العدد (696) - اصدار (11-2016)
كنت في العاشرة من عمري، عندما اكتشفت ديوان «الشوقيات» لأحمد شوقي ضمن مقتنيات أبي، وكان في طبعته الأولى التي صدرت عام 1898، وجاءت فيه إشارة شوقي إلى شعراء العربية الكبار الذين قرأ لهم واستوقفه شعرهم، وكان في ختامهم مهيار الديلمي. كان وقع الاسم غريبًا على سمعي، في حين أن بقية الأسماء كانت مألوفة ومتداولة مثل البحتري والمتنبي وأبي العلاء المعري. ثم التقيت باسم مهيار وشعره بعد ذلك بسنوات، وأنا أستمع إلى الموسيقار محمد عبد الوهاب يشدو بكلماته في قصيدة سلسة عذبة، من أبياتها:
شغلت طرق التفكير اللغوي وما يتشعب عنها من بحوث ثقافية بال دارسي الإنسانيات بشكل عام، وأثارت نتائجها العلمية - التي تخرج بين الحين والحين - إدهاشاً وغرابة مما جعلها محل نظر وجدل كبيرين؛ فقبلتها عقول ورفضتها أخر؛ وبين القبول والرفض تباينت الأحكام واطردت حتى غدت اللغة علماً مهما يفرض على الإنسان أن يتغيا بلوغ منتهاه، وإن عجز عن ذلك - والمرء يعجز لا محالة - وجب عليه أن يحصل على كفايته منه بمقدار يفرقه عن العجماوات إن كان من عامة الناس، وبمقدار يهيئه لسلامة التفكير والإبداع إن كان من خاصتهم.
خرج الحرف العربي من ضيق القومية والجغرافيا إلى رحابة الإنسانية والعالمية، حينما ارتبط مباشرة بالرسالة الإسلامية الخاتمة، وصار حرفاً رسمياً لحوالي ستين لغة من لغات الشعوب التي اعتنقت الإسلام، ورضيت بالقرآن الكريم كتاباً تردد آياته وسوره آناء الليل وأطراف النهار. ولعل أشهر تلك اللغاتِ اللغاتُ الإيرانية (كالفارسية والكردية والبلوتشية)، واللغات التركية (كالطاجيكية والأزبكية والتترية)، واللغات الإفريقية جنوب الصحراء (كالهوسا والفلاني والسواحلي)، علاوة على لغات أخرى كالأوردو والملايْوية، وأخرى كتبت بهذا الحرف في مرحلة تاريخية معينة، كالعثمانية والبولندية والبيلاروسية والهَرَرية والملغاشية، وقُوطية الموريسكيين المنقرضة المسماة الأعجمية أو ألخيميادو Aljamiado، وغيرها.
ما زال القرّاء العرب عازفين إلى يومنا هذا عن رواية «بندر شاه»، رغم إشارة مؤلّفها الطيّب صالح إلى احتفالها بالمعاناة التي كابدها راوي «موسم الهجرة إلى الشمال»، إثر انقطاعه عن القرية وتأثّره بمصطفى سعيد. وقد دلّ – فضلاً عن ذلك - على أنّه رصد في ثناياها مسيرة ذلك الراوي نفسه بعد رجوعه إلى الجنوب بحثاً عن زمنه الضائع. ولذلك أعرب عن خيبة أمله في قرّائه و نقّاده الذين زهدوا في تلك الرواية التي اعتبرها من أهمّ أعماله السرديّة.
«إنها اللغة التي تتحدث وليس المؤلف». هكذا أعلن الناقد الفرنسي رولان بارت في مقال مدوٍ نشره عام 1967 أعلن فيه أيضاً: «نحن لن نعرف أبداً (من يتكلم في النص)، لأن الكتابة هي تدمير لكل صوت ولكل نقطة أصل. فالكتابة هي المكان المحايد الذي تضيع فيه ذواتنا وهويتنا، بدءاً بهوية الجسد الذي يكتب». «النقد (الذي نرفضه هو ذلك الذي يختزل النص في مؤلفه) فيختزل عمل بودلير الفنان في فشل بودلير الإنسان، و(يرى في) عمل فان جوخ نتيجة لجنونه... ويتم (في هذا النقد المرفوض من بارت) تفسير أي عمل من خلال الرجل أو المرأة التي أنتجت هذا العمل، كما لو كان العمل دائما صوت شخص فرد، هو المؤلف».
