشعة شمس لا أراها، كانت مختبئة بين طيّات السّحاب البيض. الطقس لم يكن مثلجاً بل ربيعياً، مزدهراً. أتطلّع إلى السماء وأمواج السحاب تسبح فيها بهدوء كأنها تداعب النسيم، يهبط نظري إلى الشارع الهادئ الساكن؛ ظهرت امرأة من بعيد، بقي نظري يلاحقها، اقتربت، كنت مازلت أنظر إليها، لم يعكّر الشارع وجودها فيه، بل زاده رونقاً وتألقاً، رأيت نفسي تتوق إليها، أشرت بيدي ببعض الخجل، ردّت ودخلت البناء حيث أسكن، دقّت على الباب وكأني سمعت دقات قلبي، فتحته، دخلت ولم أدعها للدخول، لكني فوجئت وسررت، بل فرحت، وكيف أعبّر عن سروري؟ امرأة دخلت منزلي وأدخلت معها جمال الطبيعة وعطر الربيع وشفافية السحاب، لم تقل شيئاً، لم أقل أنا شيئاً، بقينا واقفين وجهاً إلى وجه.
توصلت بست عشرة قصة قصيرة، ينتمي كتابها إلى ثمانية بلدان عربية، بل وثمة أكثر من قصة من البلد الواحد (مصر والجزائر والمغرب)، ما يشي بمدى إقبال فئة الكتَّاب الشباب على كتابة القصة القصيرة، في الوقت الذي ارتمى فيها كثيرون، من أجيال مختلفة، في أحضان كتابة الرواية، لاعتبارات مختلفة، لا مجال هنا للتعرض لها.