العدد (679) - اصدار (6-2015)
في رمضان الفائت، وصلت إلى حارتي في ضاحية باريسية بعد منتصف الليل، عائدة من مطار شارل ديجول، بعد إقامتي شهرين تقريباً في تركيا، في مدن عدة، آخرها كانت مدينة مرسين، التي وصلت إليها قبل رمضان، وأقمتُ فيها أكثر من عشرة أيام. كان من حُسن حظي، كما أعتقد، أن أحضر شهر رمضان في بلدين مختلفين، في مدينة تركية ذات خصوصية، وفي باريس، المدينة التي أعيش فيها منذ أكثر من عشر سنوات، إلا أنني انتبهت للمرة الأولى، لما حصل لي ليلة وصولي.
هل الإحساس بالوطن يكون وقت الخطر، مثل التهديد بالحروب فقط؟ وارد جدّاً. وهل الإحساس بالوطن يكون في أزمنة اندلاع الثورات؟ من الممكن أيضاً. لكن قد يتفوق الإحساس السلمي بالوطن على أحاسيس القلق والخوف ويعيش أطول، ذلك الإحساس الذي يتكون في زمن طويل نسبيّاً، ويتخلق بهدوء دون حماسة انفعالية مؤقتة، حماسة يعقبها في كثير من الأحيان حنق على كل الأوضاع بسبب تردي الأحوال، ومن أكثر هذه الأحاسيس التي تذكرني بمعنى كلمة وطن، الإحساس الوجداني الطبيعي التراكمي لشهر رمضان في القاهرة وسط الأهل والأصدقاء قبل أكثر من ربع قرن وعلى مدى ربع قرن.
للقلوب في عشق الجمال دروب، أحوال ورحلات ومحن لا ينير ظلماتها سوى العشق لنور الكمال. وللأيام وجوهها التي يتقلب فيها القلب بين محبة وأيام عسر، شهور تمضي فلا يسمع فيها القلب سوى صوت الضجيج والزحام، لكنه يسير على درب الحياة على الأمل بلقاء الشهر الحبيب، شهر رمضان الذي يغسل عن الحياة وجهها القبيح، فتسمو القلوب في انتظار ملائكة السماء. ويعود للقلب طهره على أصوات تسابيح وقرآن يتلى في السماء والأرض.