لم تفاجئ اللجنة السويدية هذه المرة جمهور المتابعين، بإعلانها فوز الكاتبة البيلاروسية سفيتلانا ألكسييفيتش بجائزة نوبل للآداب لنسخة هذه السنة، فقد كانت من أبرز المرشحات لاقتناص المجد الأدبي، إلى جانب ثلة من الأدباء المرموقين كالياباني هاروكي موراكامي والكيني نكوجي واتيونغو والكاتب المسرحي النرويجي جون فوس. وقد اعتلت - على سبيل المثال - صدارة قائمة التكهنات في موقع التخمينات الشهير «لادبروكس»، أياماً قليلة فقط قبل إعلان النتيجة. وسوغت اللجنة اختيارها بتعدد الأصوات في كتاباتها، مما يعد معلماً للمعاناة والشجاعة في العصر الحالي.
«لست سيئا ياسيدي رغم أنه لاتنقصني الأسباب لذلك» بهذه الجملة انطلقت إحدى أفضل الروايات التي كُتبت في اللغة الإسبانية في القرن العشرين، التي نشرت في عام 1942 بقلم الحائز جائزة نوبل للأدب كاميلو خوسيه ثيلا، وقد تنبّأ ناشر «عائلة باسكوال دوارتي»، وهو عنوان هذه الرواية، أنه لن يبيع أكثر من اثنتي عشرة نسخة، ولكن بمرور الزمن علم بأنّ الرواية ذاتها أصبحت النص الأدبي الإسباني الأكثر ترجمةً بعد رواية ثيربانتس، دون كيخوتي دي لا مانتشا.
ما من مجال تدخلت المصادفة في صناعة بعض رموزه وأبطاله كما فعلت في الفنون التمثيلية، فهذه فتاة ترافق جارتها في مقابلة فنية كانت فيها على الهامش، فيحدث أن يتم رفض صاحبة الموعد والمبادرة، وتقبل الرفيقة لتصبح «سيدة المسرح العربي» نجمة متألقة في سماء المسرح العربي الفنانة القديرة سميحة أيوب، وشاب آخر يتبدل حاله بالمصادفة من موظف حسابات في «استديو مصر» إلى فتى الشاشة الأول، بطل أشهر أفلام السينما العربية، إنه نجم التمثيل السينمائي الراحل عماد حمدي.
انطلاقاً من افتراض أن النص الرحلي يسعى، فيما يسعى إليه، إلى تقديم صور عن الآخر، انطلاقاً من ذات الرحالة، ممّا نتج عنه استشفاف مجموعة من الاختلافات على مستويات عديدة: ثقافية وفكرية ولغوية وعقدية... إلخ، فاننا نبتغي في هذا المقال دراسة مكون السخرية في رحلة ابن فضلان.
كان محله المتواضع الذي يبيع الفواكه يقع أمام بيتي الخشبي العتيق. لست أدري متى أبصرته عيناي للمرة الأولى، مع أنه كان دائماً هناك يستطلع صحيفة جلبها معه من بلده، ولعل ذلك كان قبل ميلادي بفترة طويلة. كم بدا لي ذلك ردحاً طويلاً من الزمن!
كانت هدية أبي الأولى لي، إن لم تخني الذاكرة هي اسْوداد عيني من الضرب الذي عاقبني به، يوم أن كان عمري ست سنين. أما الأخيرة، فكانت زيارةً إلى طبيب الأسنان، كي يخلع أسناني. كنتُ في السادسة عشرة يومها. أنتِ أفضل من دونها، يا ديمي، كما كان يقول. في ما بعد، سيُجنّبكِ هذا بعضَ المشكلات، حينما تصبحين مُسنّة. إنها مجزرة حقيقية. ظللتُ أنزف أسبوعاً. لقد كان غريباً أن يخرج من فمي هذا الصديد، وكل هذه الأشياء. سأوافيكم بالتفاصيل...